تاريخ الإنسانية الأسود: جريمة الإعدام حرقاً مورست تاريخياً تحت غطاء ديني




حورية الظل *




    ما فعلته داعش بالطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي تم إعدامه حرقا، وحشية مفرطة رمى من ورائها التنظيم الداعشي إلى عرض عضلاته، وتبليغ رسالة مفادها التخويف والترهيب، وذلك من خلال إضرام النيران المؤججة بالبنزين في جسد شخص محبوس في قفص. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا غير التنظيم الداعشي أسلوبه القديم في الإعدامات التي تم تسويقها من خلال مقاطع الفيديو والصور للإبلاغ عن بطشه ووحشيته مثل قطع الرؤوس والرمي من شاهق والإعدام الجماعي وغير ذلك؟

في الحقيقة إن طرق القتل التي يتبعها التنظيم ليست موضة جديدة ابتدعتها داعش، لأن جردنا لتاريخ الإعدامات يجعلنا نقف على قيام أنظمة وجماعات وأفراد متطرفين وظلاميين بما هو ألعن من ذلك، وفي هذا المقال سأكتفي بتناول تطبيق حكم الإعدام حرقا عبر التاريخ، شرقاً وغرباً، وسأتطرق، لبعض الأمثلة عبر مساءلة الأحداث التي أودت بالكثيرين عبر حرقهم أحياء، ولمن قام بإصدار الأحكام ومن هم المستهدفون، وهل المتهمون مذنبون فعلاً حتى يستحقوا هذه الموتة البشعة، أم الذين يصدرون الأحكام ويطبقونها هم من المتطرفين والإرهابيين والظلاميين وتقودهم أطماعهم فيفعلون ذلك حفاظا على مصالحهم؟.

الإعدام حرقاً في الغرب تم إعدام الساحرات حرقا في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للاعتقاد السائد وقتها بأنهن مصدر الشرور، لأن السحر في معتقدات تلك الفترة يؤدي إلى نشر الأمراض والأوبئة.

وقد لفقت لنساء كثيرات تهم السحر بناء على الشبهة والوشاية في غالب الأحيان، فأُرسلت أعداد لا تحصى منهنّ إلى المحرقة ظلما وعدوانا، ومن الغريب أن 120 من الأشخاص أعدموا حرقا عام 1596م لأن رئيس أساقفة إحدى الكنائس اتهمهم بأنهم بسحرهم تسببوا في برودة الجو لمدة طويلة.

وقامت محكمة القضاء المدني بأوروبا بإرسال خمسين ألف امرأة إلى المحرقة بتهمة السحر أما في ألمانيا فقد أحرق أتباع مارتن لوثر 25 ألف امرأة، وكل ذلك كان من أجل حفاظ الكنيسة على مصالحها.

إن عصور الظلام التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى جعلت جرائم رجال الدين لا تعد ولا تحد، وكل ما ارتكبوه من فظائع كان من أجل استمرارية نفوذهم الذي استماتوا للحفاظ عليه، فبخسوا العلم ورأوا فيه صرفا للناس عن أمور دينهم.

وكانوا يعمدون إلى حرق كل من اختلف معهم متهمين إياه بالهرطقة، ولكي يبرروا أعمالهم أمام العامة أحرقوا الكثيرين باسم الدين وبمبرر قطع دابر من يمسّوه بسوء، وتم ذلك علنا وأمام الملأ، فكانت الجماهير تتصور بأن ما يقوم به رجال الدين هو الصواب، وأنهم بأحكامهم القاسية في حق المختلفين معهم ينفذون إرادة الله ويحافظون على الدين من المهرطقين، لكن الحقيقة التي يمكن قولها دون أدنى شك هي: إن ما قاموا به مجرد تطرف أصولي مارسته الكنيسة في حق الداعين للإصلاح الديني والمتنورين الذين كشفوا ما يمارسه رجال الدين من تجاوزات، فتمت معاقبتهم بحرقهم أحياء لإسكات أصواتهم حتى لا يستطيعوا توصيل رسالتهم للجماهير، وبالنتيجة تبقى الأمور على حالها ويظل رجال الدين متمتعين بامتيازات لا تحصى.

لقد وسمت هذه العصور بجريمة الحرق النكراء حيث أعدم بهذه الطريقة عشرات الألوف، ومن الشخصيات التي مورس في حقها عقاب الحرق، المُصلح التشيكي جان هوس، وكان راهبا تقيا ومتنورا وعميدا لجامعة براغ في بداية القرن الخامس عشر، والتهمة الموجهة إليه تلخصت في كونه ادعى بأن الكنيسة خرجت على مبادئ الدين، وأن القساوسة أضحوا يخدمون مصالحهم الشخصية بدل الالتفات لمصالح رعاياهم فاتهمته الكنيسة الكاثوليكية بالهرطقة وتم الحكم عليه بالموت حرقا، وأيضا لقي الفيلسوف ميشيل سيرفيه نفس المصير فأعدم حرقا لاتهامه بالتشكيك في عقيدة التثليث، كما تم إحراق القديسة جان دارك وكانت تُلقّب بعذراء أورليان وهي شخصية شعبية في فرنسا، وقد ادعت بأنها رأت الله في منامها يأمرها بأن تدعم الملك شارل السابع واستعادة فرنسا من يد الإنجليز، وقادت عدة معارك انتصرت فيها على الإنجليز الذين قبضوا عليها بعد ذلك وحاكموها بالعصيان والهرطقة وأعدمت حرقا سنة 1431 وسنها تسعة عشر عاما.

وقريبا من منتصف القرن العشرين، وبالضبط مع نهاية الحرب العالمية الثانية، دفعت الأطماع الاستعمارية أميركا إلى شن هجوم نووي على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بقنبلتين نوويتين لرفض اليابان الاستسلام لأمريكا استسلاما كاملا ودون شروط، فخلف الهجوم 260 ألف ضحية ماتوا حرقا بالانفجار أو اختناقا بالغاز السام وبالإشعاعات.

ما يلاحظ، أن هذه الجرائم والإعدامات الناتجة عن أحكام ظالمة تمت في غالبيتها تحت غطاء ديني وأنها اعتُبرت انتصارا للدين وحماية له، رغم كونها كانت من أجل الحفاظ على مصالح وامتيازات دنيوية في العصور المظلمة بالغرب أو لأهداف استعمارية محضة في العصر الحديث.

إحراق المسلمين

عبر التاريخ أيضا مورس الحرق في حق المسلمين، وقصة محاكم التفتيش التي نصبتها لهم إسبانيا ما زالت حية إلى اليوم، وتعتبر من أكثر الفترات دموية في تاريخها، حيث عمدت هذه الأخيرة إلى تطهير البلاد من الإسلام بعدما استولى الإسبان على الأندلس بعد انتصارهم على المسلمين في العديد من المعارك، فتم حرق الكتب المكتوبة باللغة العربية، وفُرض التنصير الإجباري واعتناق الكاثوليكية عليهم، ومن ثبت إسلامه حُكم عليه بالحرق، ونستشهد على فظاعة محاكم التفتيش بالأندلس بما جاء في كتاب المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون «حضارة العرب في الأندلس» حيث يقول: «يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع». ونظرا للعدد الكبير من المسلمين في الأندلس فقد تم طرد الذين لم يقتلوا جماعيا إلى البلدان العربية المجاورة كالمغرب والجزائر وتونس، لاستئصالهم من مكان كان بلدهم الأصلي لقرون عدة، ولم يتم إلغاء محاكم التفتيش إلا بعد أربعة قرون على سقوط الأندلس، وتم ذلك بعد إرسال نابليون لحملته على إسبانيا فأصدر مرسوما يلغي دواوين محاكم التفتيش بها سنة 1808م.

أما في البوسنة الشرقية فقد تعرض المسلمون فيها لمذبحة رهيبة بين 1941 و1942 إبان الحرب العالمية الثانية حيث أعطى الزعيم الصربي ميخائيلوفيتش أوامره لتابعيه بذبحهم، أو حرقهم وإغراقهم فوصل عدد الضحايا لمئة وخمسين ألف مسلم.

والكثير من الأدباء والمفكرين والمتصوفة المسلمين أيضا أُعدموا بطرق شتى، وفي الغالب كانت التهمة الكفر والزندقة، لكن من الذين أعدموا حرقا، ابن المقفع وهو أيضا أعدم بتهمة الزندقة التي برأه منها أغلب الذين جاؤوا بعده.

وكان صاحب علم واسع، ملما بالثقافة العربية والفارسية واليونانية والهندية، وأخلاقه كانت كريمة ومن أقواله: «ابذل لصديقك دمك ومالك»، ونقل إلى العربية كليلة ودمنة وله عدة مؤلفات تخبر عن علمه الواسع، وبين المؤرخين خلاف على سبب إعدامه حرقا من طرف معاوية بن يزيد ابن المهلب ابن أبي صفرة وهو والي البصرة أثناء حكم الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور، وأعدم وهو في السادسة والثلاثين من عمره.

وفي الوقت الراهن قتل الكثير من مسلمي بورما نتيجة سياسة التطهير العرقي التي تنهجها جماعات بوذية متطرفة تحت سمع ونظر الحكومة، وقد تعرضوا عبر التاريخ للاضطهاد لأسباب دينية، فأجبرهم الملك بايوانغ 1550 – 1589م على تغيير دينهم إلى البوذية بالقوة، الأمر الذي يذكر بمحاكم التفتيش الإسبانية، وفي ظل الحكم البريطاني أيضا ازدادت أعمال العنف ضد المسلمين باعتبارهم أجانب، وتواصل التصعيد وأعمال العنف بين البوذيين والمسلمين، ووصلت عملية الإبادة والتطهير العرقي مداها سنة 2012 مع تصريح رئيس مينامار ثين سين بوجوب طرد مسلمي الروهينغيا من البلاد فاحتدت الاشتباكات بين مسلمي بورما والبوذيين المتواطئين مع العسكر، بإقليم أركان ببورما حيث الغالبية المسلمة هناك، فقُتل الكثير من المسلمين بطريقة وحشية ومنهم من يتم القضاء عليهم بإضرام النار في أجسادهم وهم أحياء أو يمارس القتل الجماعي في حقهم وفي أخف الأحوال يتم تشريدهم.

وآخر الإعدامات حرقا تلك التي قام بها تنظيم الدولة الإسلامية داعش في حق الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي نفذ في حقه الإعدام حرقا في قفص بطريقة هوليوودية.

الأمر الذي جعل داعش تحوز الاهتمام الإعلامي لكن بالمقابل خسرت التعاطف معها وألبت الرأي العالمي ضدها، وقد أجمع العلماء المسلمون على استنكار فعلتهم هذه، لأن حد الحرق مرفوض في الشرع، ولأن الله سبحانه وتعالى وحده من يقوم بالعقاب بنار جهنم، فتكون داعش بإعدامها للطيار الأردني حرقا قد انضمت إلى الأنظمة الأكثر تطرفا وظلامية ودموية عبر التاريخ البشري، والذي عرف سفاحين وظلاميين وإرهابيين بلا عدد، لا يرضي دمويتهم وأطماعهم إلا إنزال أقصى العقوبات بمخالفيهم.


* كاتبة من المغرب
( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *