يوميات شعرية بريطانية لعام 2015


*د. ماهر شفيق فريد

مع إطلالة العام الجديد تطلع علينا دار «فيبر وفيبر» للنشر بلندن بكتاب عنوانه «يوميات شعرية: 2015»

Poetry Diary 2015. 
Faber and Faber، London
يضم نخبة من قصائد الشعر الإنجليزي – أغلبها من القرن العشرين – وتتفاوت موضوعاتها وتقنياتها وأشكالها الشعرية ما بين السوناته والشعر الحر والتزام القافية والتحرر منها.
وليس غريبا أن تأخذ دار «فيبر وفيبر» بزمام هذه المبادرة، فهي ذات سجل مشرف في نشر الشعر. وقد أصدرت أعمالا لأكبر شعراء القرن الماضي على كلا جانبي الأطلنطي، وكان ت.س. إليوت أحد مديريها والقارئ الأول لمخطوطات ما يقدم إليها من شعر.
ونحن في هذه اليوميات نلتقي بشعراء بريطانيين وأميركيين يكتبون في كل الموضوعات من أخطرها شأنا إلى ما يبدو، للوهلة الأولى، هين الشأن، إلى أن نتعمق أبعاده وندرك ما ينطوي عليه من إمكانات فكرية ووجدانية.
إن جون دن (في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر) يتحدث، بنبرة ساخرة، عن وفاء النساء ومدى ثباتهن على العهد في الحب. وروبرت هريك (في القرن السابع عشر) يدعو العذارى إلى اغتنام فرص المتعة في الحياة قبل أن ينطوي شبابهن. 
وفي مطلع القرن التاسع عشر يكتب شللي قصيدة عن وردزورث ينعى عليه فيها تحوله في شيخوخته عن آرائه اللبرالية في شبابه ليغدو محافظا متزمتا. حتى إذا جئنا إلى القرن العشرين وجدنا ماثيو فرانسيس يكتب عن مصابيح الشوارع، وكرستوفر ريد عن القهوة الإسبرسو، وأليس أوزوالد عن حقل، وديفيد هارسنت عن مشية في حديقة، وو.. أودن عن أبي الهول، وإدوين ميور عن شتاء اسكوتلندا القارس. ويكتب لورنس دريل (صاحب «رباعية الإسكندرية») قصيدة عن الشاعر اليوناني جورچ سفيرس، بينما تكتب لافينيا جرينلو قصيدة عن الشاعر الرومانتيكي كولويدچ. ويترجم دون باترسون ترجمة حرة قصيدة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو.
ومن قصائد الكتاب اخترت هذه القصيدة القصيرة (12 بيتا مقسمة إلى 3 مقطوعات رباعية) للشاعرة الإنجليزية ستيفي سميث (1902 – 1971):
ليست تلويحة وإنما غرق
لا أحد قد سمعه، الرجل الميت،
لكنه ظل راقدا يئن.
لقد كنت بعيدة عنك أكثر مما كنت تظن
ولم تكن تلوح بل تغرق.
* الفتى المسكين. لقد كان دائما يحب المزاح
وهو الآن قد مات.
لا بد أن الماء كان بالغ البرودة حتى إن قلبه توقف:
هكذا قالوا.
* أواه. لا لا لا. لقد كانت البرودة موجودة دائما
(وقد ظل الرجل الميت راقدا يئن).
كنت بعيدة عنه طوال حياتي.
ولم يكن يلوح بل يغرق.
المتكلمة في هذه القصيدة ترصد موقفا ينطوي على مفارقة مأساوية: إن رجلا يغرق ويلوح بذراعه طالبا النجدة، ولكن الآمنين على الشاطئ يخطئون فهم حركته، ويظنونه يلوح تحية لأحد معارفه أو أصدقائه أو أقاربه على الشاطئ، وهكذا يتركونه يغرق. والمتكلمة – التي تربطها صلة ما بهذا الرجل – تدرك مسؤوليتها جزئيا عما حدث. لقد كان في حياته – بحاجة إليها. ولكنها ظلت بعيدة عنه لا تجيب نداءه. 
وكلمة «البرودة» هنا لا تشير إلى برودة الأمواج التي تبتلعه فحسب، وإنما هي أيضا برودة العزلة والوحدة ورسائل طلب العون التي لا تتلقى جوابا.
وما دمنا بصدد الحديث عن الشعر فلنتوقف عند كتاب آخر، صدر قبل نهاية 2014. هو «دفتر الشعر: 2006 – 2014» من تأليف الناقد والشاعر الأسترالي كلايف جيمز صادر عن دار بيكادور للنشر بلندن.
James، Clive. Poetry Notebook 2006 – 2014 Picador، London 2014.
إن جيمز يلملم هنا شمل أوراقه النقدية والصحافية في السنوات التسع الأخيرة حيث يناقش أعمال أدباء أميركيين مثل إزرا باوند وجون أبدايك وروبرت فروست، وآيرلنديين مثل لوي ماكنيس، وأستراليين مثل و. ج. تيرنر ولس مري وبيتر بورتر، فضلا عن موضوعات أخرى أكثر عمومية.
وجيمز – إلى جانب كونه ناقدا – مؤلف لأكثر من 40 كتابا، منها أعمال روائية ودواوين شعرية، و6 مجلدات من السيرة الذاتية، وكتاب في الرحلات، وترجمة لكوميديا دانتي الإلهية من الإيطالية إلى الإنجليزية. 
وهو أسترالي المولد (ولد في مدينة سيدني في 1939) ولكنه اتخذ من بريطانيا موطنا له منذ سنوات طويلة – وعرف بوصفه إعلاميا ومقدم برامج تلفزيونية ومذيعا في محطة الإذاعة البريطانية. وظل حتى عهد قريب (يعاني حاليا من مرض اللوكيميا أو سرطان الدم) يطالع قراء الصحافة الإنجليزية بباب ثابت ينقد فيه برامج الإذاعة والتلفزيون.
وفي كتابه الجديد هذا نجد مقالة يجيب فيها عن هذا السؤال: ما هي دواوين الشعر الخمسة التي تحظى بتفضيله عن كل ما عداها؟ ويجيب: هي ديوان «البرج» (1928) للشاعر الآيرلندي و.ب.ييتس و«مجموعة قصائد» الشاعر الأميركي روبرت فروست، و«انظر أيها الغريب» (1936) للشاعر إنجليزي المولد، أميركي الجنسية و.. أودن، و«قصائد 1943 – 1956» الشاعر الأميركي رتشارد ويلبر، و«أعراس عيد العنصرة» (1964) للشاعر الإنجليزي فيليب لاركين.
ومن الإضافات المهمة التي يقدمها الكتاب إلقاؤه الضوء على عدد من الشعراء الأستراليين الذين لا نكاد في ثقافتنا العربية نعرف عنهم شيئا كثيرا. من هؤلاء الشعراء الذين يتوقف عندهم جيمز: الشاعر و.ج. تيرنر (1889 – 1946) وهو – مثل جيمز – أسترالي المولد هاجر إلي بريطانيا وعاش فيها بقية حياته، وكان ناقدا مسرحيا وموسيقيا لصحف ومجلات إنجليزية. وهو مؤلف لكتاب عن موزارت يعتبر مرجعا حتى اليوم.
يتحدث جيمز عن قصيدة تيرنر المسماة «ترنيمة إليها.. تحت المجهولة» مبديا استغرابه من ألا تنال هذه القصيدة الشهرة التي تستحقها. إنها تصور انجذاب الشاعر (أو المتكلم)، وقد تقدم به العمر، إلى شابة جميلة رآها في كافيتريا متجر إنجليزي، وهي زوجة وأم. 
ويصور المتكلم عجزه عن أن يفي جاذبيتها – هذه الغريبة عنه – حقها رغم أنه شاعر حرفته الكلمات، وما يسببه ذلك له من إحباط. إنه يبدأ القصيدة بقوله: في غمرة اليأس من أن أستطيع منافسة بدائع الله
رحت أفكر فيها
تلك التي رأيتها في الرابع والعشرين من أغسطس
من عام ألف وأربعة وثلاثين
وهي تتناول الشاي في الطابق الخامس من متجر سوان وإدجار
في ميدان بيكاديللي.
وتدرك المرأة – بغريزتها الأنثوية – أنه مهتم بها، وتتقارب نظراتهما دون أن تلتقي مباشرة قط. ويطلق الشاعر صرخة الإحباط هذه، وهو إحباط يشعر به كل فنان جرب مرارة العجز عن التعبير عما يشعر به:
ترى أي جدوى من أن يكون المرء شاعرا؟
أو ليس مهزلة أن تدعو الفنان مبدعا
وهو لا يستطيع أن يبدع شيئا
ولا حتى أن يعيد تقديم ما رأته عيناه؟
وعلى امتداد مقالات الكتاب يؤكد جيمز أن الشعر – في المحل الأول – تشكيل لفظي، وتقنية تستلزم المهارة الحرفية ومعرفة منجزات السابقين. لقد كان الشاعر والمتصوف الإنجليزي وليم بليك، في أواخر القرن الثامن عشر، من دعاة التلقائية في الكتابة. 
ولكن نظرة واحدة على مخطوطاته الموجودة بالمتحف البريطاني تشهد بمدى الجهد الذي كان يبذله في نظم قصائده، وكيف أنه كان لا يفتأ يعود إليها بالتعديل والتحسين والحذف والإضافة. 
وكان بيكاسو صاحب ثورة تجديدية في الفن التشكيلي ولكنه قبل ذلك كان خبيرا بالفن الأكاديمي، يستطيع أن يباري أساطين الفن القدامى مثل فيلا سكويز. 
وسترافنسكي، صاحب الثورة الموسيقية بأوبراه «طقوس الربيع» بدأ حياته بالتتلمذ لريمسكي كورساكوف ومحاكاة تقنيات الموسيقى الكلاسيكية. وفن كاندسكي التجريدي كان قائما على إدراك دقيق لخطوط المباني والميادين. ويورد جيمز، تأييدا لموقفه هذا، قول الشاعر الآيرلندي و.ب. ييتس في قصيدته المسماة «تحت جبل بن بلبن»:
أيها الشعراء الآيرلنديون، تعلموا حرفتكم
تغنوا بكل ما هو محكم الصنع.
وتتسم هذه المقالات بالطابع الذاتي، فهي سجل لما يحب جيمز وما يكره، ولكن على أساس من المعرفة العميقة بما يتحدث عنه. إنها «دفتر شعري» يدون حياته في الشعر منذ مطلع شبابه، ويذكر القصائد التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ويخص بالثناء إليوت وفروست وأودن ولاركين وماكنيس. 
وعلى الجانب المقابل لا يخفي نفوره من «أناشيد» إزرا باوند وذلك لما تكشف عنه من ميل إلى فاشية موسوليني، ومعاداة للسامية. كما يهاجم الناقد الإنجليزي ف.ر. ليفيس قائلا: «إنه لم ينظم قصيدة واحدة قط، وقلما قال شيئا شائقا عن أي قصيدة». ويصف الشاعر الأميركي كونراد إيكن بالخواء.
وبديهي أننا يجب ألا نحمل هذه الأحكام على محمل التسليم، فأنا شخصيا أختلف معها. إن «أناشيد» باوند – مهما رفضنا آراءه السياسية – تشتمل على شعر إنساني محرك للمشاعر، خاصة الجزء المسمى «أناشيد بيزا» وفيه يصور الشاعر مشاعره وهو سجين في إيطاليا (قبض عليه الجيش الأميركي بتهمة التعاون مع الفاشيين) في قفص. وليفيس واحد من أعظم نقاد الشعر الإنجليزي في القرن العشرين إلى جانب أ.أ. رتشاردز ووليم إمبسون. وكونراد إيكن شاعر وناقد وروائي عميق البصر بالنفس الإنسانية، أفاد من معرفته الوثيقة بالتحليل النفسي الفرويدي، ولا يمكن وصفه بالخواء. 
لكن القارئ يحمد لجيمز أمانته الفكرية في التعبير عما يراه، واستقلاله الذوقي دون الانجراف مع الآراء الشائعة، فضلا عن حيوية كتابته، وجاذبية عرضه، وابتعاده عن الدوجماطيقية الأكاديمية.
_____
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *