فصول من السيرة الذاتيّة لـ” كولن ويلسون” 12


* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

بعد نشر اللامنتمي بدت الأمور لي رائعة تماماً : شهرة مدوّية بين ليلة و ضحاها ، مال ، لقاءات تلفزيونيّة بصحبة المشاهير ، حفلات أدبيّة ، دعوات لإلقاء محاضرات عامّة في المدارس العامّة و الجامعات ،،،، و لكن سرعان ما وجدْتُ الأمر مربكاً و رتيباً باعثاً على الملل بعد أن اكتشفْتُ أنّ كلّ تلك الأمور بدت و كأنّها لم تكن لمناقشة أفكاري الّتي احتواها كتابي بل لمحضِ أغراض تجاريّة و تسويقيّة ، و كانت المشكلة الباعثة على ضجري جليّة للغاية : كنتُ في سنوات يفاعتي و مراهقتي المبكّرة قد قضيْتُ معظم أوقاتي مع الكتب و هي الحالة الّتي تسبّبَتْ في ولعي العظيم بروح الرومانتيكية و آبائها المبجّلين : غوته ، بليك ، شيللي ، هوفمان و آخرين من عصبة الشعراء الّذين أسماهم ييتس ( جيل المأساة ) و هم – بالإضافة إلى ييتس نفسه بالطبع – إيرنست داوسون ، ليونيل جونسون ، و جيمس ثومسون .

كانت نقطة الشروع الّتي دفعتْني لكتابة ( اللامنتمي ) نابعةً من تساؤلي : لماذا قضى معظم عباقرة القرن التاسع عشر انتحاراً مثل ثوماس لوفيل بيدوس Thomas Lovell Beddoes و فان كوخ ، أو انتهوا في مصحّات عقليّة مثل هولدرلين و نيتشه ؟ كان الجوابُ الذي اقترحْتهُ في اللامنتمي يتمحور حول كون هؤلاء العباقرة قد أوغلوا بعيداً في الذاتيّة و الرومانتيكيّة فوجدوا أنفسهم عاجزين عن التناغم مع المشكلات العاديّة للحياة البشريّة اليوميّة و كانتْ ردّة فعلهم إزاء هذا العجز هو أنّهم أداروا ظهورهم تجاه هذه الحياة و كرّسوا حياتهم في محاولة الوصول إلى ما كانوا يصفونه ” التوق الأبديّ ” ، و لكن ، و للأسف ، لم يكن الهروب من ساحة الحياة اليوميّة يمثّلُ حلّاً منطقيّاً و معقولاً : فإذا كان هؤلاء العباقرة جادّين في سعيهم نحو شكلٍ مكثّف و مستحدثٍ من الوعي فهل كانت ثمّة فائدةٌ متوقّعة أو خيرٌ يرتجى من وراء صبّ اللوم على الحظّ العاثر و من ثمّ الغرق في لجّة اليأس و الهزيمة ؟ . كنتُ اختبرْتُ انا ذاتي أمثال هذه المشكلات ، فعندما كنتُ في السادسة عشرة من عمري كنتُ تشبّعْتُ حتّى قمّة رأسي بمذهب الرومانتيكيّة و كنتُ لا أملّ من ترديد كلمات ييتس :
….. ما ترنو إليه ملايين الشفاه في هذا العالم 
لا بدّ أن يكون أمراً جوهريّاً في مكانٍ ما …..
و ما دفعني إلى محاولة قتل نفسي بالسيانيد من قبلُ كان بسبب قناعتي المؤكّدة أنّ الحياة الواقعيّة بكل عاديّتها الرتيبة ستكبح جموحي في بلوغ ” التوق الأبدي ” الّذي حكى عنه الرومانتيكيّون ، و لكن في اللحظة الّتي قاربَتْ فيها أنبوبة السمّ شفاهي أدركْتُ أنّ قتل نفسي كان حلّاً في منتهى السخف و أيقنتُ أنّني أنا و ليس غيري من يتسبّبُ في إحداث المشاكل لنفسي بالسماح لها أن تقبل بالتخاذل و الهزيمة ، و عندها اختبرْتُ على نحوٍ مفاجئ ما سبق لبروست أن اختبره و وصفه بقوله ” لم أعُدْ أشعر بأنّني أمرؤ عاديّ أو محدود جاء بمحض صدفة عمياء و كُتِب له الفناء ،،،،، ” .
إنّ كوني مؤلِّف الكتاب الّذي صار وقتها الأكثر مبيعاً في العالم كان بالتأكيد مبعث نشوة عميقة لي أوّل الأمر و كان أفضل بكثير من عملي في مصنع الصوف ، و لكن سرعان ما شعرْتُ بانعدام الراحة ذاتهِ الّذي لطالما شعرْتُ به من قبلُ ، و بدلاً من شعوري بالرضا و الاكتفاء الذاتي تحوّلتْ حياتي إلى مادّة محبّبة للنميمة الرائجة في الأعمدة الصحفيّة . حصل بعد نشر اللامنتمي أن حاضرْتُ بكثافة كبيرة و كانت واحدةً من أولى محاضراتي هي تلك الّتي انعقدت في معهد الفنون المعاصرة في البيكاديللي و كان من بواعث سروري أن أقدّم زوجتي جوي إلى ( ستيفن سبندر ) الّذي سبق لها أن رأتْه آخر مرّة في محاضرة سابقة له في الجمعيّة الأدبيّة في كلّية ترينيتي Trinity ( الروح القدس ) في جامعة كامبردج ، و كان من المثير للغاية الالتقاء بشخصيّات أدبيّة و ثقافيّة كنت قد قرأتُ لهم من قبلُ : ستيفن سبندر ، كريستوفر إيشروود ، إديث سيتويل ، هربرت ريد ، لويس ماكنيس ،،، و كذلك برسّامين من أمثال : فرانسيس بيكون ، لوسيان فرويد ، و إل. إس. لوري ،،، و سرعان ما شعرْتُ بالاكتفاء من هذه الحفلات الأدبيّة . 
لم تكن شهرتي المفاجئة الّتي هبطت عليّ من غير انتظار لتخلو من بعض المفاجآت المثيرة : وصلتْني يوماً ما نسخةٌ من سيرة ذاتيّة بعنوان ( غروشو Groucho ) لمؤلّفها غروشو ماركس ، و لمّا كنتُ أعلم أنّ ماركس هذا لم يكن بالرجل الّذي يتجشّم عناء إرسال كتبه إلى أيّ أحد لذا كاتبْتُ ناشري ( غولانز ) متسائلاً عن السبب وراء إرساله لي هذه النسخة فأجابني أنّه بعد أن نشر السيرة الذاتيّة لغروشو كتب إلى مؤلّفها – جرياً على التقاليد المتّبعة في دور النشر – لمعرفة أسماء الشخصيّات الّتي يودّ المؤلّف لو أنّ الناشر أرسل لهم نسخاً مجّانيّة فأجابه غروشو ” وينستون تشرشل ، سومرست موم ، كولن ويلسون ” !! ، و هكذا كتبْتُ رسالة إلى غروشو أشكره فيها على إهدائي نسخة من سيرته الذاتيّة و أخبره أنّني في صدد التحضير لكتابة رواية عن جاك السفّاح ، و ردّ الرجل برسالة تطفح حيويّة قال في مقطع منها ” لطالما كان جاك السفّاح بطلي المثاليّ الّذي أتطلّعُ إليْه و للأسف فإنّ قدراتي الجسديّة المحدودة هي وحدها ما منعتْني من ترسّم خطاه و السير على دربه ،،،، !! ” . قابلتُ مرّة في أروقة الجمعيّة الملكيّة الكاتب المسرحيّ صامويل بيكيت و استبدّ بي إغراء محاججته حول شعوره بأنّ الحياة عديمة المعنى بالكامل و لكنّي وجدت في شخصيّته الودودة غير العدوانيّة مصدّاً أمام الإغراء الّذي اعتراني ، و لكن حصل لاحقاً و حاججْتُ فعلاً كاتباً مسرحيّاً آخر هو يوجين يونسكو حول ثيمة فقدان المعنى في الحياة و الّتي تسِمُ كلّ أعماله ولازلت أذكرهُ و هو يومئُ إلى المطر المنهمر بغزارة عبر النافذة قائلاً لي ” أنظرْ إلى المطر و هو يهطل بغزارة . هل ترى ثمّة معنىً وراء هذا ؟ ” .
كانت واحدةً من المشكلات الّتي عانيتُها بعد نشر ( اللامنتمي ) هي الجماهيريّة التافهة الّتي حظيتُ بها رغماُ عنّي : ففي مساء أحد الأيّام كنتُ أنا و جوي نحضرُ حفلاً أقامتْه دار نشر فابر و فابر Faber & Faber و لبّيْنا الدعوة على أمل الالتقاء بِـإليوت ، و لكن للأسف لم يظهر إليوت في الحفل و قابلْنا عوضاً عنه وليم غولدنغ ، و لوري لي ، و حصل في طريقِ عودتنا إلى المنزل أن مررْنا بمسرحٍ تتجمهرُ الحشود حوله و عندها طلبنا من السائق التمهّل و السؤال عمّا يجري فقيل لنا أنّ هذه هي ليلة العرض الأولى لمسرحيّة آرثر ميللر ( منظرٌ من الجسر A View from the Bridge ) و كانت الحشود المكتظّة حول المسرح تطمحُ في اقتناص لمحةٍ لمارلين مونرو ، و بعد أن لمحْتُ اسم أنتوني كويل Anthony Quayle على الملصقات الجداريّة ( و كنتُ التقيْته في حفلاتٍ سابقة ) وجدْتُ في نفسي شجاعةً للاقتراب من باب المسرح و المرور بين صفّيْن من رجال الشرطة ، و عندما بلغْتُ الباب سألت البوّاب ” أين أجدُ غرفة تبديل الملابس للسيّد كويل ؟ ” فجاءني الجوابُ على الفور ” الغرفة رقم واحد ، الممرّ الأوّل من اليسار تحت الممشى الرئيسيّ ” ، و عندما بلغْنا الغرفة وجدناها مكتظّة بالبشر و استطعْنا تمييز لورنس أوليفييه و فيفيان لي و العديد من المشاهير الآخرين بضمنهم مارلين مونرو الّتي كانت واقفةً لوحدها أمام مرآةٍ و هي تحاوِلُ إحكام شدّ فستانها الضيّق عاري الكتف و الصدر strapless حول جسدها ، و لمّا رأيتُها وحيدة تقدّمْتُ منها و قدّمْتُ نفسي بجرأة – و كنت قرأتُ عنها من قبلُ أنّها قارئة نهمة – ثمّ قدّمْتُ لها جوي زوجتي و بعدها ذهبنا للبحث عن أنتوني كويل فوجدناه و قدّمَنا هو بدوره إلى كلّ من فيفيان لي و لورنس أوليفييه و عندما سألْتُ أوليفييه عن صحّة الخبر الّذي يقول أنّ جون أوزبورن كان يكتبُ مسرحيّةً معدّة له أجاب بالإيجاب و طلب إليّ أنا الآخر كتابة مسرحيّةٍ له . كانت فيفيان لي تبدو ثملةً قليلاً و تُبدي نظراتٍ متغزّلة بمن حولها و عندما وجدْتُني وحيداً معها شعرْتُ بالحرج للطريقة الّتي كانت تحدّقُ بها في عينيّ و عندها تشجّعْتُ فأخبرتها كم كنتُ معجباُ بأدائها لدور كليوباترا في مسرحيّة شكسبير المعروفة و الّتي كنتُ شاهدْتُها مؤخّراً فَأجابتْني ” تعال لاحقاً لتراني و سنتكلّم طويلاً عن المسرحيّة ” ، و اكتشفْتُ بعد وقتٍ طويل أنّها كانت في هذا الطور من حياتها بالتحديد قد بدأتْ بإظهار علامات الإدمان الكحوليّ و الشبق الجنسيّ العنيف حتّى أنّها كانت تنامُ احياناً مع سائقي سيّارات الأجرة الذين يقلّونها !! . لم أعد اليوم أذكرُ من تلك الليلة شيئاً آخر باستثناء أنّ أحد كتّاب الأعمدة الصحفيّة الّتي تبغي الإثارة سألني ما الّذي كنتُ أفعله هناك فأجبْتهُ ببساطة أنّني حضرْتُ حفلةً و كنتُ أرجو رؤية إليوت فانتهيْتُ إلى رؤية مارلين مونرو ، و في اليوم الثاني ظهر هذا الخبر في أحد الأعمدة الصحفيّة مع تعليقٍ يقول أنّني أعتزِمُ كتابة مسرحيّة معدّة إلى أوليفييه ، و ربّما كان هذا النوع من الجماهيريّة الرخيصة المسفوحة على أعمدة الصحف الفضائحيّة الّتي تبغي الإثارة و التهويل هو ما يساعد في تفهّم موقف النقّاد منّي – و بخاصّة سيريل كونوللي ، و فيليب توينبي – الذين رأوا أنّني كنتُ أسرِفُ في خسارة مواهبي الثمينة ككاتبٍ جادّ ذي أصالة واعدةٍ.
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *