على خُطى العمالقة


* ناصر سالم المقرحي

( ثقافات )

تفتقت موهبة زياد الرحباني , وهو ابن ضلعي المُثلث الرحباني , مُبكراً , حيثُ نشأ في ظل أجواء موسيقية غامرة , ورغم تشبعه بالمُنجز الرحباني كموسيقى وكمسرح إلا أنهُ استطاع أن يتحرر من أسار هذا المنجز أيضاً مُبكراً ويُفلت من هيمنته دون أن يُعلن قطيعته معه , وكان لإتقانه العزف على آلتين موسيقيتين مختلفتين أبان بداياته أو لنقُل أنهما آلتين تنتميان إلى حضارتين مختلفتين فالبزق الذي ينطق بروح الشرق بعد أن ورثه مُباشرة عن أبيه عاصي , مُقابل البيانو الناطق الرسمي والناقل الشرعي لمشاعر أو روح الغرب , حيثُ درسهُ بعمق بالإضافة لدراسته لعلوم الموسيقى الغربية بصفة عامة , كان لذلك الأثر الفعال في خطّ مسيرته الفنية وشق طريقه أو وضع بذرة طريقته وأسلوبه الموسيقي والمسرحي الذي عُرف بهما فيما بعد , ورغم نشوئه في بيئة تقليدية وتلقيه لتكوين كلاسيكي في إطار الدائرة الرحبانية باعتباره سليلاً لها , فإنهُ لم يكتفي بذلك التكوين الجاهز بل أضاف إليه وكثيراً ما انحرف عنهُ إلى أفاق أُخرى واسعة , سوى أن هذا التكوين والأساس الفني لا يلبث أحياناً أن يظهر ويطل برأسه من وراء تلك النزعة التجريبية التي طبعت أعمال زياد ويأخذ مكانه في منظومة التمرد التي انتهجها , وكان للرعاية الحقة التي تلقاها من والديه بعد اكتشاف ميوله وتفتح موهبته والتنبه إليها , الأهمية الكُبرى في أن تتنفس هذه الموهبة بشيء من الحرية , إذ تعهد عاصي هذه النبتة بالعناية والصقل والتوجيه ودونما ممارسة أي نوع من الوصاية والإملاء والقسر والفرض لنمط مُعين , وظهر أثر تلك التربية الموسيقية وهواء الحرية التي تنفسته الموهبة في العمل الأول لها وهو نص مسرحية (( سهرية )) الذي وإن شابهُ بعض التأُثر المباشر بالتجربة الرحبانية – وذاك أمر طبيعي – من الناحيتين الإذاعية والمسرحية , فإن الموسيقى في تلك المسرحية أفصحت عن ولادة مُبكرة لموهبة مُغايرة , حيثُ تم اللعب على عدة اتجاهات وأساليب ومزج لعدة ألوان ونكهات في طبق واحد فمن الفلكلور الشرقي أخذت قليلاً ومن النفس الشرقي في موسيقى الرحابنة استمدت الأقل ومن ألحان فيلمون وهبي أخذت أقل من القليل إلى جانب الخلفية الشخصية للفنان زياد , وهو الطابع الذي ميّز ألحان زياد وطغى على جملة لحنهُ الأول لفيروز الذي أدتهُ في مسرحية المحطة العام 1973م وهو (( سألوني الناس عنك يا حبيبي ))
هذا وبرز التنوع في ألحان زياد لفيروز ومرّ بمراحل عدة قبل أن يستوي وينضج الأسلوب الخاص ففي هذا السياق مرت تجربة زياد مع التلحين لصاحبة الصوت الملائكي والرنيم الحريري بأطوار عدة نذكر منها مرحلة أغاني (( قديش كان في ناس )) و ((حبّو بعضُن )) و (( نطرونا كثير عا موقف دارينا )) التي ظهرت ما بين عامي 1973 و1975 من القرن الماضي , ثُم مع ألحان أغاني (( وحدُن بيبقوا مثل زهر البيلسان )) و (( أنا عندي حنين )) و (( بعثّلك )) و (( حبيتك تا نسيت النوم )) العام 1979م , ثُم شهدت التجربة انعطافة أُخرى تمثلت في الجانب المسرحي مع مسرحيات (( نزل السرور )) و (( بالنسبة لبكرا شو )) حيثُ برزت بقوة خاصية السُخرية , سواء كان ذلك على مستوى الموسيقى أوالنص أو الأداء , وهُنا يمكن أن نُلاحظ تلك السُخرية اللاذعة من الأوضاع القائمة والكوميديا الصادقة في أغاني مثل (( أنا اللي عليكي مشتاق )) و (( عايشة وحدا بلاك )) بدأ هذا مع بدايات النصف الثاني من عقد السبعينيات .
ومع إطلالة عقد الثمانينيات قدّم زياد مسرحية (( فيلم أمريكي طويل )) وستتخذ التجربة منذُ الآن مساراً آخراً بتأثر صاحبها بموسيقى الجاز ذات الأُصول الأفريقية أو موسيقى الطبول والحركة , والتي قام بتوظيفها وتطويعها لرؤيته الفنية , واكتشافه للمساحات المشتركة بينها وبين الموسيقى العربية , حيثُ غنت لهُ فيروز لحني (( من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج كنا سوا )) و (( سفينتي بانتظاري )) وقدّم أيضاً صحبة الفنان سامي حوّاط ألبوم (( أنا مش كافر )) تلك الأُغنية التي فيها من السخرية من القدر والتفلسف والتأمُل بقدر ما فيه من اختزال وتجديد موسيقيّ , وكادت لجرأتها ولوضوح كلماتها التي تقول بعض مقاطعها أو مطلعها تحديداً , أنا مش كافر , بس الجوع كافر , أنا مش كافر , بس المرض كافر , أن تجُر عليه سخط المحافظين والمُتدينين المؤمنين بالقضاء والقدر بوصف الإنسان – حسب الأُغنية – من أنهُ غير مسئول عن أفعاله , خاصة الشريرة منها , والتي تدفعه إلى أتيانها دوافع أُخرى أقوى من إرادته , أو أن الإنسان ليس كافراً بطبيعته وليس جاحداً بفطرته وهو كائن خيّر لولا أنهُ خُلق في كبد , وأن ما يجعله كافراً هو الجوع والمرض وما يدفعه لارتكاب المعاصي هو المعاناة .
معرفتي فيك وخليك بالبيت و زعلي طوّل أنا وياك , هي ألحان زياد التي أعطت للصوت الفيروزي مساحات أُخرى للتحليق ورسمت أمامه أماد فسيحة وأكتشف معها حساسيات وأدوات جديدة إلى الحد الذي أثار حفيظة بعض التقليديين ممن تربوا على ذبذبات هذا الصوت , الذين من جهتهم قاموا بوضعه داخل الإطار الرحباني وخافوا عليه من الأنحراف والخروج عن هذا الإطار المُقدس , مفترضين أو متوهمين أن ألحان زياد الثورية والمتمردة على الأُطر الجاهزة قد تسرق منهم فيروز التي يعرفونها وتآلفوا مع حيوية صوتها إلى الأبد .
سوى أن المؤمنين بحتمية التطور وجدوى التجريب هُم من تقبّلوا دون محاذير هذا الأنحراف الكبير الذي فرضتهُ ظروف التطور , عن الخط المرسوم ورأوا فيه إضافة إلى الإرث الفيروز وانطلاقة مُغايرة وليس تهديداً بسقوطه أو موته أوانتهاء صلاحية هذه المؤسسة العريقة لا سيما بعد سقوط عمودين أساسيين من أعمدتها .
ثُم يمضي زياد إلى أبعد من ذلك مع الصوت الفيروزي فيُقدم من خلاله أغنية (( مش كاين هيك تكون )) التي حملت إيقاعاتها توقيعات جسدية راقصة , ُثم أُغنية (( تلفن عياش )) التي جاءت على ذات النمط أيضاً , وأُغنية (( ولا كيف )) و (( ضاق خلقي يا صبي )) التي أنزلت فيروز عن عرشها الكلاسيكي لتضعها في قلب عالم زياد الساخر والعبثي وتُسبغ على أدائها روح الجُرأة والإقدام والتمرد , ذلك أن كلماتها أكثر من جريئة حتى أن البعض اعتبر أنها لا تتناسب مع قامة أو سن فيروز وثار حولها لغط كثير بين مؤيد ومُعارض لها , وقبلهُما لحّن (( عودك رنّان )) و (( كيفك أنت )) هذا عدا عن التوزيع الموسيقي الحديث حسب رؤية زياد وبأدوات موسيقية أُخرى لأغاني قديمة مثل إعادة توزيع أغاني (( نحن والقمر جيران )) و ((وبحبك ما بعرف كيف )) و (( حبيتك تا نسيت النوم )) وغيرها , الأمر الذي أضاف لها حيوية وائتلاقاً وزادها لمعاناً إلى لمعانها .
أما الضلع الآخر الذي شكّل شخصية زياد الفنية وبلورها فهو المسرح بل يكاد يُجزم المتتبع لمجريات الأُمور أن جمهور مسرح زياد أوسع من جمهور موسيقاه التي يمكننا أن ننعتها بأنها موسيقى ثورية هادفة حاملة لمضمون مُقاوم , وأن الطرب يقع في آخِر قائمة اهتماماتها .
الإنتاج المسرحي بدأ كما سبق الحديث مع مسرحية (( سهرية )) العام 1973م ليتواصل مع مسرحيات (( نزل السرور )) و (( بالنسبة لبُكرا شو )) و (( فيلم أمريكي طويل )) و (( شي فاشل )) و (( بخصوص الكرامة والشعب العنيد )) و (( لولا فُسحة الأمل )) التي توقّف بعدها الإنتاج المسرحي العام 1994م .
وفي حين يختار بعض الفنانين الوقوف على بُعد خطوات من موضوع العمل أو الحدث كأن يمر عليه زمناً طويل قبل أن يتم استيعابه ووضعهُ في سياقه التاريخي وموقعهُ الزمني ومُقارنته بأحداث مماثلة حتى يتم تناوله فنياً أو أدبياً كما في الرواية مثلاً , بخلاف ذلك فضّل زياد التعبير من وسط الموضوع من داخله تماماً ومن قلب الدوامة عندما تناول في أعماله المسرحية , الحرب الأهلية اللبنانية بكُل بشاعتها وتداعياتها المأساوية على الإنسان اللبناني عامة , وفي كل ذلك كان ناقداً وفاضحاً ومُحرِضاً , وبِدفق لا مثيل له , ونتيجة اجتهاده وكما في موسيقاه كانت لهُ لٌغتهٌ المسرحية الخاصة التي هضمت الإرث الفني السابق لها قبل أن تنطلق من حيثُ توقف لتُضيف إليه وتطورهُ على مستوى النص والتمثيل والإخراج , غير أن الخسارة الكُبرى هي أن زياد وكما فعل الرحابنة من قبله مع بعض مسرحياتهم الناجحة لم يُوثق هذه الأعمال بالصورة المتحركة فضاعت ولم يبقى منها سوى تسجيلات صوتية , والخسارة هُنا لا تخُص زياد وحده ولا تنحصر في شخصه باعتبار أن الأعمال إرث أنساني مشترك يخص الإنسانية كافة , كان ينبغي المحافظة عليه من الضياع , حتى وإن كانت هذه الأعمال ابنة بيئتها وإفراز واقع مُعين وشرط تاريخي قد لا يتكرر في مكان وزمان أخر .
الضلع الثالث الذي شكّل هرم هذه التجربة الفريدة بشهادة النُقاد اللبنانيين والعرب , هو النشاط الإذاعي , حيثُ قدّم زياد طيلة سنوات برامج إذاعية هادفة صُحبة نُخبة من المُمثلين , مع برامجه التي احتضنتها إذاعة صوت الشعب مثل برنامج (( بعدنا طيبين )) و (( العقلُ زينة )) التي اجتذبت مستمعين كُثر , وغير بعيد عن توجههُ العام الذي طبع شخصيته على ما يبدو وهو طابع السُخرية المريرة والتحريض والنقد الجارح للسائد , ونُلاحظ هُنا أنها ذات الخصائص التي طبعت المسرح الرحباني ولكن بدرجة أعلى وبصدامية أكبر , حيثُ عالج في برامجه سالفة الذكر يوميات الحرب اللبنانية الأهلية تارة بشكل ساخر مرير وتارة بشكل تحريضي ثائر , ومثلما طبّق هذا الطابع على المسرح عمد إلى تطبيقه على برامجه سواء في كتابة نصوصها أو في فنون إلقاء هذه النصوص وتمثيلها , حتى أن هذا الإرث الإذاعي رغم أن صاحبه لم يتلقى أي تأهيل أكاديمي قبل أن يُنجزهُ , يصلح اليوم كمادة للتدريس في معاهد ومراكز الفنون الإذاعية .
وكتب زياد المقالة والمقالة الساخرة والقصيدة والقصيدة العامية وفي جُل ما كتب ضخﹶ جرعة من السخرية والتهكم ومرر شيئاً من روحهُ العابثة والقلقة .
ويعود بعض الحُب والإعجاب الذي يكُنه الناس لزياد , إلى حُبهم للفنانة الكبيرة فيروز وتقديرهم للتجربة الرحبانية التي شكّلت ظاهرة مستقلة من الصعب أن تتكرر في الموسيقى والغناء العربي الحديث .
وفي كل ما أنتج زياد من ألحان ونصوص وضع نُصب عينيه هدف أن يتخلص من تأثيرات المؤسسة الرحبانية والتملص من ظلالها الكثيفة لصالح منجزه الشخصي , لا سيما وأنهُ كان قريباً منها كثيراً , وأراد أن يُشار إليه وإلى أعماله دن العودةة إلى هذا المُنجز , وهذا ما يُفسر انفصاله عن العائلة مُبكراً وإعلان استقلاليته وهو ما يندرج في إطار روح التمرد والتململ التي سكنتهُ وسكنت أعماله الكثيرة فهل نجح في ذلك أم أنهُ أعاد إنتاج ما سبق أن اكتمل ؟ هل أضاف إليه , أم من حيثُ لا يدري وقع في فخ التكرار ؟ , وهُنا القارئ هو المعني بالإجابة على هذا السؤال . 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *