ثقافة إحراق عباد الله بالنار


أحمد الشهاوي*
( ثقافات )

   منذ العام 38 هجرية، صار الحرقُ «سُنَّةٌ» متَّبعةً بين الخُلفاء والوُلاة والأمراء والقُوَّاد فى زمن الخلافات الإسلامية المتعاقبة، وانتشر وزادت وتيرته فى الدولتين الأموية والعباسية.

ولذا أعتبرُ أن ثقافة الحرْق، جُزءٌ أساسىٌّ من صفحات التاريخ الإسلامى، وما فعله «داعش» ما هو إلا صورة طبق الأصل لما مارسه الخلفاء والأمراء المسلمون ضد معارضيهم ومُخالفيهم فى الرأى.

ويمكن لمن يريد أن يتثبت من الأمر أو يستزيد فى التعرف إلى طرائق حرق المسلمين بالنار، أن يعود إلى الطبرى، وابن الأثير، ووفيات الأعيان، وأنساب الأشراف، والأغانى، وتجارب الأمم، والعيون والحدائق، ومروج الذهب، والمنتظم، وأخبار القضاة، ونفح الطيب، وخطط الشام، وعيون التواريخ، والوافى بالوفيات، والمعجب للمراكشى، والجامع المختصر، والنجوم الزاهرة، وابن خلدون، وتاريخ ابن الفرات، وخطط المقريزى، ومهذب رحلة ابن بطوطة، وبدائع الزهور، وشذرات الذهب، وتاريخ الغياثى، وحاشية ونزهة النفوس، وأعلام النبلاء، وخلاصة الأثر، ومختصر تاريخ بغداد، وتاريخ الجبرتى، ليطالع كيف كان يُحْرقُ المسلمون أحياء، وكيف أن آلافا من الشعراء والمتصوفة والأئمة والفقهاء، وأناسا من عامة المسلمين، رجالا ونساء، تم قتلهم حرقا، وكيف أن الحرق كان يجرى فى دورٍ بكاملها، وفيها من الأطفال والعجائز.

لقد ارتكبت الخلافات الإسلامية جرائم يصعُبُ حصرُها بل يستحيلُ إحصاؤها، لأنَّ الكُتب التى تركها لنا الأسلاف لم تسجِّل كل الحوادث التى وقعت، إذْ التاريخ عادةً لا يصلُ إلينا إلا منقُوصًا أو مبتُورًا أو مُشوَّها، ومع ذلك ظلت حوادث لم يستطع الرواة والمؤرخون أن يتجاهلوها، ربما لأنها كانت على رؤُوس الأشهاد، أو ربما لبشاعة الحرق نفسه، أو شهرة المحروق.

فما وصل إلينا من قصص الحرق ما هو إلا غيضٌ من فيضِ نار أُوقدت وأحرَقت باسم الإسلام.

و بالرغم من أن الحرق ليس منصُوصا عليه فى القرآن والسُّنَّة

ويدل على هذا صراحة حديث أبى هريرة:

بَعثَنا رسولُ اللهِ ﷺ فى بعثٍ فقال: (إن وجدتُم فلانًا وفلانًا فأَحْرِقُوهما بالنارِ). ثم قال رسولُ اللهِ ﷺ حين أردنا الخروج: (إنى أمرتُكم أن تُحرِّقوا فلانًا وفلانًا، وإن النارَ لا يعذبُ بها إلا اللهُ فإن وجدتُموهما فاقتُلُوهما). (البخارى ٣٠١٦)

ولأن كلَّ وقتٍ يصلح لأن نُبيِّن لأنفسنا، ما هو الدين الحقيقى من المزيَّف، الذى يُؤوِّلُ النصوصَ المُقدسةَ والمأثورَ السلفى غلطا، ويُصدر أصحابه فتاوى وأحكامًا بعيدةً عن الدين الحق، بل تُشوِّه صورة الإسلام والمسلمين.

سأقول إن أول من أُحرِقَ هو الشاعر سحيم عبد بنى الحسحاس، فى زمن الخليفة عُمر بن الخطاب «ولد بعد عام الفيل، وبعد مولد الرسول محمد بثلاث عشرة سنة»، وهذا أمر تذكرُه مصادر كثيرة، وصار من الحوادث المعلومة فى تاريخ الحرق والشِّعْر معا، مع أن إقامة الحُدود ليس من بينها الحرق.

وقد نهى الرسول عن الحرق بالنار، إذ لا يجوز تعذيب أى إنسان كرمه الله بالنار، وهناك حديث يقول: «إنه لا ينبغى أن يُعذَّبَ بالنار إلا رب النار» – أبو داوود 2672 ؛ لأن عقوبة الحرق لم يأت لها ذكرٌ فى القرآن والسنَّة، ومن ثم قد خلت الشريعة الإسلامية من عقوبةٍ كهذه، لأن عقوبات الحدود معروفة وشائعة لدى الصغير قبل الكبير، المسلم وغير المسلم، ولا يجُوز تأويل أى نصوص تأويلا فاسدا، يُشوِّهُ الدين أو ما جاء به – حتى – غُلاة الأئمة والمتشددون منهم كابن تيمية «661 هجرية 1263 ميلادية – 728 هجرية 1328 ميلادية».

والتاريخ الإسلامى يقول لنا إن جارية بن قدامة السعدى، وهو من كبار قادة على بن أبى طالب بن عبدالمطلب الهاشمى القُرشى (13 من رجب 23 ق هـ/17 من مارس 599م – 21 من رمضان 40 هـ/ 27 من يناير 661 م) قد أحرق سبعين رجلا كانوا قد تحصَّنُوا فى دارٍ مع قائدهم عبدالله بن الحضرمى، الذى أرسله معاوية بن أبى سفيان «ولد بمكة قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وكانت سنه يوم الفتح 23 سنة» إلى البصرة للانتفاض على علىّ بن أبى طالب.

والحرق فى تاريخ الإسلام كان يجرى والرجل «أو المرأة» حى لم تخرج روحُه، حيث كان يصب النفط «الجاز»، ومن هؤلاء الذين أحرقوا سنة 119 هجرية وزير السختيانى، والذى ظل يتلو القرآن وهو يحترق، حتى مات بفعل النار، التى نُصبت له فى ساحةٍ واسعةٍ، وكان ذلك بأمرٍ من خالد القسرى، أمير العراق، الذى كان يستهويه الموت حرقًا لخُصُومه، ومن يخرج عليه، حيث يأمر بجمع أطنان من الأخشاب والنفط، حيث يُصبُّ النفط على الخشب ثم تلهب النار من يُوضعُ فيها.

ومن ضمن العقُوبات التى فرضها وقرَّرها زيد بن موسى بن جعفر العلوى سنة 200 من الهجرة النبوية على أتباع العبَّاسيين الحرق بالنار، حتَّى سُمى «زيد النار»، وكان قد خرج على الخليفة المأمون «ولد عام 170 هـ 786 ميلادية وتوفى فى 19 من رجب عام 218 هـ 10 من أغسطس سنة 833 ميلادية».

أما أحمد بن طولون (23 من رمضان 220-270هـ/ 20 من سبتمبر 835 – مارس 884م) والى مصر فى زمن الدولة العباسية، ومؤسس الدولة الطولونية فى مصر والشام، وهو تركى مُستعرب وُلد لأم جارية، كان قبل وفاته بأربع سنواتٍ قد حبس كاتبه أحمد بن حنون الفديدى لذنبٍ ما، فأرسل ابن حنون رسالةً يستعطفُهُ، من ضمن ما جاء فيها «إنَّ الملوكَ إذا ما استرحمُوا رحمُوا»، وكان قبلها قد كتب فى مطلع البيت الشعرى الأوَّل: «هبنى أسأتُ فأين العفوُ والكرمُ»، فجُنَّ جُنون ابن طولون، لمَّا قرأ رسالة ابن حنون وقال: «يكتبُ لى هبنى أسأتُ وقد أساء، والله، لو كتب إنى أسأتُ لعفوت عنه، وأطلقتُ سبيله، ثم أمر به، فأُدخلَ فى تابوتٍ خشبىٍّ وأحرقه بالنار وهو حى، وقد جاء ذكر ذلك فى كتاب «العيون والحدائق فى أخبار الحقائق»، وهذه الحادثة إن دلت على شىءٍ، فإنها تدل على حُمق ابن طولون وجنونه وغروره وغطرسته، ولا تشير بأية حالٍ إلى كونه واليا صاحب حكمةٍ.

والأمر نفسه سيتكرر بعدها بأربع سنواتٍ من خليفةٍ هو المعتضد بالله، أى سنة 280 هجرية، حيث أحرق محمد بن الحسن بن سهل، بأن أمر بشدِّهِ على أعمدة الخيام، وتم تأجيج نارٍ، وطلب من عُمَّاله أن يُقلِّبُوه على النار كأنه طيرٌ يُشوى».. حتى انشوى ومات، وكان كل ذنبه أنه سعى إلى بيعةِ خليفةٍ من أولاد الواثق.

والحديث موصولٌ.

* شاعر من مصر

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *