جورج بتاي: إن ضحكت فهذا يعني أنك خائف


*عمار المأمون

دمشق- نشر نص “حكاية العين”، لأول مرة، باسم مستعار “لورد أوش” وأثار ضجة في الأوساط الأدبية، ولم يعرف اسم مؤلفه “جورج بتّاي” إلا بعد خمس سنوات من وفاته، حتى أن “رولان بارت” نفسه نشر في الجريدة التي كان يديرها بتّاي بعد وفاته بقليل مقالا طويلا بعنوان “مجاز العين” يناقش فيه الكتاب والتقنيات التي يتميز بها.

يقف النقاد محتارين أمام نص “حكاية العين” الذي كتبه الفرنسي جورج بتّاي، عام 1928، إذ ما زال إلى الآن يستدعي الجدل بوصفه إما نصا إباحيا مستوحى من كتابات الماركيز دي ساد، أم هو نص شعري- نثري يقدّم صيغة سردية جديدة توظف التقنيات المختلفة في سبيل اختبار قدرة اللغة على توظيف ما هو متخيّل مع ما هو واقعي، كل هذا ضمن إطار إباحي عالي الشهوانية يصل حدّ الوحشية، يقدّمه بتّاي على لسان الراوي وعلاقته مع من حوله من شخوص وأغراض.
مغامرات جنسية
“حكاية العين” يروي قصة مراهق ومغامراته الجنسية مع صديقتيه سيمون ومارسيل، فالأخيرة تنتحر شنقا بعد أن هربت مع المراهق من مشفى المجانين الذي أودعت به، لتستمرّ المغامرات الإباحية في إسبانيا بين سيمون والمراهق واللورد إدموند الذي يقوم برعايتهما ملبيا أثناء ذلك رغباته المرضيّة.
لا يمكن وصف الإباحية الهائلة التي يحويها النص، والطرق الغرائبية التي يستخدمها أبطاله لاستحضار اللذة، إلا أن المثير في الكتاب هو الذكر الدائم للعين، والوضعيات المختلفة التي تأخذها في علاقتها مع الأجساد.
حيث يتمّ حرفيا تبادلها بين أيدي الشخصيات بعد انتزاعها من وجه الكاهن، واستخدامها ضمن وضعيات مختلفة كلها تستدعي الحضور الإباحي.
العين لا تقع ضمن النص كغرض فقط، بل هي تتحول، ليصبح الشكل الدائري أشبه إلى نسق دلالي يحكم الأغراض التي تذكر ضمن النص، فالشمس والقمر والبيض وصفار البيض، كلها أغراض تحيل إلى العين.
بالإضافة إلى الرطوبة التي تحويها والتي تتنوع بتنوع المواضع التي تأخذها؛ فسماء إسبانيا تشبهها، وأحشاء الحصان أيضا، كل هذه الرطوبة المحيطة بالعين يتمّ تداولها ضمن السرد عبر أشكال مختلفة، تتخللها وضعيات الجسد وعلاقته مع هذه اللزوجة.
شكل النص على حدّ تعبير بارت دائريّ، أي أن كل شيء يتكرر، وقابل للعودة إلى نقطة البدء، محكوم بالشهوة التي تنطفئ وتشتعل بصورة “دورية”، فالعين ترى الماضي وتعيد إنتاجه، ثم تراقب ما حولها، لنعود ضمن السرد إلى ماضي الراوي، ومحاولة تبريره لما حدث معه، وعلاقته مع والده الأعمى.
أما القسم الأخير بعنوان “مخطط تتمة لحكاية العين” نرى السرد يتحوّل إلى ما يشابه المقاطع الشعرية، وعنوان كل مقطع أشبه بتلخيص لعنوان صورة فوتوغرافية تلتقطها العين، ثم يدخل التكنيك المسرحي عبر الحوار، كذلك نلاحظ ضمن كل نص ما يشبه التعليمات الإخراجية، التي تحدّد وضعية ماري، وكأننا أمام مراقب إخراجي يصف ما يحدث.
يشير بارت في كتابه “شذرات من خطاب في العشق” إلى جورج بتّاي، ويقتبس من أحد نصوصه، تحت عنوان “البذيء في العشق” وهذا ما نلاحظه في حكاية العين، فالموضوع يتجاوز الحب في سبيل النشوة الجسدية البحتة، واختبار وضعية الجسد وقدرته على استحضار اللذة في أماكن مختلفة.
فالألاعيب الإباحية، تتطوّر لنراها تحدث في كنيسة وفي حلبة مصارعة ثيران، ليُفاجَأ القارئ بما يراه أمامه، فنحن أمام صورة خيالية لما يمكن أن تصل إليه حدود البذاءة، فجثث الموتى لا تحمل أيّ عائق أمام الرغبة، بل إن سيمون تشعر بالعبث حين تنتحر مارسيل، إلا أن ذلك يزيد من رغبتها.
لذة الجسد
في حكاية العين اختبار للذّات الجسد، التي تتنوع من المشاهدة إلى المشاركة إلى الغَلمة الذاتية، وكأن بتّاي يتجاوز ما هو إباحيّ ليصل إلى حدود الغرائبية، ويتجلى ذلك في العناوين المختلفة التي يضعها للفصول، كحيوانات إباحية، ولطخة شمس، وقوائم ذباب.
“حكاية العين” رحلة هلوسة وجنون لا يمكن توقع نتائجها؛ فيها يختبر بتّاي حدود اللغة والجسد والشهوة على حدّ سواء، ويوظف أفكار فرويد عن الحياة والجنس والموت، كما أنه يوجه في البداية إنذارا للقارئ «إذا كنت تخاف كل شيء، اقرأ هذا الكتاب، ولكن قبل أن تفعل، أصغ إليّ: إن ضحكت فهذا يعني أنك خائف، فالكتاب على ما يتراءى لك، إنما هو جماد، هذا ممكن، ومع ذلك ماذا -وهذا افتراض جائر- لو كنت لا تجيد القراءة؟ أعليك أن تخشى؟ هل أنت وحدك؟ هل تشعر بالبرد؟ أم تدرك كم أن الإنسان “هو ذات نفسك” أبله؟ وعار؟».
تشكل “حكاية العين” وصدورها بالعربية عن “دار الجمل” صدمة للقارئ، وخصوصا أنه يُشار في مقالات نقدية عن النسخة العربية للنص، إلى أن المترجم ذو اسم وهمي “راجح مردان”، وكأن صدورها إحياء لذكرى بتّاي الذي كان ذا علاقة مع السورياليين كبريتون وإليوار، بالإضافة إلى اعتماده على أفكار فرويد ونيتشة في كتاباته اللاحقة.
______
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *