منى شكري**
في ظل ما نشهده حالياً من تجاوزات ترتكبها جماعات متشددة باسم الإسلام وصلت حد استباحة الدماء والأموال مستندة إلى نصوص تراثية “معتبرة” تكاد تكون محل إجماع، تعالت الأصوات المطالبة بإعادة قراءة هذه النصوص ومراجعتها على أسس جديدة.
وفي هذا السياق، يأتي كتاب “شفاء الذمم من اتهامات المسلمين للنبي الأعظم” للمفكر السوداني النيل عبد القادر أبو قرون، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013، والذي يعد امتداداً لمراجعاته الجريئة السابقة التي أثير حولها الكثير من الجدل مثل: كلية الإنسان، الإيمان بمحمد، الإسلام والدولة، مراجعات في الفكر الإسلامي.
في مقدمة الكتاب، الذي يقع في 172 صفحة، يعترف أبو قرون بالفضل الكبير للمراجع الدينية الإسلامية وكتب الصحاح في تدوين السنة والأحاديث والتاريخ الإسلامي؛ ولكنه يستهجن “إسباغ القداسة” على كل ما ورد فيها وقبول ما يطعن منها في عصمة النبي أو يسيء إليه.
وبهذا المنطق، يؤسس أبو قرون طرحه في هذا الكتاب على رفع القداسة المطلقة عن كل ما عليه السلف أو إعطائهم العصمة أو تحريم نقده ورفض تغيير ما لا يصلح منه إلغاءٌ للعقل وتحجير على الله بوقف فضله عليهم، مؤكداً أن لا عبرة بما كان عليه السلف إذا جاؤوا بما يخالف كتاب الله وعصمة الرسل صلوات الله عليهم؛ “فالفهم غير مقدس والسلف ليسوا معصومين”، وفق قوله.
ويشدد أبو قرون على أن التعصب لكل ما جاء به السابقون هو المفضي إلى العنف لا إلى السلام الذي هو الغاية من الرسالات. “ومن هنا، كان وجوباً إعادة النظر فيما وجدنا عليه آباءنا في ما نسب إلى الذات الشريفة المحمدية من تهم؛ والمرجعية في ذلك هي ما أنزل الله وشخص النبي الكريم الذي فضله الله لا على من كان في عصره فقط، بل على الخلق أجمعين”.
ويتابع أن المصادر الإسلامية حملت ما لا يمكن السكوت عليه من “تهم” في حق الرسول الكريم؛ وهو ما يحاول تفنيده من خلال إعادة قراءته لتسع عشرة قضية في هذا السياق كأنها أمر من أمور الدين يجب أخذها كما هي دون سؤال أو تمحيص بحجة أنها في المصادر الإسلامية!
تهمة صلاة الرسول على منافق!
في مسألة “الاتهام بالصلاة على منافق”، يقول أبو قرون إن كتب الحديث تذكر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّن عبد الله بن سلول بثوبه وصلى عليه، وأن عمر بن الخطاب حاول أن يثنيه عن ذلك بحجة “إنه منافق”. كما يرد في سياق تفسير آية ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا…﴾
وفي هذا، كما يرى أبو قرون، “تحقير” لفعل النبي وإسناد الخطأ إليه؛ بل مخالفته لأمر ربه وإخفاقه في أداء الرسالة أو أنّ عمر أدرى وأقوى منه في الحق وأنّ الله يؤيده ويعاتب رسوله لمخالفته!! بمعنى أنّ عمر أجدر منه كما يقولون وأعرف بأداء الرسالة على الوجه الصحيح!!
اتهام بالقرين الشيطان
وبشأن ما ورد من “اتهام بالقرين الشيطان”، يتساءل المؤلف كيف يتفق حديث أن للنبي شيطاناً أعانه الله عليه فأسلم مع قول الله تعالى ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ…﴾ وقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وقوله تعالى في إقرار الشيطـان بـذلك ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾… “وهذه الآيات خاصة بالذين أُرسل إليهم النبي- صلى الله عليه وسلم- ليبلغهم ذلك فهل يكون هو عند الله أقل مقاماً عن الذين أُرسِل إليهم ليكون له شيطان أعانه الله عليه حتى يسلم؟!!”
العبوس في وجه أعمى
وفي مسألة “الاتهام بالعبوس في وجه أعمى”، ينكر أبو قرون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عبس في وجه أعمى لا يرى، أو يتلهى عنه بتصدّيه لكافر لم يسلم بعد كيف لا وهو من بعث ليتمم صالح الأخلاق. ويمضي المفكر في البرهنة على رأيه بقوله: إن النبي- صلى الله عليه وسلم كان عنده أحد الكفرة- قيل هو أبي بن خلف وقيل عتبة بن ربيعة، يريد النبي له أن يتزكى بالإسلام يخرج عن ظلمات الشرك، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا أن مال بكليته إلى ذلك الأعمى الذي جاء يسعى إليه في خشية من الله. فغضب ذلك الكافر كما عبس وتولى وأدبر مستغنياً عن هذا الذي يفضل الأعمى عليه.
وينوه أبو قرون إلى أن ما جاء في تفسير الطبري يخالف ما تقدم من تفسير، حيث يورد الطبري: “أقبل ابن أم مكتوم والنبي – صلى الله عليه وسلم- مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من ورائهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد؛ فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية”!
ويتابع أبو قرون إن هذا التصرف لا ينم عن عظيم الأخلاق التي مدحه الله بها من خلقه في قوله تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم”، فذهبوا في تفسيرهم إلى اختلاق قصة لا وجود لها “حتى بدت الكراهة..”، ولا دليل لهم على هذا، فمن الذي شهد لهم بأنه رأى الكراهة على وجه رسول الله؟ الأعمى أم الكافر، أم أن المفسر كان حاضرا للواقعة؟!
إن هذا التفسير المورث، وفق أبو قرون، يقول عن أحب الخلق إلى الله تعالى أن الله بعثه برسالة اختصه بها فتصرف بعكس ما أرسله الله به. ورغم أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق فلما جاءه من يسأله عما بعث به قابله بسوء أخلاق حيث عبس في وجهه وأعرض وتولى عنه! وحاشا لله أن يوصف رسول الله بالعبوس في وجه المساكين وسوء الخلق ليكون خطؤه أساسيا في تبليغ الرسالة وهو العمل بعكس ما بعث به فتنتفي طاعته لله الذي جعل طاعته طاعته.
نطق الشيطان على لسانه
وفي مسألة “الاتهام بنطق الشيطان على لسانه”، يتساءل أبو قرون: كيف يهرب الشيطان من عمر بن الخطاب ويعترض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا اعتقدنا صحة الحديثين اللذين يتناولان هذين الأمرين فمن يكون المؤيد من الله؟ الذي يهرب الشيطان من طريقه أم الذي يعترضه في صلاته ويقاتله؟ وقالوا إن مع النبي شيطاناً كافراً حين أرسله الله ولكن الله أعانه عليه فأسلم فلا يأمره إلا بخير!! يعني أنه يتلقى الأمر بالخير من شيطان أسلم!!”.
اتهامه بالهذيان!
ثم يقول المؤلف في قضية أخرى وهي اتهام الرسول بأنه كان يهجر: جاء في البخاري “لما اشتد بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال “ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده” قال عمر إن النَّبي- صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط قال الرسول “قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع” فخرج بن عباس يقول “إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه”.
ويتابع المفكر مستنكراً: “كيف يمكن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالهذيان وغياب العقل”، معلقاً على الحديث سالف الذكر: “إذا اعتقدنا بصحة هذا الحديث وأنّه غير مدسوس واعتقدنا صحة نسبته لعمر فماذا أبقينا لعمر من الإسلام؟ فلا يستقيم إسلام أحد مع معارضته للنبي ورفض أوامره واتهامه في عقله!”.
اتهامه بالطواف على النساء!
كما يستنكر المفكر أبو قرون ما جاء في سنن أبي داوود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه في غسل واحد، قائلاً:
وهذا يعني أنه لا يغتسل بعد أن يقضي حاجته من إحداهن، فيذهب إلى الأخرى دون غسل، وهو القائل “… والنظافة تدعو إلى الإيمان…”، يقول أبو قرون: “تصف ألسنتهم الكذب، إذ جعلوا وقت قيامه لربه طوافاً على نسائه ليكون فعله مخالفاً لأمر الله، حيث أمره بقيام الليل إلا قليلاً، حيث يقول الله تعالى: “إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه”، فمن أصدق قولاً؟ وماذا يخدم هذا الحديث في الدعوة إلى الله وصورة الإسلام؟! والإجابة، وفق أبي قرون هي اتهام للنبي بغير حق ومادة للمستهزئين بالنبي الكريم!
الاتهام بتخريب موسم النخيل
ثم ينتقل أبو قرون إلى مسألة “الاتهام بتخريب موسم النخيل” التي وردت في صحيح مسلم: “… أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم قالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
ويعلق على هذا الحديث قائلاً: فالاتهام في هذا الحديث هو أنّ النبي – صلى الله وسلم- ليس أرجح الناس عقلاً وأنّه تدخل في شؤون أهل المدينة الزراعية، دون علم منه وخرّب عليهم محصولهم!!
هكذا، يُتّهم النبي بالتدخُّل في أمر لا يعلمه؛ فيدلي بفتوى مدمرة لاقتصاد البلاد!! فلو افترضنا كما قالوا إنّه لم يكن له علم بالزراعة أليس هو أرجح الناس عقلاً؟ أليس أقل أحد من صبيان المدينة يعلم تأبير النخل؟ ثم فوق كل ذلك أليس من العقل عدم التدخل في أمر لا يعلمه الإنسان؟
الاتهام بالسحر ومحاولة الانتحار!
وحول الاتهام بأنه سُحِر كما في حديث البخاري الشهير، يرى أبو قرون أنهلا يقول بسحر رسول الله صلى الله وسلم إلا ظالم لأن الله سبحانه يقول: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾.
كما يستهجن المفكر اتهام الرسول عليه السلام بـ”محاولة الانتحار”: أيريدون أن يقولوا لنا إن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد نزول الوحي عليه، أصيب باكتئاب لما فتر عليه الوحي حَمَلَهُ على محاولة الانتحار!
ويمضي أبو قرون متسائلاً كيف قبل ويقبل من يسمون “علماء الشريعة” اليوم مثل هذه الترهات والاتهامات المبطنة والظاهرة ثم يرددونها على طلبتهم وفي منابرهم دون أن يرف لهم جفن أو تختلج عضلة في ضمائرهم؟!
نسيان القرآن
ثم ينتقل المفكر، في كتابه، إلى مسألة “الاتهام بأن الرسول كان ينسى القرآن” التي أوردهاالبخاري عن عائشة قائلاً إنّ النبي نسي قرآنه فذكّره به من لا يعلمه. ويوضح أبو قرون إن الله تعالى يقول: “سنقرؤك فلا تنسى” أي سيقرؤه قراءة لا ينساها. وإذا أراد الله أن ينسى نبيه آية فلا يمكن أن يحفظها غيره ليذكره بها! ويتابع: كيف يقبل مسلم أن رسول الله ينسى ما أرسل به؟ إنه شك في حفظ الله للقرآن بينما هو اتهام للنبي بضياع رسالته التي جاء بها سبحانه: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، كما يقول لنبيه: “لا تحرك به لسانك لتعجل به* إن علينا جمعه وقرآنه”.
اتهامه بالنهم في الطعام!
ومن الاتهامات التي تتعارض مع سيرته عليه السلام “اتهامه بالنهم في الطعام”، كما جاء في سنن الدارمي “… عن أبي عبيد ثم أنه طبخ للنبي- صلى الله عليه وسلم- قدراً فقال له ناولني الذراع وكان يعجبه فناوله الذراع ثم قال ناولني الذراع فناوله ذراعاً ثم قال ناولني الذراع فقلت: يا نبي الله وكم للشاة من ذراع؟ فقال والذي نفسي بيده أن لو سكت لأعطيت أذرعا ما دعوت بها”.
ويتساءل أبو قرون مستهجناً هل كان رسول الله يأكل أذرعاً إلى ما لا نهاية؟! وهو الذي كان يعصب بطنه بالحجر وهو القائل: “ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم آكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة: فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”.
اتهامه برمي سيدنا إبراهيم بالكذب!
ويختتم المؤلف الكتاب بمسألة “الاتهام برمي نبي الله إبراهيم بالكذب”؛ وذلك تعليقاً على ما جاء في البخاري فيما نسب إلى من مدحه خالقه بحسن الخُلُق أنّه قال: “لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات”.
معلوم أنّ الواجب في حق الرسل الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة، ويستحيل في حقهم الكذب والخيانة والكتمان والبلادة وتعالى الله سبحانه أن يُرسِل لهداية الخلق أحداً يكذب؛ فقد سئل أشرف الخلق وأكرمهم على الله محمد صلى الله عليه وسلم: “قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: أيكونُ المؤمنُ جبانًا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكونُ المؤمنُ بخيلًا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكونُ المؤمنُ كذابًا؟ فقال: لا” فلا أخلاق ولا خلاق لمن يكذب. فكيف يُراد بهذا الحديث أن يشهد رسول الله على كذب رسول من أولي العزم هو إبراهيم عليه السلام… والله سبحانه وتعالى يصف إبراهيم عليه السلام في كتابه الحكيم بقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ .. وإذا أضيف حديث “نحن أحق بالشك من إبراهيم” إلى هذا الحديث فقد يكون الناتج “نحن أحق بالكذب من إبراهيم”.
ويعلق أبو قرون على ذلك: “إذا كانت الأنبياء تكذب فما هو المطلوب من المرسل إليهم؟ وقد تكون هذه الأحاديث هي السبب في تفشي الكذب في هذه الأمة”.
وينبه أبو قرون إلى أن هذه الاتهامات ليست حصراً لما في المصادر والمراجع الإسلامية، فما ذكر جزء يسير مما فاضت وتنكبت به، حيث قالوا ظلماً وبهتاناً على رسول الله ما لا يمكن أن نقبله في حق من أرسله الله وعظمه وألزمهم بطاعته وتوقيره وعدم مخالفته.
يذكر أن النيّل أبو قرون تربى في بيت علم وتصوف في السودان، ودرس القانون في جامعة الخرطوم، وتولى وزارة الشؤون القانونية في زمن النميري، وأسهم في صياغة القوانين الإسلامية…، ولأجل أفكاره الجريئة وطروحاته المغايرة للسائد، فقد تعرض ولا يزال إلى الكثير من المحن والمضايقات ومنع كتبه في بلاد عديدة.
* موقع ذوات ( المغرب )
** إعلامية من الأردن