*نذير الماجد
ما حدث جدير بمنعطف تاريخي: “شارلي إيبدو”، الصحيفة الساخرة التي ما فتئت تبث “سمومها” منتهكة كل حساسية أصولية، تصبح علما ومحطة و”منهاتن جديدة”.
هذه المرة يستهدف الارهاب رمزا لمغايرة هازئة. السخرية انتهاك لا بد من أن يواجه في المشروع الإرهابي بانتهاك أشد ضراوة، انتهاك مرئي وأكثر فتكا وصخبا. وإذ يفعل ذلك فهو يفصح أكثر عن جوهره بصفته فعل هيمنة وإكراه وسلوك دموي بحت.
كان على الإرهاب أن يتدخل ليحسم، إذ من الطبيعي أن يستثير الخطاب الساخر المستفز شهية القاتل، فما عاد الرأي يقابل بالرأي، والسخرية بالاحتجاج، كما كان سابقا، وإنما – هذه المرة – بسلاح الموت، ذلك الحل النهائي والسحري، سلاح من لا سلاح له.
هذه الحادثة المتوقعة بقدر ما هي صادمة ومروعة، تكشف عن خطورة وتهديد مزدوجين، الارهاب من جهة والغرب السياسي من جهة أخرى، الندان الأبديان في رقصة البداهة، فإذا كان على الإرهاب أن يؤكد طابعه التصفوي الجاهز دائما لحسم الاختلافات الفكرية دمويا، فإن المهيمن السياسي سيجد فيه تبريرا سهلا – كسهولة استهداف شارلي ايبدو – للهيمنة واستراتيجيات القمع. في الحالتين ثمة نقاء متخيل، غير مسموح العبث به أو تلويثه، حيث هناك دائما وأبدا آخر شيطاني يتوجب شطبه.
هذا النقاء المتخيل من شأنه أن يؤدي إلى بداهة ناجمة عن شفافية الأخلاقي المكتمل والنقي، الخير في حالة الذات أو الشر في حالة الآخر، بداهة تأسر القراءة وتعيث فيها فسادا، تقلب الجوهري إلى عرضي، والعرضي إلى جوهري، تفصل المتصل، وتوزع الإدانات اعتباطيا، وتجعل من الأسئلة والتشكيك والتعمق الفلسفي، تهديدا وجوديا موازيا للإرهاب ذاته، وما الكتابات المستبعدة لنعوم تشومسكي، فيلسوف اللغة والفاضح الأكبر للغطرسة الغربية والأميركية إلا شاهد يحضر هنا ليكشف جبل الجليد العائم.
هذا النقاء وقد صار بداهة يؤول في تجلياته القصوى إلى فوضى تشل القراءة جاعلة من المفاهيم – الارهاب مثلا – أداة طيعة للتوظيف الانتهازي. تحويل الأيديولوجي إلى بديهي خاصية أساسية لهذا النقاء المزدوج، يترجم تارة في شكل حقيقة تيولوجية متعالية ونهائية (الإسلام الصحيح)، وتارة أخرى في شكل مشروعية سياسية ومدنية يتبجح بها الغرب.
البداهة بصفتها حقيقة فعل سلطة تفرض مفهومها وتعريفها الخاص، يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار “أن لا تعتبر الهيمنة في شكلها المعولم بداهة هو أمر إجرامي في نظر الفكر الوحيد والأفق الاجماعي للغرب. على أنه لا حاجة لأن يكون المرء إسلاميا أو داعيا إلى حقيقة عليا كي يجد أن هذا النظام العالمي غير مقبول. وسواء أكان هذا الرفض الأصولي إسلاميا أم لم يكن فنحن نشارك فيه”.
كل شيء إذن يرقص ويلعب في مسرح من البديهيات، فمن البديهي أن يبدو الإرهاب عرضا طارئا وشذوذا متأصلا في الشر، إن الإرهاب عنف غير مبرر إلا باعتباره “صرخة مرتجفة” لثقافة محتضرة مطرودة من فردوس العولمة. لكنه أيضا في بداهة الخطاب الغربي المهيمن هو العنف الذي ينبغي استئصاله، ولكن باستعارة بنيته القمعية الماثلة في الاستراتيجيات الأمنية التي هي ليست سوى إرهاب يُراد له أن يكون شرعيا، وهكذا تكتمل رقصة البداهة: الرعب ضد الرعب، الارهاب ضد الارهاب.. موت مقابل موت.
لكن ما هو غير بديهي الهيمنة، الوجه الآخر للإرهاب والذي يشترك معه في رقصة البداهة، ما هو غير بديهي السياسة العنصرية الإسرائيلية وريثة “الأبارتايد” في جنوب أفريقيا، ما هو غير بديهي الكيل بمكيالين في كل مكان تهيمن فيه السياسة الغربية، اقتلاع نظم استبدادية لأنها عصية ودعم أخرى لأنها حليفة “أي تابعة”، اعتبار كل ما سوى الغرب حديقة خلفية، أو مسرح لرقصة البداهة الاستعمارية، الاستخدام الانتهازي القذر للأصولية والتطرف حيثما تشاء المصلحة الغربية.
ما هو غير بديهي أيضا ذلك التلازم القدري بين الإرهاب وأصله الماثل في العولمة الأحادية المرتكزة على الهيمنة والإكراه، هذا العنف المنتشر كفيروس ليس سوى “الظل الملازم لكل نظام هيمنة” على حد تعبير بودريار، بحيث يبدو كل شكل معارض، كل اعتراض، كل إرادة سياسية للاستقلال والتفرد والتمكين الوطني، كل ذلك هو “بالقوة إرهابي”، إن لم يكن بالفعل.
ثم متى كان العنف منتجا أصوليا إرهابيا حصرا؟ العنف – تماما كالرعب – هو في كل مكان. هكذا يقرأ بودريار الإرهاب خارقا قواعد البداهة، إنه “المبدأ الإرهابي وقد عمم على كل السكان، تلك هي الفرضية الضمنية للسلطة: إن السكان أنفسهم هم تهديد إرهابي لها. والإرهاب في فعله يبحث عن هذا التضامن مع السكان دون أن يعثر عليه”.
هكذا تمثل الحادثة صرخة وفضيحة في الآن نفسه: فضيحة “بونوغرافية” لراقصة البداهة العارية، وصرخة ضد كل وجوه الإرهاب المختبئة تحت ألف قناع ومليون قفاز، صرخة صدح بها فيلسوفنا عشية أحداث 11 سبتمبر/أيلول حين صرخ في وجوههم: كل استراتيجياتكم “الأمنية” ليست إلا امتدادا للإرهاب!
______
*ميدل إيست أونلاين