*عبدالله بن علي العليان
عندما برزت دعوات تفكيك النصوص الدينية في كتابات العديد من الباحثين العرب ـ على رأسهم د/ محمد أركون ، كان البعض من الباحثين يرى أن هذا المنحى التفكيكي ينبغي عند الأخذ به التمييز بين النص القرآني وغيره من النصوص، كالتفاسير والشروح والتأويلات التي يمكن النظر فيها ومراجعة مضامينها على اعتبار أن هذه الشروح والتفسيرات والتأويلات بشرية مع يقين هؤلاء بعدم جدوى هذا التفكيك لاختلاف الأفهام والمسلمات والنظرة إلى القيم عموما في عمل تلك المناهج الغربية لأسباب فكرية وفلسفية وقيمية.
وقد كانت مدرسة التفكيك إحدى نتائج الحروب الكونية التي حصدت عشرات الملايين من البشر في أووربا في القرن الماضي، مع أن هذه الحروب المدمرة جاءت بعد عصر الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي أسس وقنن قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية ضمن أولوياتها الفكرية والسياسية!! لذلك فان المدرسة التفكيكية لا تضع في اعتبارها المسلمات واليقينيات أو المطلقات الفكرية والدينية، ومن هنا فان بعض الباحثين يختلفون مع الذين يأخذون بالمنهج التفكيكي في إخضاع النص المقدس للمشرحة، وجاك دريدا نفسه احد رواد هذه المدرسة يرى أن التمركز على العقل الذي لاذت به الحضارة الغربية لم يكن أكثر من ميتافيزيقيا بديلة التي تطرحها الأديان ، مما يجعلها تتمركز على ذاتها المتعالية التي تبطل جميع معاني التي لا تطابق أو تتمثل للمنطق العقلي المتمركز غير المتناقض..
ويناقش الباحث قاسم شعيب في كتابه ( تحرير العقل الإسلامي ) دعوة أركون التفكيكية فيقول انه من غير الممكن ”القبول بالادعاءات التي تريد أن تجعل من النص القرآني نصا مختنقا بالتاريخ من خلال محاولة إخضاعه لمناهج نقدية حفرية أو تفكيكية تنتهي عادة بادعاء عبثية النص , أو نسبيته وتاريخيته بالمعنى الذي يحيل النص القرآني إلى نص لا يختلف عن أي نص بشري يتأثر بواقعه الاجتماعي والنفسي ولا يؤثر فيه , كما يتحدث عن ذلك علي حرب بقوله : (إن أركون إذ يتكلم عن القرآن ويستعيده ، فإنه يخضعه لمطرقته النقدية ، ويقرأ بعين حفرية تفكيكية محاولا بذلك استنطاقه عن مشروطيته وحديثيته . كما يكشف عن تاريخيته الأكثر مادية ودنيوية والأكثر يومية وعادية بل الأكثر شيوعا).
من الممكن أن يكون القرآن في بعض تشريعاته ـ كما يرى قاسم شعيب ـ متماهيا مع معطيات عصره ، مستجيبا لتحديات مرحلته كما هي مسائل العبيد والإماء وقضايا الزواج والإنجاب .. غير أن ذلك لا يمكن أن ينسحب على العقائد التي أسس لها والقيم التي دعا إليها ، لأن هذه العقائد في معظمها معطيات غيبية لا يمكن للعقل أن يعطي بشأنها أية أحكام ذلك أن عمل العقل يتوقف عند حدود ما يملك معطياته المحسوسة ، ولأن هذه القيم التي دعا إليها وشجع على ممارستها هي أمل الإنسانية الخالدة كما هي آمال العدل والحرية والأخوة والتسامح.
ويبقى التمييز بين النص الالهي الموحى ، والنص الإنساني المحدود تمييزا ضروريا , لأن هذه المناهج النقدية وجُدت بالأساس من أجل أن تطبّق على النتاجات الإنسانية التي عادة ما تكون محاصرة بواقع الكتاب وإطاره التاريخي في حين أن القرآن رغم صلته القوية بالواقع الذي نزل فيه ، إلا أنه كان مهيمنا على الواقع . إن الفرق هنا بين النص البشري والنص القرآني هو أن الأول يخضع للواقع ويهيمن عليه من أجل إصلاحه وتغييره وتطويره ، ثم ان الواقع لم يكن بالنسبة إلا مناسبة لإطلاق مقولاته ومفاهيمه عن الوجود والحياة وهي مقولات يمكن أن تعالج مشاكل حينية كما يمكن أن تعالج مشاكل لا تتحدد بمكان أو زمان.
ولذلك لا يميز الأستاذ أركون في هذا التراث الإسلامي بين نصوصه الدينية قرآنا وسنّة والإنتاجات الإنسانية المستلهمة لها ، فجميعها في نظره لا بد أن تخضع لهذه المناهج حتى يمكن الوصول إلى الذي يكون قادرا على تشكيل أساس صحيح لأية نهضة ممكن من خلال ( خرق الممنوعات وانتهاك المحرمات ) التي طالما حاصرت العقل والحركة التي ( أقصت كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولية والبدائية للإسلام ، ثم سكرت وأغلق عليها) كما يقول .
والإشكالية إن محمد أركون كما يقول شعيب يريد « إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن» من خلال التعامل معه كنص خصب خاض حوارات مفتوحة مع كل الذين اختلفوا معه وهو لذلك يقول : « إن الدراسة العلمية للمقدس لا تعني الانتقاص منه أو المس به ، وإنما تعني فهما أفضل لكل تجلياته وتحولاته، وتحذيرا لبعض الفئات أو بعض الأشخاص من التلاعب به لمصالح سلطوية أو شخصية ، ويمكنني أن أقول ـ والنص لأركون ـ (بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم ليس بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام وحتى بالمقدس الذي كان سائدا أيام النبي).
هذا الكلام غير المستساغ في مضامينه لا تجعلنا ـ كما يرى الباحث شعيب قاسم ـ نطمئن إلى مقولات أركون التي تدعي التجديد والكشف والحفر المنهجي ، بينما الأمر واضح وهو مساواة النص الإلهي بالنص البشري وهذه تقترب من الخطاب الفلسفي لمنهج التفكيك الفيلولوجي الذي جاء بعدما فشل البنيوي كما يقول التفكيكيون.
وإذا أردنا أن نناقش هذا الخطاب فإننا سنلاحظ عبثية هذا المنهج التفكيكي فالكثير من القضايا التي تطرح باسم التفكيك لايمكن تتوافق منهجيا لأنها مبادئ إنسانية عامة كما يطرح «فوحدانية الله ، ومسألة الخلق والفناء ، وقضايا القيامة والحساب والآخرة هي حقائق غيبية قدمها القرآن للناس . ورفض الظلم والاعتداء والقتل والإفساد والسرقة والغش .. والتشجيع في مقابل ذلك على العدل والإحسان والإصلاح والأمانة .. هي أيضاً مبادئ إنسانية لا تحدد بواقع ولا تخضع لتاريخ .. ولذلك فإن الله وهو ينزل قرآنه وضع في اعتباره قبل كل شيء مصلحة الإنسان بما هو إنسان وليس بما هو عربي أو أعجمي أو بما هو إنسان هذه المرحلة التاريخية أو تلك» .
إننا على سبيل المثال عندما نتعرض لمسألة الإرث في القرآن ونحاول أن نطبق عليها المنهج التفكيكي ، فإن الأمر ـ كما يقول شعيب ـ سيجرنا إلى الادعاء بأن هناك خلفية تاريخية واجتماعية جعلت الإسلام يقدم هذا الحكم الذي يجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل من الإرث ، وهي أن المجتمع الجاهلي كان مجتمعاً قبلياً وكان توريث المرأة ينتج تهديداً لسيادة قبيلتها في صورة زواجها خارج القبيلة ، لأن هذا الزوج الأجنبي سيصبح له مركز قوة داخل قبيلة زوجته لو كانت المرأة ترث مثل الرجل.
وهذا الكلام غير صحيح لأن المرأة لا ترث نصف نصيب الرجل بشكل دائم، بل إن الرجل الذي يموت وليس له إلا بنت واحدة، تنتقل ثروته كلها بشكل آلي إلى هذه البنت.ولو كان الإسلام ينظر إلى المسألة على طريقة التفكيكيين لحرم هذه البنت من جزء كبير من هذه الثروة. بل لو كان الأمر كذلك لحرم النساء عموماً من أي نصيب من الإرث،لأن النصف الذي أقره الإسلام يمكن أن يشكل صُداعاً متواصلاً لقبيلة المرأة المتزوجة خارج قبيلتها.
كما أن اللغة العربية لم تسلم من النقد الأركوني التفكيكي ففي مقابلة معه منذ عدة اشهر وجه نقداً عنيفاً للغة العربية ، ورماها بكل النقائص . وحمّلها مسؤولية التردي الفكري والتأخر العلمي والمعرفي والعنف السياسي في عالمنا العربي . ومما قاله أركون عن هذه اللغة أنها لم « تكسب بعد الأرضية المعرفية والآلات النقدية والمواقف الفكرية المنفتحة لعملية استدراج أو استنباط الإشكاليات التي تمكننا من تفهم وتفهيم التاريخ الذي نعيشه دون أن نتمكن من تسمية أو إعطاء أسماء باللغة العربية لهذه القوة العاملة يومياً في إنتاج حياتنا العائلية أو العامة» .
مجيباً على سؤال آخر ..ان « هذا النوع من الحياة الفكرية وهو مستوى الأساس للحياة البشرية لا بد أن يتمكن من نقد المبادئ ، وما نسميه القيم التي تبنى عليها معاملة الأشياء .بدون ذلك ننتهي إلى فوضى دلالية وحرج على كل أحد ، وهذا كله يؤدي إلى العنف ، لأن الإنسان لا بد أن يخرج الأشياء التي تضغط على حياته ، وإذا لم يخرج الأشياء التي تضغط عليه ، سيعبر عنها بالعنف ، وهنا نلتمس ما يربط اللغة بالعنف».
والحقيقة أن هذه الإجابات الأركونية عن اللغة العربية تجعل الحيران يزداد حيرة فيما يفكر فيه هذا المفكر حسب نعت البعض ، وهو الذي لا يكف عن طرح الفكرة التي تقول أنه مشغول بأللا مفكر فيه في الفكر الإسلامي ، فهل إشكالية اللغة العربية مع الواقع العربي الراهن كما يقول أركون أنها تقع ضمن أللا مفكر فيه منذ الزمن ، وحان الوقت الآن أن يفككها أو يكشفها كما يردد كثيراً عبارات من أمثلة ـ المستحيل التفكير فيه ـ المتنكر ـ المكبوت والمتبقي ـ المنسي ـ الذي يقع خلف الحد ـ إلى آخر المصطلحات التي يرددها في مقابلاته وأبحاثه ،أو كما قال في بعض كتبه (نأخذ بعين الاعتبار الروابط بين اللغة ـ التاريخ ـ الفكر) . ونحن في السياق نود طرح آلاتي:
أولا: ما دخل اللغة العربية فيما يجري في راهننا العربي الاجتماعي والسياسي ؟ وهل اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن قضايا الأمة وآمالها وآلامها والتكيف مع تطلعاتها في التطور الخ : هذا الكلام غير المنطقي وغير الموضوعي يجعلك تستغرب أن يقول محمد أركون ما قاله وهو الذي يتحدث كثيرا عن المنهجية، والعلمية ،ونقد الأمور بواقعية ، وهل ما يقوله يمكن أن يقتنع به أحد. ذلك أن تأخرنا وتراجعنا معرفياً وتكنولوجياً لا دخل له بلغتنا، أو ديننا، أو ابتعادنا عن العلمانية كما يصور ذلك أركون كثيرا من مؤلفاته ومقارباته للواقع العربي القائم..كما أن العنف والتطرف الذي يجري في وطننا العربي، لا دخل فيه للغة العربية وهي بريئة منه كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام .
والغريب أن محمد أركون لا يكف عن مدح عقلانية ابن رشد، ودقة علم العمران الذي أنجزه ابن خلدون في الاجتماع البشري،والتعليل السوسيولوجي للعصبية الخ ،وكذلك غيرهم كابن طفيل والفارابي وابن حيان وابن مسكويه . ويتمنى أن تكون أفكارهم قائمة ورائجة ، وهؤلاء كلهم كتبوا علومهم الإنسانية وأفكارهم الفلسفية باللغة العربية ، فلماذا تنجح آنذاك وتتقهقر الآن؟.
وإذا كان محمد أركون يعتقد أن اللغة الأجنبية ـ كالفرنسية مثلاً وهو معجبٌ بها كثيرا ـ يمكن أن تكون اللغة البديلة أو الشريكة على الأقل في مدارسنا ومعارفنا وتفكيرنا ـ فإن هذه الازدواجية ـ كما يقول د/ بسام بركة تشكل خطراً على الأمة ومستقبلها « بل نؤكد ـ كما يشير بركة ـ أن تحصيل المعارف والدخول في دائرة النشاط البحثي المتطور لا يتمان إلا عن طريق اللغة الأم .وأكبر دليل على ذلك أن أجدادنا لم يصلوا في القديم إلى ما وصلوا إليه من المستويات العالية من العلم والطب والفلسفة وغيرها ، عن طريق تعلم اليونانية أو الفارسية أو الهندية ، بل عن طريق استيعاب علوم الأمم التي تتكلم هذه اللغات باللغة العربية ، أو عن طريق الترجمات من هذه اللغات إلى اللغة الأم».
كما ربط د/ محمد أركون بين العنف في عالمنا العربي واللغة كانعكاس على أزمة اللغة العربية ، وهذا بلاشك ارتباط غريب وعقيم في نفس الوقت ، فالعنف الذي يجري في عالم اليوم ظاهرة عالمية أو عولمية ،ولا يجوز اختزالها في امة أو حضارة أو لغة، فظاهرة العنف والتطرف ظاهرة مركبة ومعقدة ومن الأنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة ولا تقف عند عامل واحد فقط ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كله وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط .
قضية إخضاع النص القرآني للتفكيك والنقد التاريخي مسألة تحتاج مراجعة من أصحابها لأن المماهاة بين النص الدين المقدس والنصوص البشرية ليست مقبولة ولايمكن أن تستساغ لا عقليا ولا دينيا،حتى ولو ادعى البعض أنها مناهج حديثة وتكمن الاستفادة من أدواتها للمقاربة والاستنطاق المعرفي.
_______
*جريدة عُمان