*محمد إسماعيل زاهر
ربما يأتي مطلب التنوير على رأس الأولويات الثقافية التي يضعها الكثيرون في مقدمة ما ينادون به أو يتحدثون عنه خلال الأربعة أعوام السابقة، يؤكد ذلك الحوارات والمقالات وحتى المؤتمرات التي تناولت جميعها الوضع المتأزم في بلدان ما أطلق عليه “الربيع العربي” بصفة خاصة، أو من خلال متابعة من تعاطي مع واقع وأزمات الثقافة العربية بصفة عامة .
إن التنوير سردية متكاملة لها تاريخ وتوزيع جغرافي وقيم وأعلام وقضايا ومعارك و”خصوصية” عربية، ويبدو كذلك، حتى لا نقع في مطب جلد الذات أو النزعة التشاؤمية أنه يعاني كبوة داخل الفضاء الذي أنتجه، يظهر ذلك في كثير من الكتابات الغربية التي حاولت استعادة روح التنوير، ومنها كتاب تودوروف “روح الأنوار”، فهاجس العودة إلى إرث التنوير ملح في هذا العمل وغيره، وهذا الهاجس يتأسس على مقدمات وظواهر “تتشابه” مع أوضاعنا و”تختلف” عنها في الوقت نفسه، فكثيرة هي الطروحات التي تحذر من انحطاط ثقافي تعيشه بلدان المركز التاريخي، ما يقع في خانة “التشابه” ويمنحنا بصورة أو بأخرى راحة الكسل الفكري وإحساساً بالتعويض النفسي، وهو “تشابه” ظاهري يختلف في تفصيلاته عن إشكالياتنا الثقافية المزمنة .
في سردية التنوير هناك التجربة الفرنسية والإنجليزية والأمريكية وأيضاً الشرقية، وهناك تنوير القرن السابع عشر والثامن عشر . . إلخ، وبإمكاننا أن نضيء على هذا المفكر أو ذلك الفيلسوف، وتتسم الحالة العربية، وأيضاً إذا نظرنا إليها بسرعة بقضايا تعاني الثبات وعدم الحسم والتكرار، هو السكون لمن لا يتعمق في مجتمع متغير باستمرار، الأمر الذي أكسب دعوات التنوير ومحاولات الإحياء والجهود المبذولة في هذا الجانب ثباتاً ودائرية لا فكاك منها .
لقد اعتبرت العقود الممتدة من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ذروة التنوير العربي، وتأكد هذا الانطباع مع كل من ينادي الآن بالتنوير بالعودة إلى قضايا ورموز هذه الفترة، وأضيف لها الفكر المستنير/ الحر/ المضطهد من حقب تاريخية عربية قديمة أثناء لهاث معظم مفكرينا وراء التأصيل للحداثة في التراث العربي .
إن قضايا المرأة وإصلاح الخطاب الديني وتطوير اللغة العربية والانفتاح على الآخر . . . إلخ وهي أبرز ما ناقشه التنوير العربي في العصر الحديث لا يمكن أن تكون كما هي الآن بأطرها المرجعية وآليات ووسائل البرهنة عليها، فبالتأكيد هناك الكثير من المتغيرات لمن يعمل النظر .إن ما كتبه علي عبد الرازق في “الإسلام وأصول الحكم” في عشرينات القرن الماضي لا يختلف في روحه عن عشرات، بل مئات الأعمال التي صدرت منذ سبعينات القرن نفسه وحتى الآن، وتظهر تهافت الجماعات المتشددة وتعطي الأولوية في ديننا الحنيف للأخلاق والعمل الصالح، وذلك برغم تغير البيئة ومتلقي الفكرة نفسها، ولكن يبدو أن الثابت في هذه الأطراف جميعها هو المثقف العربي بأدواته ومناهجه وانعزاله عن المجتمع، وبإمكاننا أن نتابع هذه الظاهرة في المسائل والقضايا الأخرى، فكثيراً ما تلمح دهشة الطهطاوي إزاء الآخر وإحساس خير الدين التونسي به وانعكاسات ذلك على الذات وتقييمها لاحقاً في كثير من كتابات مثقفينا الراهنة، فليست الأنا هي الثابتة، بل الآخر أيضاً .
لقد تأسس التنوير على مجموعة من الأفكار لعل أبرزها، وما يدور حوله الكثيرون أو يمكن استنتاجه من كتاباتهم ينطلق من دعوة كانط المتعلقة بشجاعة إعمال العقل بصورة فردية، ما يستلزم السعي إلى التثقيف الذاتي أو الحصول على المعرفة، وهو ما نجد صداه عربياً من خلال دعوات نادى بها الكثير من المثقفين أو مشروعات مؤسساتية تبنتها عدة بلدان عربية، ولكن المفارقة الآن والتي تُناقش تنظيريا في طروحات “الآخرين” تتمثل في سيولة المعرفة، لقد وفرت التكنولوجيا الحديثة ما كان يحلم به بورخيس يوماً ما في اختراع كتاب واحد يضم شتى أنواع المعرفة، نجده في تلك الموسوعة الكونية المسماة بغوغل والشبكات ومواقع التواصل الأخرى، لقد أصبحت المعرفة متاحة بصورة لم يسبق لها مثيل بحيث تبدو ملقاة على قارعة الطريق، بينما تعاني الأفكار الجديدة شحاً واضحاً، ومن هنا المفارقة وضرورة التفكير في جدل التنوير وروح العصر من وجهة نظر مختلفة، فهل حققت هذه المعرفة المتاحة والمجانية والتي حلم بها الجميع منذ أن تعلم الإنسان كيفية التعبير عن أفكاره أي نقلة نوعية على صعيد إعمال العقل بما يضمن استقلاله وعدم تبعيته للآخرين؟، الأمر الذي ينتج تلقائيا القدرة على الحوار ويشيع التسامح والتعرف عن قرب إلى الآخرين، ولماذا يتحدث الجميع الآن عن انحطاط وتراجع ثقافي “هنا” و”هناك”؟ وهل تستدعي طبيعة هذه التكنولوجيا إعادة تعريف الثقافة بأبعادها المختلفة: منتج، مثقف، ومتلقٍ، جمهور، ومحتوى؟ فهذه التكنولوجيا لا يمكن الحديث في ظلها عن ثقافة نخبوبة عالمة أوثقافة شعبوية مهمشة . وإذا كان التنوير مطلباً للجميع، فما هي القيم التي تشيعها تلك الموسوعة الكونية؟، لقد اتسم التنوير في تجاربه كافة بالتفاؤل والإحساس بالقدرة على الإنجاز والشعور بالسعادة والصدق في التعبير عن الذات والهويات القوية الحقيقية المنفتحة وإعطاء الأولوية للعقل المؤسس على المصلحة والإرادة .
إن عصر المعرفة الملقاة على قارعة الطريق خذل الجميع، “هناك”، حيث حذر ماريو بارغاس يوسا من عصر معتم مقبل ستتراجع فيه الثقافة بكل مضامينها الإيجابية إلى الوراء، و”هنا” فبخلاف تسيد السيئ في الإنتاج الأدبي والمعرفي وتدهور الذائقة الجمالية تزدهر الرؤى القمعية والإقصائية للآخر، بل والرافضة للثقافة نفسها .
_____
*الخليج الثقافي