رائحة الجوافة وفيرجينيا وولف



*لطفية الدليمي

غادرت مدى الرؤيا ووجدتنا نجلس في مقهى على رصيف مدينة مدارية ربما هي مدينة قرطاجنة الساحلية . وكان الحر مهلكا وقد فاحت روائح الثمار العفنة التالفة من دكاكين الباعة ، قلت لي أنك تميز رائحة الجوافة بين جميع الثمار التي يلقونها في زوايا الشارع ، وقلت أنها فاكهة رمزية تمثل رائحة المدن الكاريبية الحارة ونساء الحانات والبحارة الثملين والخمرة الرديئة وأحلام القراصنة ووتيرة الفناء المتسارعة. 

سألتك أن تحدثنا عن فيرجينيا وولف التي أعشق أعمالها ، لكنك رويت لنا قصصا عن نساء عائلتك وقدراتهن الخارقة في التنبؤ : خالتك فرانسيسكا التي رأيتها تنسج كفنها وكنت في الثانية عشرة وسألتها : لمَ تصنعين كفنا ياخالتي ؟ فأجابتك : لأنني سأموت ياولدي. وعندما أنهت نسج كفنها استلقت على السرير وأغمضت عينيها وماتت ،كنت الصبي الوحيد بين حشد من النساء وبينهن عرفت قوة الأنوثة ومعجزاتها واختلافها الجوهري عن عالم الرجال.
احتسينا شاي المتّة بقصب من قش وشاركنا أصدقاؤك ميندوزا ورامبووكافكا ،وسمعتك تصف لهم صديقك نيرودا بأنه ميداس الشعر فكل مايلمسه يصير شعرا صافيا ، واستغرَقَنا حديث ممتعٌ عن الصداقة بين النساء والرجال واعترفت لكم : لدي أصدقاء رجال أكثر من النساء فمعهم يمكن أن نتحاور في الفلسفة والتصوف والفنون والعلم والأدب، وقلت إنك تؤثر صحبة أصدقائك الرجال على النساء لأنك تشبعت بإشعاعات الأنوثة في صباك عندما كانت جدتك دونا ترانكلينا تروي لك القصص وتتحدث مع الأموات كأنها تجالسهم، وكانت خالاتك يبحرن في الذكريات والأحلام ولا يفرقن بين السعادة والجنون ، وبفعل الغرائب التي اعتدتها منهن تعاملت مع الأمور الاستثنائية الخارقة على أنها أمور واقعية فالواقع كما ترى أشد غرابة مما نتخيل.
طافت أشباح الجدات حولنا وأحسست بحفيف أثوابهن وكنت تضحك وتشير إلى شيء في الفراغ وتقول : إنها جدتي ترانكلينا التي استخدمت أسلوبها في الحكي لكتابة روايتي “مائة عام من العزلة” فلا تخافوا.
سألك ميندوزا متحفزا : أنك تذكر هذه الرواية كثيرا لكنك تحب “خريف البطريارك” جدا وتتنكر غالبا لمائة عام من العزلة ،لماذا ياصديقي؟ 
همست بشيء من المرارة : 
-“مائة عام من العزلة” كانت رواية دعابة ، ونجاحها دمر حياتي تقريبا ، واضطرب كل شيء بعد نشرها، الشهرة تؤدي إلى اضطراب إحساسك بالواقع – مثلما تفعل السلطة بالمرء – وتواصل تهديدها لحياتك الخاصة ومهنتك، لم يكن نجاح مائة عام من العزلة عادلا فخريف البطريارك هي إنجازي الأدبي الأهم.
سألتك ثانية عن فيرجينيا وولف التي عانت من جنونها فانتحرت بوضع الحجارة في جيوب معطفها لتضمن الغرق في النهر، أطرقت وتراءيت لي مسحورا وأنت تقول بصوت كأنه آت من مدى ناءٍ :حينما هجرت الجامعة نهائيا وصرت أعتاش من تجوالي لبيع الموسوعات والكتب الطبية في شبه جزيرة جواجيرا ذات الرمال الحارقة ، أقمت في فندق رخيص مع سائقي الشاحنات والعابرين و كنت أقرأ بنهم واكتشف الكتّاب الإنجليز والأميركان وأمست فيرجينا وولف السيدة الأرستقراطية البريطانية معبودتي السرية ،وأعترف دون تردد أن روايتها “السيدة دالاواي” منحتني مفتاح أول رواياتي” عاصفة الأوراق” لأنها غيرت إحساسي بمفهوم الزمن وتحلل الأشياء، وكما فعلت فيرجينيا بتأثيرها فيّ فعل أنطون دي سانت اكسوبيري ، وقد أحببت الاثنين لأنهما كتبا عن الواقع برؤية شعرية في عالم مختل يفتقر الى التناسق والنظام ،ولكن عالمي الشخصي كان منظما متسقا بفضل الأنوثة فقد تحملت سيدتي مرسيدس الكثير قبل أن تُنشَر مائة عام من العزلة.
 يتبع
_____
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *