*مهسا محبّ علي / ترجمة: مريم حيدري
تجري في هذه القصة أحداث حُبّ. حُبّ مثل نبات العشقة الذي يلتفّ حول حبيبي وحولي بين ثنايا السطور. أنا وحبيبي وعدة أفلام وقصص سنتشابك معاً إلى درجة لا يمكن، في النهاية، معرفة أيّنا هو الآخر.!
شَعري كستنائي قصير ينسدل على جبيني وصدغيّ، أزن خمسة وأربعين كيلوغراماً، وطولي، مع حذاء بالكعب العالي، يبلغ متراً وخمسة وستين سنتيمتراً. حصلت على بكالوريوس الأدب الفارسي من الجامعة الأهلية، ثم جلست في البيت إلى أن تعرَّفت، في النهاية، إلى حبيبي في حفلة «سيزده به در» في حديقة أحد الأقارب.
لعاشقي عينان مخمورتان، وهو موظّف في البنك المركزي، طويل القامة وجميل المعشر. لا يمتلك ميزة أخرى إلا أنه يلهو كل الوقت بطرفَيْ شاربيه. في ركن من الحديقة، ينظر حبيبي إليّ بعينيه المخمورتين غير المستمتعتين، والثاقبتين. وأنا أبتعد مطأطئة رأسي بغنج وحياء. يلاحقني حبيبي ويناولني كأساً. في اللحظة التي أتناول فيها الكأس من يده تلتقي عيوننا لبرهة قصيرة. وحبيبي يمسك يدي بهدوء ويملأ كأسي بمشروب يشبه النبيذ (1).
(ولكي تستوعبوا هذا المقطع من القصة تستطيعون أن تراجعوا المنمنمة في الصفحة (23) لمحمد تجويدي في ديوان حافظ الشيرازي؛ حيث الرجل في المنمنمة يتشبّث بثوب المرأة بعينين متضرِّعتين، ويمدّ كأساً نحوها. أما المرأة فمائلة من خصرها نحو الجهة الأخرى، وقد أبعدت نظرها عن الرجل إلى أقصى ما يمكن. وبرغم كل ذلك يبدو أن هناك رغبة تجيش تحت جلدها. ويمكن ملاحظة هذه الرغبة من نظرتها التي تصوِّبها من طرف عينها نحو رجل المنمنمة. ويبدو أن امرأة المنمنمة كانت تنتظر هذه اللحظة لسنوات طويلة، والآن وقد أتيح لها المجال كي تتغنَّج، تحاول أن تتظاهر بالهدوء واللامبالاة رغم احمرار وجنتيها. أما الرجل فلا يعنيه أبداً أيّ شيء من ذلك كلّه، وبشَعره المنسدل على جبينه، وكما يقول حافظ الشيرازي «بجديلة مجنونة، متعرِّقٌ، بفمٍ ضاحك، ثملٌ / ممزّق الجيب، شادٍ، ماسكاً بيده قدح الرحيق»، يحدّق في المرأة. لا يفكِّر رجل المنمنمة إلا بوصال الحبيب، ولا يبالي أبداً إن سُجّل وجهه في التاريخ مثل الحمقى حديثي النعمة).
أنا وحبيبي جالسان أمام التليفزيون في شقّة مساحتها أربعون متراً مربعاً استأجرناها في شارع حافظ، نشاهد مسلسل «مروحية الإسعاف». وفي اللحظة الأكثر تأثيراً في الحلقة أنهض وأذهب إلى غرفة النوم. أرتدي برنس حمّام أحمر اللون، وأقف أمام التليفزيون. أمشِّط شعري، وحين يعترض حبيبي، أردّ عليه بنظرة فاتنة. يبتسم، ولكنه يحاول أن يواصل متابعة الحلقة، ثم أذهب وأفصل قابس التليفزيون من الكهرباء(2).
(من أجل أن تستوعبوا هذا المقطع من القصّة بشكل أفضل، راجعوا رواية «الأميركي الهادئ» لغراهام غرين؛ حيث بايل يسأل فاولر، المراسل البريطاني البارع: «ما هي أعمق تجربة عشق عشتها حتى الآن؟».
وفاولر يردّ على الأميركي الشاب والهادئ قائلاً: «ذات يوم، في الصباح الباكر، وأنا مازلت مستلقياً على السرير، وعيناي تتابعان امرأة مرتدية برنس حمّام أحمر، وهي تمشّط شعرها».
في تلك اللحظة كان الشعور الحميم لذلك الرجل البريطاني الحكيم سائداً، بأكمله، على هذا المشهد. المشهد الذي لم يجرّبه في الأغلب مع أية واحدة من حبيباته السابقات، ولكنه كان الصورة الوحيدة التي تراود ذاكرته المتعبة والمضطربة، في تلك اللحظة التي كان يقضي فيها الليل في العمارة إلى جنب الجنديين الفيتناميين، وذلك الأميركي الهادئ، وفي رعب توقَّع هجوم الفيت كونغ. وفي الأغلب، لم يكن فاولر يفكِّر، في تلك اللحظة، بأية واحدة من حبيباته على وجه الخصوص، لا بـ «فوأونغ»، تلك العنقاء الفيتنامية، ولا بحبيبته البريطانية. بل كانت تلك الصورة خلاصة لجميع لحظات الحبّ التي عاشها ذلك الرجل البريطاني).
أنا وحبيبي جالسان في مقهى على الشاطئ، نتذوّق الكابوتشينو. حبيبي يرتدي تي شرت أبيض، لاصقاً بجلده من شدة الرطوبة في الجو. وأنا أرتدي مانطو (رداء يشبه المعطف ترتديه النساء الإيرانيات) أخضر اللون، وقد وضعت زهرة ماغنوليا بيضاء كبيرة بين أزار المانطو. تختلط رائحة الماغنوليا على صدري برائحة الكابوتشينو التي تتصاعد من فنجاني، وبرائحة رطوبة البحر، مما يشعرني بالدوار. أضع أصابعي على صدغي، وأسحب نفساً عميّقاً. حبيبي ينظر إليّ بعينين يموج فيهما القلق. أسأل حبيبي أن يروي لي، مرّة أخرى، حكاية الفتاة والشاب اللذين غرقاً في البحر. يردّ أنه حكى لي هذه القصة خمس مرات منذ أمس، ولا مزاج له كي يحكيها ثانية(3).
(من أجل أن تستوعبوا هذا المقطع من القصّة بشكل أفضل، راجعوا كتاب «مدراتو كانتابيليه» لمارغريت دوراس؛ حيث تغادر آن ديبارد- مضطربة- مائدة عشاء الحفل، بثوبها الديكولتيه وزهرة الماغنوليا على صدرها، وتتّجه نحو مقهى الميناء، كي تجالس شوون، وللمرة الأخيرة تطلب منه أن يروي لها حكاية الفتاة والشاب. وفي تلك اللحظة تدرك آن ديبارد- وللمرة الأولى- تلك القوةَ السحرية الكامنة في زهرة الماغنوليا، بينما تنتبه للشبه الخارق والبديهيّ بين الشرب وزهرة الماغنوليا، والحبّ، والضجر. تجد آن ديبارد في تلك اللحظة أن رائحة الماغنوليا تبدو- في البداية- بريئة. وفي تلك اللحظة يملأ الحبُّ ذهنها بأكمله، كما تفعل رائحة الماغنوليا، وطبعاً الضجر الذي احتلّ ذهنها بالحجم نفسه وبالمباغتة ذاتها).
أنا وحبيبي جالسان في الشقة نفسها ذات الأربعين متراً مربّعاً. حبيبي يستلقي على الكنبة، واضعاً كأسه المليئة بالثلج على صدره، وسيجارته بين شفتيه. يحدِّق في السقف، ويردّ على أسئلتي بأجوبة قصيرة لا تعني أي شيء.
أنا جالسة على الأريكة، قدماي تتدلّيان من أحد طرفيها، بينما أتصفَّح- بغيظٍ- مجلّة «آرت أند ديكوريشن». أطلب من حبيبي ألّا ينفض رماد سيجارته على الأرض، لكنه لا يردّ، بل يعاود نفض رماد السيجارة على الأرض بينما يواصل تحديقه في السقف. أنهض، وأقف عند رأسه، أطوِّق صدري بذراعيَّ، وأنظر أليه بغضب. يبتسم حبيبي بسخرية، بينما يواصل تحديقه في السقف. أصرخ في وجهه، وأقوله إني سئمت تصرّفاته، وأشعر بالقرف منه. حبيبي يرتدي سرواله، ويربط حزامه بإحكام، بينما يسبّ ويشتم متمتماً. أقف أمام الباب، مثل حاجز في طريقه، وأقول له إنه من الأفضل أن ينهي القصة، ولا يؤدّي أدوار الأبطال في الأفلام الأميركية حين يسأمون حبيباتهم. يزيحني إلى جانب بحركة سريعة، ويضرب الباب، ويرحل.(4)
(من أجل أن تستوعبوا هذا المشهد، لا تراجعوا أبداً أفلام النهايات السعيدة «هابي إند» الأميركية. لأني لا أذهب خلف حبيبي، كما تفعل جين فوندا أو جوليا روبرتس، كي أجده في حديقة أو مقهى قريب من البيت، وأعيده إلى البيت. بعد أن يرحل حبيبي، أضع في الجهاز سي دي «أوبرا سالومي» لريتشارد شتراوس، أستلقي على الكنبة، وأتصفّح رواية «سالومي» لأوسكار وايلد، وحين يطلب هيرودس من سالومي أن ترقص احتفالاً بتلك الليلة السعيدة، أنا أيضاً أبدأ معها برقصة الحواجز السبعة. وفي النهاية، حين تحضن سالومي رأس يحيى المقطوع، وتقبّل شفتيه اللتين لم تتمكَّن من لمسهما في حياته، أنا أيضاً آخذ صورة حبيبي من فوق التليفزيون وأقبّلها. رغبتي في الانتقام، وشعوري الساديّ في تللك اللحظة ليسا أقل من شعور سالومي إزاء يحيى.).
أنا وحبيبي نعود من السهرة، شابكاً ذراعي بذراعه. أنا أرتدي فستاناً بياقة مفتوحة، وحبيبي- كالمعتاد- يرتدي سروال الجينز وتي شيرت. نغنّي معاً، وبصوت عال تقريباً. نتأرجح بين تارة وأخرى، ويتشبّث واحدنا بذراع الآخر كي لا نسقط على الأرض. حبيبي يعقد حاجبيه كلما وصلت إلى كلمة «حبيبي» في أغنية، وبملامح جادّة يشير نحوي بأصبعه. وأنا أواكبه.(5)
(من أجل أن تستوعبوا هذا المقطع من القصّة بشكل أفضل، من الجيد أن تراجعوا المشهد الأول من فيلم «مَن يخاف فيرجينيا وولف». في هذا المشهد يحاول كل من إليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون أن يخفي شعوره نحو الآخر، وكلاهما يرفقان ذلك بلهجة هازلة تستطيع أن تتحوَّل سريعاً إلى شتائم إن لم ينتبها. وطبعاً هنا يسعفهما النسيان أيضاً. يساعد النسيانُ في تغيير شكل الذكريات، وأن تسعف هذه الذكرياتُ، بين حين وآخر، الخواطرَ أو المشاعر المجروحة. المشاعر التي يخلّفها موتُ الابن، أو الإجهاض، أو خيانة لم تظهر كاملة، كما أنها لم تختفِ كاملة أبداً.).
أنا وحبيبي جالسان في شقّتنا، ندخِّن السجائر باكتئاب. أنا أستلقي على الكنبة بضجر أكثر، وأدخِّن، وهو- باكتئاب أكثر- يستلقي قرب مدفأة الحطب، ويدخّن. الاكتئاب يلتفّ حول أيدينا وأقدامنا مثل نبات العشقة. أقول: من الأفضل أن يترك أحدنا الآخر، لأنه في العادة يترك أحد الحبيبين الحبيب الآخر في مثل هذا المقطع من القصّة. يميل حبيبي في استلقاءته، ويقول إنه لا مزاج له للضياع في الشوارع، وإن كنت أنا سئمة فبإمكاني أن أتركه. أذكّر حبيبي بأنه في مثل هذه الحالات، على الرجل أن يترك البيت. ولكنّ حبيبي لا يقتنع، وبعد إلحاحي المتواصل لا يفعل إلا أن ينظر نحوي بعينيه المخمورتين. أقول لحبيبي إنه لم يعد بإمكاني أن أواصل تدخين السجائر مكتئبة، كما أني أخذت أشمئز من تدخينه بهذه الحالة المكتئبة. يسحب حبيبي نَفَساً آخر من السيجارة مكتئباً، ويقول: ليس ثمة فعل مثل التدخين يمكنه أن يظهر الاكتئاب بهذا الجمال. وبينما ترتعش شفتي العليا من شدّة الغضب، أتّجه نحو غرفة النوم، أضع في الجهاز سي دي «سوناتا سي بيمول» لشوبان، أستلقي على السرير، وأفكِّر ببضعة مواضيع غير مهمّة.( 6)
(لو بدأ ويم ويندرز فيلم «باريس تكساس» من عدّة مشاهد تسبق المشهد الأول لفيلمه، أي من النقطة التي يشعر فيها الرجل والمرأة بالضجر، لاستطعتم أن تراجعوا الفيلم، ولكن الآن من الأفضل أن تراجعوا «سوناتا سي بيمول مينور» (سوناتا رقم 2 مقام سي بيمول مينور) هذه لشوبان، وبالتحديد، المقطع الذي تذكّر فيه نوتات الهارْب بصوت المطر الرتيب، وضجرِ شوبان في جزيرة مايوركا، حين كان يجلس خلف البيانو في الفيلا التي تعود إلى القرن السادس عشر والتي تقع على الصخور الصلدة، ويكتب النوتات المملّة والمدمِّرة لتلك السوناتا، ولا يفكِّر إلا بأمر واحد: السأم. السأم من الحبّ. السأم الذي لا بدّ منه، ويتشبَّث بك بعد فترة طويلة مليئة بالخيانة واللامبالاة والنسيان والشجار والسُّكْر والنشوة، ولا يترك لك حلّاً إلا أن تفعل ما فعله شوبان: أن تستمع إلى صوت المطر الرتيب وارتطام الأمواج بالصخور، دون إعارة أي اهتمام بجورج ساند، وتسجّل على الأوراق، النوتاتِ الممِلّةَ التي تحمل في طيّاتها هيجانَ عاصفة مدمّرة. بالرغم من أن جورج ساند أيضاً كانت تكتب في الغرفة المجاورة قصّة تقتل- خلالها- حبيبةٌ ما حبيبها من فرط الضجر. ومع ذلك، أعتقد أن شوبان وجورج ساند إن كانا ،بدلَ الذهاب إلى جزيرة مايوركا، راحلَيْنِ إلى أرل، المكان الذي رسم فيه فان غوخ لوحتًه الرائعة لزهور عباد الشمس، فلا شكَّ أنهما، وقبل أن يصلا إلى ذلك الضجر القاتل، وقبل أن تتحطّم علاقتهما، سيبلغان درجة من الجنون يقتل فيها أحدهما الآخر، أو على أقلّ تقدير، (كما قصّ فان غوخ أذنه)، سيقطع أو سيقصّ أحدهما عضواً من جسده).
-مهسا محبّ علي كاتبة وناقدة إيرانية، ولدت عام 1972 في طهران. ودرست الموسيقى في جامعة طهران. وقد أدارت عدة ورشات لكتابة القصة خلال السنوات الأخيرة.
تُعدّ محبّ علي من الجيل الثالث من الكتّاب الإيرانيين. وقد حصلت على عدة جوائز أدبية مرموقة في إيران من أجل مجموعتها القصصية «الحبّ في الهامش» وروايتها «لا تقلق»، وقد كان لكلا الكتابين صدى واسع في الوسط الأدبي في إيران. كما أن روايتها ترجمت إلى اللغة السويدية.
____
*الدوحة