*هيثم حسين
ترفع السورية هيفاء بيطار في روايتها “امرأة في الخمسين”، الصادرة عن “دار الساقي ببيروت، الصوت عاليا في وجه السلطة الذكوريّة التي لا تزال متحكّمة بمفاصل الحياة الاجتماعيّة والأسريّة في المجتمعات الشرقيّة، وتسعى إلى كشف أوراق التسلط الذي يمارسه الرجل في حقّ المرأة، وابتزازه لها بشتّى السبل، لإبقائها رهينة رغباته وتصوّراته.
تدين الكاتبة الذهنيّة الفحوليّة التي تتعامل بنوع من الاستعلاء والفوقيّة مع المرأة، وتبرز حالات من الخداع والتضليل يقوم بها بعض المدّعين ممّن يصنّفون أنفسهم كمدافعين عن حقوق المرأة في حين أنّهم من أشدّ المسيئين لها، والمستغلّين لحاجاتها، وتراههم يستعينون بمزاعم الدفاع عنها للإيقاع بها، وتقديمها قربانا على مذبح رغباتهم وشهواتهم ونزواتهم المرضيّة.
تستهلّ الكاتبة روايتها بسرد بضمير الأنا، إذ تسرد راويتها التي تبلغ الخمسين عاما، موقفا جمعها مع ناقد نال عديد الجوائز، يدّعي دفاعه عن حقوق المرأة ّ، لكنّه في أعماقه يحتقر المرأة المتحرّرة، ويحاول ابتزازها، وهذا ما ينجح فيه مع الصحافيّة التي تحظى منه بحوار حول تجربته، ليوقعها في شراكه ويحظى معها بليلة حمراء، ثمّ يبقيها أسيرة تندّمها اللاحق.
الحقيقة والوعي
تبرز بيطار من خلال شخصية الناقد الازدواجيّة التي تسم تصرّفات كثير من المدّعين دفاعهم عن حقوق المرأة وقضاياها، وكيفيّة استغلالهم لتلك الادّعاءات وتحويلها إلى فخاخ وشراك للإيقاع بالمرأة، وإيهامها أنّها تكمل ثورتها المفترضة، في حين يتركها نهبا للقلق والوساوس والندم بعد هجرانه لها، وإقراره في قرارته أنّه لا تعدو كونها أداة أو سلعة لبلوغ النشوة والذروة.
الناقد الذي يمطر الصحافيّة الخمسينيّة، وهي الراوية غير المسمّاة، بالمديح، ويغدق عليها الإطراء والغزل، ينتقد زوجته الخمسينيّة ويرسم لها صورة قبيحة، زاعما أنّ السنين نالت منها، فبدت ذاوية. في حين يستعرض قدراته الجنسيّة وفتوّته، ويلهج بالفخر والاعتزاز بنفسه رغم أنّه يكبرها، ولا يعترف بأخطائه أو حقّ الزمن على الجسم.
رغم احتقار الصحافيّة للناقد المدّعي وبخله الفاقع، تنساق وراء تغزّله بها، تظنّ أنّها ستلقّنه درسا لن ينساه، حين تؤكّد له أنّ المرأة الخمسينيّة ليست بتلك الصورة السيّئة التي يرسمها لها، وأنّها لا تزال على ألقها، ولا يجوز اقتصار الأنوثة والجمال على تفاصيل بعينها، وسلبها جمالياتها بمجرّد بلوغها هذه السنّ، وكأنّها قد بلغت سنّ اليأس، في الوقت الذي تصفه بأنّه سنّ الحقيقة والوعي والصدق مع الذات والآخر.
تترك الروائيّة الناقد وتغضّ النظر عنه كشخصية فحوليّة، لتعود إليه في نهاية الرواية؛ تلتفت إلى معاناة كثير من النساء ممّن بلغن سنّ الخمسين، وإلى النظرة الاجتماعية المحيطة بهنّ، أو تلك التي تبقيهنّ أسيرات عمر يوجب عليهنّ الانزواء والابتعاد عن الصدارة، وإفساح المجال لغيرهنّ، وكأنّ دورهنّ المفترض في لعبة الحياة قد انتهى، وما عليهنّ إلّا تقديم استقالتهنّ والمضيّ إلى النسيان واليأس من دون أيّ ضجيج.
الاعترافات تحتلّ حيّزا هامّا في الرواية إذ تشكّل نوافذ لولوج عوالم يجري التعتيم عليها واقعيّا، وذلك من باب زعم المحافظة على التماسك االأسريّ، وعدم إيقاظ الفتن النائمة، وهي التي تظلّ بؤرا مرشّحة للتفجّر كلّ لحظة، لما تستبطنه من مآسٍ وآلام، وما تتسبّب فيه من جرائم وآثام.
تسير الاعترافات في مختلف الجهات، تفتح جبهات على أصناف متعدّدة من الرجال، والنساء المعترفات يتحلّين بالجرأة على تقديم كشف حساب لأنفسهنّ وصديقاتهنّ، كحالة فابيولا التي تعرّضت لانتقام وحشيّ من قبل زوج كان يطمع في ثروتها، وقرّر الانتقام منها ونشر إشاعة أنّه ليس والدا لابنها، وأنّ ابنها غير شرعيّ.
خارطة العنف
تحكي الراوية كيف أنّ فابيولا تقرّر تأسيس جمعية للنساء الخمسينيات والستينيات، لتساعدها في ذلك، وتمضي في المشروع إلى نهايته، بحيث تضع حجر الأساس لفكرة الانتصار للمرأة وتقديم تجارب ونماذج ناجحة، أو تساعد على ترميم جروح بعض من تعرّضن للإيذاء والإجرام من قبل شركائهنّ أو أهلهنّ.
الجمعيّة المفترضة تغدو واقعا، تجتمع فيها النساء الخمسينات والستينات، يبحن بأسرارهنّ، ويكشفن عن تفاصيل حميمة لم يسبق لهنّ الكشف عنها، ويقدّمن أوراق اعتمادهنّ لبعضهنّ البعض كصديقات متكاتفات معا، ساعيات إلى ردّ الاعتبار لأنفسهنّ وبنات جنسهنّ، عبر سلطة البوح والمكاشفة والاعتراف، ولا يخلو الاعتراف من تقريع وجلد للذات، بحيث يحمل العبر والحكم والدروس للأخريات.
تسرد الراوية حكايات كثير من النساء عبر اعترافاتهنّ المؤلمة، والتي تحمل مفارقات على هامش ما يجري في مجتمعات ترفع الفضيلة شعارا في حين أنّ الرذائل تغرق تفاصيلها ومختلف مناحيها، من بين أولئك النساء “فتون، كاتيا، وفاء..”، حيث تكون حكاية كلّ واحدة منهنّ مدخلا لتسليط الأضواء على جانب من الجوانب التي يتمّ هدر شخصية المرأة وحقوقها فيه.
تبرز بيطار حجم الفساد المرعب المنتشر في ثنايا المجتمع والمتغلغل في كلّ تفاصيله، وتورد جوانب من الممارسات الشائنة التي تحضر في السياق، والتي تكون مساهمة في تفتيت البنية الأسريّة والاجتماعيّة، كبعض حالات سفاح القربى، والتحرّش بالفتيات في المنازل، والخشية من التصريح بذلك والتغاضي عنه باعتباره قد يتسبّب في فضيحة أسر برمّتها، بالإضافة إلى حالات الوصاية الذكوريّة التي يمارسها كثير من الرجال، وكأنّهم أرباب، وقمع المرأة وتهميشها، والضغط عليها لدفعها إلى القبول بحالة السجن الطوعيّة التي توضع فيها.
تؤكّد الروائيّة، التي دافعت في معظم أعمالها عن قضية المرأة، وسعت إلى التخفيف من أعباء التخلّف الاجتماعيّ والقهر والهدر الممارسين في حقّها، على أنّ قضيّة المرأة تظلّ من أبرز القضايا التي يستحيل من دونها تحقيق أيّ تطوّر، وأنّه لا بدّ من التحلّي بجرأة الكشف عن المخبوء وفضح الممارسات التي تجري في عتمات البيوت، خلف الأبواب المغلقة والستائر المسجلة، وأنّه لا بدّ من وقفة مع الذات ومواجهتها، وإن كان عبر نكء الجراح، أو ذرّ قليل من الملح عليها للإفاقة والإيقاظ والتنبيه عبر الإيلام لتلافي الآلام المتعاظمة.
_______
*العرب