خالد محمد عبده *
( ثقافات )
أحبُّ أن يكون الحديث عن مصر بشكل خاص لأن لها تاريخًا في التعامل مع القرآن في العصر الحديث تجدر الإشادة به، ويستحق أن يستمر ويتطور بشكل علمي، بدأ هذا الاهتمام بشكل ملحوظ مع مدرسة المنار التي اعتمدت دروس الإمام محمد عبده في التفسير وشرح المشكلات بشكل مبسّط للجمهور، وابتعدت قدر الإمكان عن المشكلات الكلامية التي انشغل بها جمهور المسلمين في السابق انشغالاً تجسّد في آلاف الكتابات حول ذات الله وصفات ومسائل الغيبيات التي وإن كانت متطوّرة في طرحها مع بداية الدرس الكلامي إلاّ أنها أصبحت مغيّبة أكثر لجماهير المسلمين.
ومن باب اظهار عظمة الإسلام والدفاع عنه تناول الشيخ الإمام في تفسيره موضوعات كثيرة كانت محل جدل في وقته، نظرًا لاهتمام الدرس الاستشراقي المرتبط بالاستعمار بها، واهتمام الأدب التبشيري بهذه المسائل، فتراه ينزّه الإسلام عما لحق تراثه من أساطير الكتب الأخرى ويرفض تبجيل بعض الشخصيات التي كانت مبجّلة بالأمس دون وعي! وعلى هذا النهج سار تلميذه رشيد رضا الذي عمّم النقد فشمل الشخصيات والأفكار والمواد التي ارتبطت بتفسير القرآن، كمسلمة أهل الكتاب، وما روي عنهم من آثار كتابية، رفض الاستناد إليها في تفسيره أو قراءته لقصص القرآن!
ورغم أنه فعل ذلك بدافع ديني لا علمي إلاّ أنه لم يلق موافقة من كثيرين من أهل التيار السلفي إذ اعتبروا نقده لبعض مرويات الصحابة او التابعين تأثّرا بالعقلانية التي كانت سارية في هذا الوقت، واعتبر بعض مشايخ الأزهر ما فعله رشيد رضا ومحمد عبده في التعامل مع التراث جرأة غير مسبوقة وكلاهما سبب تعدّي الكثيرين اليوم على هذا الصرح الشامخ!
في الوقت الذي أراد الكثيرون من المشايخ وعلماء الدين في الأزهر أن يطهّروا التراث من مرويات أهل الكتاب (اليهود والنصارى) تبعًا لحساسيتهم المفرطة تجاه ما يُقال عن الإسلام، التي جعلت بعضهم ينتقل من رفض المرويات التوراتية والمسيحية إلى رفض كثير من مرويات السّنة النبوية واعتبار الإسلام هو القرآن وحده، رأى الشيخ أمين الخولي أن الإبقاء على تقدير هذه المرويات أمر مفيد للمسلم ولمن يريد فهم الإسلام وارتباطه بالأديان السابقة، فعلم الدّين المقارن يحتم على القارئ المسلم أن يطالع هذه المرويات ويتدبرها جيدًا في مصادرها.
عمل الأزهر على تنقية التفاسير من (الدخيل) من المرويات السابقة، لسنوات طوال فمنذ السبعينيات من القرن المنصرم اشتغل كثيرٌ من طلابه على تتبّع هذه المرويات في كتب التفاسير الكلاسيكية، وأجيز الكثير من الرسائل العلمية التي حملت عنوان (الدخيل في التفسير) وصنّفت كتب في هذا الشأن قبل أن يبدأ أحد الناقدين في عام 2000 بندائه لتثوير القرآن وحرق كتب التراث ! من أجل الدفاع عنه أيضًا على حد قوله!
كانت هذه الأعمال امتدادًا لكتاب صغير ألفه محمد حسين الذهبي وحمل عنوان: “الإسرائيليات في التفسير والحديث” وإن كتب بعده الأستاذ الأزهري محمد أبو شهبة “الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير” إلا أن كتاب الذهبي ظل تأثيره مستمرًا في البلاد العربية حتى وقتنا هذا، ومن الطريف أن أحد الباحثين صبّ أطروحة الذهبي في كتاب له وحصل به على درجة الدكتوراه!
في كل هذه الكتابات العربية عن الدخيل لم يتم الالتفات إلى التراث الإسلامي الذي نحظى بمؤلفات خصصت للحديث عن هذا الجانب من تلاميذ ابن حجر العسقلاني في القرن التاسع الهجري، فنجد أن معركة فكرية كانت مشتعلة في هذا العصر لمطالعة ترجمات سعديا الفيومي للتوراة ومطالعة نسخ الإنجيل، فيكتب السخاوي التلميذ المتعصب ضد أقرانه (الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل) ويكتب البقاعي الذي ضجر من مصر وألّف في ذمّ أهلها ومحاسن أهل الشام (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة) ليدافع عن نفسه حين أراد أن يفسّر القرآن معتمدًا ذوق الصوفية الذي نقد بعضهم وصار نقده فتنة تاريخية، ومستندًا للمرة الأولى بشكل أساسي على نسخ كانت متوفرة لديه من التوراة والإنجيل، ويقدّم في تفسيره رؤية نقدية هامة لماذا اعتمد على هذه النسخة من التوراة واستبعد غيرها، وفي كتابه الدفاعي يستند كعادة القدماء على مرويات السنة النبوية التي تجيز للمسلم الاستناد في تكوين رؤيته على نصوص الكتاب المقدس، مشيرًا إلى مسالك العلماء المسلمين في عصره للتعامل مع هذا الكتاب.
هذا وإن ظل تأثير محمد حسين الذهبي مستمرًا بكتابه عن (الإسرائيليات) إلا أن كتابه عن تاريخ التفسير والمفسرين أكبر وأوسع تأثيرًا وانتشارًا حتى يومنا هذا، وإن كانت قد تمّت محاولات كثيرة من الجانب السني والشيعي في بقاع شتى من إيران إلى بلاد الحجاز لكتابة نسخ أخرى على مثاله، إلا أننا لم نظفر بتطوير لما حواه الكتاب من نظرات عن التفاسير تبعًا لاكتشاف الجديد منها وطبعه، وترجمات كتب تتعلق بالدراسات القرآنية لم تكن متوفرة في وقت محمد الذهبي.
وعودة إلى ما قدّمه الأستاذ أمين الخولي من كتابات في الدرس القرآني في الأربعينيات نجد تطوّرًا ملحوظًا في عصره إن كان استمر على النحو الذي أراده لاختلف أمر الدرس القرآني اليوم، ففي تعليق الخولي على مادة القرآن في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة نشهد اطلاعًا وافيًا على الدرس التاريخي للقرآن الذي تجسد في كتاب جولد تسهير عن مذاهب التفسير، وعلى عكس الحدّة التي عومل بها كتاب جولد تسهير في المرتين التي تم توفيره عبر الترجمة الجزئية والتامة نجد عند الخولي تقبّلاً لفكرة الدرس صرف النظر عما تؤتيه من نتائج دون أن يتخلى الخولي عن إيمانه ومعتقداته التي يدين بها.
في دراسة لأحد الأساتذة من تورنتو نشرها في مجلة الدراسات القرآنية قارن بين موقف الخولي وموقف مترجمي الكتاب، نلاحظ من خلال ما كتبه أن الأزهر كان منتبهًا في هذه الفترة إلى دراسات الاستشراق عن الإسلام والنّبي والقرآن، من باب معرفة ما يقال عن الإسلام، وبمراجعتنا لمجلة الأزهر في وقت مبكّر، نجد أنها اهتمت بمثل هذه الكتابات، فخصصت بابًا من أبوابها قديمًا للتعريف بهذه الكتابات وقراءتها ونقدها أشرف عليه الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني وقدّمت فيها الكثير من الكتابات الهامة من أمثال: كترتيب جديد للمصحف، وموسيقية القرآن الذي قدّم فيها ترجمة آربري للقران ودراساته عنه، والإسلام ونفسية المسلم، وكتاب توشيهيكو إيزوتسو عن الله والإنسان في القرآن، وكتاب تور آندريه عن النبي وعقيدته، وتقديمه لأول ترجمة لاتينية للقرآن.
وجدت الكتابات الغربية صدى واسعًا في الأزهر والدوائر الأكاديمية في مصر، ومثالنا هنا كتاب جولد تسيهر الذي تُرجم ترجمة جزئية في المرة الأولى، وبمجرد نفاذ النسخ أعيدت ترجمته ترجمة كلّية والتعليق عليه بشكل مفصّل، سواء كان التعليق على (شبهات) أو (زلاّت) أو (أخطاء) أو (أغراض) كما وصفت في الكتابات العربية التي تلت صدوره، ولن نتوقف عند تعليقات المترجمين التي تناولها بالدّرس البروفسور وليد صالح، وإنما نشير إلى تعليقات أخرى نراها مهمة إضافة إلى السابقة.
في عام في عام 1957 نشر عبد الوهاب حمودة المتتبع للكتابات الاستشراقية يومئذ نقدًا لما يتعلق بمسألة القرآءات القرآنية في كتاب مذاهب التفسير لجولد تسيهر، وهو تعليق قصير امتد على طول 5 صفحات في مجلة رسالة التقريب، وسوف يتم تكرار هذا النقد وتفصيله في بحث مصطفى مندور في عام 1964، إذ ينشر مصطفى مندور بحثه في حولية كلية الآداب عين شمس في المجلد التاسع في 32 صفحة، ويستعرض فيه أخطاء جولد تسيهر ويتناولها بالتصويب بعد التعريف به وبمؤلفاته. كان عمل مندور الأستاذ في كلية الآداب تاليًا لرسالته التكملية لنيل درجة دكتوراه الدّولة من كلية الآداب بجامعة باريس، وكانت بعنوان: Inventaire des lectures extra-canonoque d’après des donnés de Tabari d’ibn abi Daoud et d’Ibn Halawayh
وهي دراسة قد خصّها بالنقد والتعقيب عبد الصبور شاهين في كتابه عن (تاريخ القرآن) الذي نشره في دار القلم بيروت في الستينات.
وفي مقال بعنوان (على أوائل الطريق) نُشر أيضًا في مجلة التقريب للشيخ محمد الغزالي، كتبه وقت أن كان وكيلاً لوزارة الأوقاف لمراقبة الشؤون الدينية، أيّد فيه جولد تسيهر في ملاحظة تتعلّق بالخلاف بين الإسلام السّني والإسلام الشيعي، قائلا: (وقد يكون الرجل شرد عن الجادة في حديثه الطويل عن الإسلام، ولكنه اقترب من الواقع في تصويره لأحوال المسلمين، وتجسيمه للشقاق الذي دبّ بينهم عدة قرون)! وقد كرر الشيخ الغزالي هذه المقولة مرة أخرى في نقده الديني لكتاب جولد تسيهر عن العقيدة والشريعة في الإسلام.
وفي مجلة الأزهر عام 1963 يبدي ملاحظة صلاح الدين عبد الوهاب حول رأي جولد تسيهر في القرآن في إطار استعراضه لأعمال المستشرقين حول القرآن ونظرتهم إليه، في مقاله المعنون: (نظرية الإيحاء بين المستشرقين والمسلمين) بشكل موجز دون ردّ أو نقد.
وفي عام 1972 نشر عبد الفتاح القاضي رئيس لجنة المصحف عدة مقالات في مجلة الأزهر، بناء على تكليف من شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، وكان وزيرًا للأوقاف في حينه، بمطالعة ترجمة كتاب مذاهب التفسير، ونشرها تحت عنوان: (القراءات في نظر المستشرقين والملحدين) تناول فيها عمل جولد تسيهر بالنقد اللاذع، وطبعها فيما بعد في كتاب جامع.
وظل الاهتمام بهذا الكتاب حتى وقتنا الحالي، ولم يقتصر الاهتمام على أهل مصر، أو على المذهب السني فحسب، بل نجد حضورًا للكتاب في مؤلفات الشيعة وآخرها بحسب مطالعتي هو ما كتبه الشيخ محمد هادي معرفت بشكل متفرق في المجلات والدوريات ثم جمعه في كتابه الكبير عن علوم القرآن.
يمكن أن نشير في هذا المقال بشكل سريع إلى أن تعامل المصريين مع القرآن في العصر الحديث يستحق الدراسة، بداية من الأزهر الشريف، ونهاية بجامعة القاهرة التي شهدت صخبًا بالغًا في وقت من الأوقات بسبب الكتابة عن القرآن بدأ مع أحد تلامذة الشيخ أمين الخولي، ومرّ به نصر أبو زيد ولا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا.
* باحث من مصر