*الخير شوار
يستعيد الروائي بشير مفتي في روايته “غرفة الذكريات” -الصادرة عن “منشورات الاختلاف” الجزائرية و”منشورات ضفاف” اللبنانية- حقبة زمنية مفصلية في تاريخ الجزائر المعاصر أعقبت أحداث الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988، وبلغت ذروتها منتصف تسعينيات القرن الماضي مع الأزمة الدموية التي عرفتها البلاد في ذلك الوقت.
ورغم أن الرواية تبدأ من عام 2010، وينطلق بطلها “عزيز مالك” من السرد من لحظة ميلاده قبل ذلك التاريخ بخمسين سنة في حي شعبي اسمه باش جرّاح (بالجزائر العاصمة)، فإنه سرعان ما يعود إلى البداية الحقيقية بُعيد عام 1988 عندما تشكّل وعيه في آخر مراحل دراسته الجامعية وحلم بكتابة رواية قرأ في سبيلها مئات الكتب في القصة والرواية، لكن أمله تأجل عشريتين من الزمن ولم تحدث لحظة انفجار النص عنده إلا عندما تلقّى رسالة من حبيبته القديمة ليلى مرجان سنة 2010 وقد هاجرت قبل ذلك سنين إلى كندا، لتعيد له رسالتها شريط حكايته، فتتزاحم الذكريات ويأتي هذا النص المتشعب خلاصة لتلك الحكايات التي كانت أحد تجليات جزائر في لحظة تحوّل مصيري كان مخاضه عسيرا ودمويا.
وطن من القلوب
كان يمكن أن تسير أحداث الرواية في اتجاه خطي، كأن يوفق الرواي -مثلا- في تحقيق حلم الكتابة منذ اكتشافه لذة الأدب في بداية تسعينيات القرن الماضي، أو في لحظة اغتيال صديقه جمال كافي بطريقة مأساوية، أو انتحار صديقه الآخر سمير عمران، وقد جمعهم جنون الأدب والحياة وفرّقتهم الأحداث الدموية.
ويبدو أن الروائي اختار طريقا أصعب عندما دفع “بطله” إلى حالة من اليأس استمرت سنين طويلة عاش فيها تحولات عميقة أصابته في الصميم، واقتنع في لحظة ما أن واقعه كان أكثر مأساوية وغرائبية مما قرأه في الروايات، ولم تحدث لحظة انفجار النص في ذهنه إلا عندما تلقى رسالة مفاجئة من “ليلى مرجان” المرأة الجميلة التي عاش معها أطوار قصة حب انتهت قبل أن تبتدئ.
وكان يمكن أيضا أن يكون تسلسل الأحداث خطيا بعد ذلك لكنه جاء بشكل مختلف، فكل شيء كان مبنيا على التذكر الذي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة، وتزداد هذه العملية صعوبة مع مرور الصفحات، ويكون فيها السارد مجبرا على التحكم في كل عناصر الحكاية، وتكمن صعوبتها أكثر في استخدام أحداث حقيقية من تاريخ الجزائر في تسعينيات القرن الماضي إطارا لتلك القصة، حتى كأن السارد يروي قصته الشخصية التي حدثت فعلا، لا قصة متخيلة، حيث إن التقديم والتأخير يعرّض النص لبعض التناقض.
والرواية التي تستهل بمقولة للفنان فان غوغ “الوطن ليس فقط نقطة في الأرض، بل هو أيضا مجموعة من القلوب البشرية التي تبحث عن قاسم مشترك، تتحسسه وتنعم به”، بحثت مصائر مجموعة من “القلوب” التي تآلفت في لحظة مصيرية من تاريخ الجزائر، لكن الواقع كان أكبر من أحلامها، ففرقت بينهم السبل بين الهجرة والانتحار والاغتيال والموت غير المعلن للبطل الذي تحوّل للعمل بإلحاح منها في قسم الأرشيف في مؤسسة إعلامية حكومية كبيرة، قاتلا بذلك طموحه الصحفي وكأنه ينتحر بطريقته الخاصة ليكون رجل ظل يعرف حقائق مفزعة عن الواقع دون أن ينقل تلك الحقائق للناس.
تجربة سيزيفية
يواصل الروائي بشير مفتي في هذا المتن الجديد رحلته الروائية التي بدأها في نهاية تسعينيات القرن الماضي مع صدور أولى رواياته “المراسيم والجنائز”، ولعل أبرز قاسم مشترك بين رواياته التسع المنشورة (المراسيم والجنائز، وأرخبيل الذباب، وشاهد العتمة، وبخور السراب، وأشجار القيامة، وخرائط لشهوة الليل، ودمية النار، وأشباح المدينة المقتولة، وغرفة الذكريات) هو الاشتغال على حيّز زمني محدّد في تاريخ الجزائر المعاصر، يمتد من نهاية الثمانينيات إلى حوالي منتصف تسعينيات من القرن الماضي، وأهم ما يميزه هو أحداث الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988 التي غيّرت وجه البلاد وأنجبت تعددية حزبية انتهت بإلغاء المسار الانتخابي والدخول في دوامة دموية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس.
والملفت أن مفتي في كل مرة يتناول تلك الحقبة التاريخية بشخوص مختلفة في تجربة تشبه ما قام به “سيزيف” في الأسطورة الإغريقية القديمة الذي حُكم عليه بأن يرفع صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل لتسقط ثم يعيد حملها إلى ما لا نهاية.
ويبدو أن مفتي الذي ينتمي أدبيا إلى الجيل الذي فتح عينيه وسط تلك التحولات، سيواصل الكتابة عنها إلى أجل غير مسمى.
ولفتت تلك التجربة الروائية الانتباه وبلغت نجاحها مع دخول روايته “دمية النار” اللائحة القصيرة لجائزة البوكر.
______
*الجزيرة