حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره


*ألفة يوسف

عادة ما لا أرغب في الحديث عن المسألة بعد حصولها بمدّة قليلة، ذلك أنّ الأفضل للتّأمّل والتّفكير في القضايا أن تترك للزّمن مجالا حتّى تستطيع تفكيكها وقراءتها. لذلك لم أعرض بسرعة لردود أفعال بعض المسلمين حول جريمة قتل صحفيّي شارلي هبدو، ولم أعرض بسرعة لردود أفعالهم بعد صدور العدد التّالي للجريمة حاملا صورة أخرى كاريكاتوريّة تصوّر المسلمون أنّها استفزازيّة. وفضّلت بعض التّريّث قبل التّفكير في المسألة.

لا يمكن أن ننكر أنّ جلّ المسلمين استنكروا جريمة القتل، فالإسلام دين يؤكّد أنّه من قتل نفسا فكأنّما قتل النّاس جميعا وأنّه من أحيا نفسا فكأنّما أحيا النّاس جميعا. ولكنّ عددا منهم استنكر أيضا الرّسوم الكاريكاتوريّة وأرغى وأزبد متّهما الرسّامين بالإساءة إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ومن ثمّ إلى الإسلام.
المقدس لا يتأثر
هذا الموقف المرغي والمزبد يضعف، في رأيي، صورة المسلمين والإسلام، وذلك من وجوه ثلاثة.
الوجه الأوّل مبدئيّ: المقدّس مفارق ولا يمكن المساس به:
عندما يؤمن الإنسان بدين مّا فإنّ ذلك الإيمان فرديّ وعميق، ولا يمكن لأحد، مهما يكن، أن ينفذ إليه. ومن ثمّ فإنّ اعتقاد المسلمين، وأنا منهم، بقداسة القرآن، وبأنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام هو خاتم الأنبياء الّذي اصطفاه الله تعالى لينقل الرّسالة هو اعتقاد لا يمكن لأحد الإساءة إليه. فمهما يكن موقف غير المسلمين من القرآن أو من الرّسول أو الإسلام عموما، فإنّ موقفهم هذا لن يمسّ اعتقادي ولن يحوّره.
بعبارة أخرى أبسط وأوضح: إنّ المقدّس اعتقاد، وهو شأنه في ذلك شأن جميع ضروب الاعتقاد ممّا لا يمكن أن يُلحق به أذى ولا أن يمسّه أحد بسوء. الإسلام معتقَد محفوظ في قلوب المسلمين ويجسّمه سلوكهم ولن يؤثّر فيه رأي الخارجين عنه. ومن المضحك أن نجد المسلمين مصدّقين ما يقوله أحد الرّسامين من أنّ صورة رجل ذا لحية هي صورة تمثّل الرّسول عليه الصّلاة والسّلام. إنّ تلك الصّورة لا تعبّر إلاّ عن خيال الرّسّام ولا علاقة لها بأيّ واقع تاريخيّ.
حتى يخوضوا في حديث غيره
الوجه الثّاني فقهيّ: حكم السّخرية من الدّين الإعراض عنها:
السّخرية من الإسلام ومن المسلمين ليست جديدة وقد كان المسلمون الأوائل أوّل من اكتوى بها. وقد أشار القرآن في نصّ صريح لا لبس فيه إلى ما يجب أن يكون عليه سلوك المسلم إذا ما تعرّض الدّين بجميع رموزه للسّخرية. يقول الله سبحانه وتعالى: «وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره» (النّساء 4،140). إنّ هذه الآية صريحة في دعوة المسلمين إلى الإعراض عمّن يستهزئ بآيات الله ومن يكفر بها. والإعراض هو ضرب من ضروب التّجاهل الّذي من نتيجته لا إبعاد المؤمن عمّا يكره سماعه من استهزاء بمعتقده، وحسب، لكن خصوصا حمل المستهزئ إلى الكفّ عن هذا الاستهزاء والتّخلّي عنه.
فمن المعروف في التّعامل بين البشر أنّ الإنسان إذ يستهزئ بآخر ويستفزّه (كما يقولون بالعبارة المعاصرة) إنّما يسعى أساسا إلى أن يردّ المستفَزّ الفعل فيغضب ويرغي ويزبد، ويكون ذلك هدف الاستهزاء. فإذا ما اكتفى المستفَزّ بالإعراض عن السّاخر فسيكفّ هذا الأخير عن سخريته لأنّها لن تجدي نفعا، ولأنّه سيكون كالشّخص الّذي يتكلّم وحده فلا يجيبه إلاّ الصّدى. والاستماع إلى الصّدى مرّة ومرّتين وثلاثة يؤدّي في النّهاية إلى سكوت المتكلّم الّذي لا يجد ردّ فعل. ومن هنا نفهم الحكمة العميقة الّتي تحملها الآية القرآنيّة والّتي حاد عنها بعض المسلمين اليوم.
الكفر والإيمان من إرادة الله
الوجه الثّالث فلسفيّ: وجود السّاخرين من الأديان والكافرين بها من إرادة الله تعالى:
خلق الله سبحانه تعالى الإنسان ونفخ فيه من روحه. وأرادنا مختلفين عن بعضنا بعضا. صحيح أنّ القرآن يتّجه إلى البشر جميعهم ليدعوهم إلى اتّباع طريق الحقّ، ولكنّ الله تعالى يعلم أنّ من النّاس من لن يتّبع هذا الطّريق. ويؤكّد القرآن مرارا وتكرارا أنّ الله تعالى هو وحده الهادي والمضلّ في تأكيد بديع أنّ البشر عاجزون على حمل شخص آخر على الإيمان. ولعلّ أبلغ تأكيد على ذلك قول الله تعالى: «ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين» (يونس 10،99).
إنّ وجود غير المؤمنين هو من إرادة الله تعالى في الكون، ولا يمكن مهما أرغى بعض المسلمين وأزبدوا أن يمنعوا غير المؤمنين هؤلاء من أن يسخروا ممّا لا يؤمنون به.
ما ينتج عن هذه المنظورات الثّلاثة المبدئيّ والفقهيّ والفلسفيّ هو ما نلمسه اليوم في الواقع التّارخي والجيوستراتيجي.
صورة الإسلام
إنّ المسلمين اليوم، شأنهم في ذلك شأن كلّ من ينتمي إلى جماعة مّا، يمثّلون الإسلام في العالم. فما هي الصّورة الّتي يقدّمها المسلمون للعالم اليوم؟
وفق المنظور الأوّل الذّي ذكرنا، يبدو بعض المسلمين ضعيفي الاعتقاد لأنّهم يتصوّرون أنّ هناك من بإمكانه فعلا المساس بمقدّساتهم الّتي لا يمكن أن يمسّها جوهرها أحد.
وفق المنظور الثّاني، يبدو بعض المسلمين اليوم قابلين للاستفزاز بيسر، لا حكمة لديهم ولا قدرة لهم على الإعراض عمّن يحاول جرّهم إلى مجال العنف والتّهوّر.
وفق المنظور الثّالث يبدو بعض المسلمين اليوم رافضين للاختلاف والتّعدّد وساعين إلى فرض تصوّر واحد للعالم ممّا يستحيل تحقيقه لا نظريّا ولا عمليّا.
من المنهزم إعلاميّا إزاء ما حدث؟
للأسف، المنهزم هي صورة المسلم الرصين الواثق من اعتقاده المعرض عن الجاهلين المقتنع بأنّ من يسخر من اعتقاد الآخرين لا يشوّه في واقع الأمر إلاّ ذاته وصورته.
لست من هواة نظريّة المؤامرة، لكن اسمحوا لي بأن أتساءل: هل من الصّدفة أن يكون ما تلا جرائم شارلي هبدو، صورة أخرى تدّعي أنّها تمثّل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فتزيد من هيجان بعض المسلمين وتصويرهم بصفتهم مجرمين وإرهابيّين بالقوّة يمرّ بعضهم إلى الفعل؟
أعتقد أنّه قد آن الأوان لنتعامل مع ما يُطرح علينا من مسائل تعاملا عقلانيّا رصينا بعيدا عن التّسرّع والغضب. ولعلّ هذه الحكمة خطوتنا الأولى نحو الخروج من موضع المفعول به إلى موضع الفاعل.
_________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *