ابداع “ستون” السينمائي وبراعة “ناجي” الروائية




مهند النابلسي *

(ثقافات)

المال لا ينام أبدا والجشع يتفشى كالسرطان !



في حرفية مدهشة وسياق مجازي معبر وضمن سيناريو وغرافيك محبوك جيدا ، يدخلنا المخرج اوليفر ستون لعالم الفقاعات المالية المثير …عالم وول ستريت ( المال لا ينام أبدا !) ، حيث يتم استهلال المشاهد بخروج غوردو جيكو ( مايكل دوجلاس ) من السجن ، بعد ان امضى ثماني سنوات وراء القضبان يتهمة غسل الأموال والاحتيال الالكتروني، ونراه يخرج وحيدا لا يجد أحدا في استقباله ! ولكنه لم يكن يائسا، وكانت أهم اولوياته الترويج اولا لكتابه الجديد، كما يسعى شيالابوف الشاب الطموح للانتقام ولو معنويا لمعلمه ، الذي انتحر بعد انزوائه أمام قطار مترو ، مما أجبره لاعادة حساباته وهيكلة علاقاته.
يقدم لنا هذا الشريط المعبر المضارب المالي الشهير جوردون جيكو صاحب الشعار اللافت : الجشع جيد ! أما شيالابوف فيلعب دور الشاب الطموح الواقع في حب ابنة جيكو ويني ( كاري موليغان ) ، ولكنها تكتشف لاحقا انه يستغلها بانتهازية للتقارب مع والدها الثري بعرض الحصول على تمويل ضخم لمشروع الطاقة الخضراء ( وذلك قبل ان يقع حقيقة في حبها !) ، وينتهي الأمر بطريقة ميلودرامية سمجة عندما يقدم جيكو لخطيب ابنته تمويلا بقيمة مئة مليون دولار للمحافظة على العلاقة الهشة ، وكنوع من تانيب الضمير ! يكمن الجزء المعبر في هذا الفيلم الرائع في مشهد خطبة مايكل دوجلاس البليغة والقصيرة ، والتي لم تتجاوز الدقيقتين ونصف، والتي يشرح فيها للحضور في جامعة نيويورك تفاصيل أسباب الأزمة المالية المرعبة التي هزت العالم في العام 2008 ، وحيث يشبه الجشع بالسرطان الذي يفتك بالجسم ويتفشى بلا هوادة !
أسماك القرش التي ترتدي ربطات عنق انيقة ! 
أحرز مايكل دوجلاس جائزة اكاديمية التمثيل في واحد من أحسن ادواره السينمائية ، كما تلقى سيلا من التصريحات الايجابية من العاملين في الوول ستريت تؤكد له أن فيلمه الشهير كان وما زال حافزا للعديد من الشباب الطموحين لتحقيق احلامهم الوظيفية ! في الفيلم الجديد (المال لا ينام أبدا ) تم استبدال الممثل شارلي شين بشيالابوف ، وتبدو القصة وكأنها تكملة منطقية لسياق الأحداث في الفيلم الأول ، الذي تطرق للانهيار المالي الكبير الذي حدث خلال العامين 87 و88 ، وحيث تبنى الفيلم مقولة وول ستريت حينئذ : الجشع جيد ! وفي الشريطين كان المخرج اللامع صاحب العديد من الأفلام الوثائقية اوليفرستون حاذقا وحاد الذهن والفطنة ، حتى انه لم يترك شاردة ولا واردة الا وعالجها باللقطات المباشرة او بالمجاز ، وكان مبادرا باستباقه للأحداث ، حيث شبه الازدهار المالي المفاجىء ” بفقاعة الصابون ” الضخمة التي لا تلبث أن تتلاشى بلا اثر !
كما اكد على الكارثة التي يؤدي اليها الجشع ، معبرا بواقعية مذهلة عن ” القيم المدمرة ” للرأسمالية الأمريكية المتوحشة، التي انتقلت عدواها لكافة انحاء المعمورة ، ومنها بلدان العالم العربي كما عبر عنها ببراعة فائقة الكاتب جمال ناجي في روايته الشهيرة ” الحياة على ذمة الموت “، وفي كلتا الحالتين يؤدي الطموح الجشع وعشق المال الزائد لبطل الفيلم الأول” بودفكس ” لتدمير حياته الشخصية والناس المقربين والمحيطين به ( والذي تتطابق شخصيته لحد ما مع شخصية “نوفل” الروائية في قصة جمال ناجي !) .لا يظهر الفيلم وول ستريت ( مركز المال العالمي ) في أبهى صورها (معنويا على الأقل ) ، وبالرغم من اظهار الشريط والرواية لمحاذير ومخاطر الجشع والفساد وعشق المال ، والتاثير المدمر على المجتمع والمؤسسات والأفراد الا ان البشر لا يعتبرون ويعيدون الكرة مرارا وتكرارا بممارسات تشبه عادات الادمان ! وحتى هوليوود باعادتها لاصدار نفس القصص السينمائية بافلام جديدة، تؤكد ضمنيا على التيمة التي تحاول انكارها “الجشع جيد ” ، وقد لاحظنا ذلك جليا في اعادة اصدار الأفلام الضخمة كحرب النجوم ، وحاليا في اعادة اطلاق ” التيتانيك ” بتقنية “الثلاثة دي ” ، كما التفكير جديا في انتاج فيلم جديد (ثالث) بنفس التقنية عن ” رحلة اكتشاف امريكا” ، اذن لن نستغرب اذا ما عاد اوليفر ستون بعد عدة سنوات لاخراج نسخة ثالثة مستجدة من الوول ستريت وعهد بالدور الرئيسي ايضا لمايكل دوجلاس ، راصدا التطورات والعبر والدروس التي تستجد في مجال المال والاعمال ! وهل توقف الابداع السينمائي واستهلكت كل المواضيع اللافتة ، وبتنا ندور حول انفسنا ونعيد تكرار القصص ، ام انها بالحق محاولات جادة لاستغلال النجاح والشهرة ، بغرض التجديد والمقاربة الابداعية بروح جديدة وتشويق مثير !

” الحياة على ذمة الموت ” 

يؤرخ جمال ناجي في روايته ” الحياة على ذمة الموت ” لعقد الثمانينات ، حيث المال محور الأحداث الرئيسية : فحركة اسعار الأسهم والعملات واوراق المال تتم السيطرة عليها عبر ابتلاع او تقيؤ الألاف منها ! والغريب أن نفس الأحداث والشخصيات عادت وتكررت في ازمة عام 2008 وما قبلها ، في تطابق تخاطري عجيب مع كل من احداث الرواية واحداث فيلمي وول ستريت ( الأول والثاني )، مع اختلاف نمط الشخصيات والأدوار ما بين النموذج الغربي- الأمريكي والمحلي- العربي . يستهل ناجي روايته المميزة بالربط ما بين المال والموت : فالمال نقيض الموت ، لماذا لا يحب الناس الموت ؟ ألا يعلمون ان كل الأرصدة التي يمتلكونها قابلة للنفاذ الا الموت ؟هل نسوا أنه الرصيد الوحيد الذي لا ينفذ ؟ وكما اقتحم “ماريو بوزو” عالم “دون كورليون ” بجرأة وواقعية في رواية العراب الشهيرة ، كذلك تصف “الحياة على ذمة الموت ” الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون تصنع وتلفيق ! حيث تقتحم عالم نوفل (امبرطور المال المحلي ) ملايين الدولارات والدنانير ، وتنقل بقدرة قادرة الى الاردن ، أو يحولونها الى اوروبا بايصالات رسمية ، وكل شيء يتكثف في ذلك العالم ليحقق النفوذ ، الذي يأخذ ولا يعطي ، والمال وحده هو الكفيل بتحقيق كل شيء ، لأنه قادر على ان يصنع من فنلندا ، او جزر الواق واق وطنا ! والوطن يفقد معناه ويصبح مجالا للبحث عن الجاه والنفوذ فقط ، اما بواسطة الجماهير كما يفعل الوعاظ والمصلحون ورؤساء التجمعات والحزبيون ، واما بواسطة “المال ” ! هكذا يفلسف نوفل الامور مبررا اندفاعه اللاهث وراء المال والنفوذ ، ويتحث كخبير عن الأسباب الحقيقية التي أدت لانخفاض قيمة الدينار : فالتجار واصحاب الشركات والصرافين والأغنياء عموما ، يشغلون الناس ويسرقونهم ، بدءا بارتفاع أسعار البندورة وعيدان الثقاب والملح ، وسائر أنواع الخضار والمحروقات ، وانتهاء برسوم الجامعات ! ثم يستطرد قائلا : تخيل نحن مسؤولون عن الخراب والفوضى الاقتصادية ! انهم يتحدثون في كل شيء ، يبثون الاشاعات ، يرددون حكايات عن رشاوي للمسؤولين عن تنفيذ وصيانة الطرق والمشاريع ! تماما كما في قصص وتحقيقات الفساد الحالية التي تناولت وتتناول مسؤولين حكوميين ورؤساء مجالس ادارات ومدراء تنفيذيين واصحاب قرار كبار .
ثم يلجأ للدفاع وللسخرية اللاذعة : انهم لا يريدون ان يفهموا ان بلادنا خالية من النفط والمعادن وكل اسباب الحياة التي يحلمون بها ……ليفعلوا ما يشاؤون ، ليتنفسوا فنقيق الضفادع لا يوقف الحياة في الغابة !

رائحة المال !

ويتضخم النفوذ المالي لنوفل بوتيرة متواصلة ، ففي حين تخبطت السلطات النقدية في طوفان من الأوراق والاتهامات والتقارير ( وكانه يتحدث الآن عن حال هيئة مكافحة الفساد !) ، كانت الصورة امام نوفل واضحة جلية ! فرجاله يستبقون الاحداث ، ويقتربون من شلل الوسطاء الماليين الذين يحيكون الخدع المالية ببراعة ، وينسجون المؤامرات التي تحط من اسعار العملات والاسهم ، او ترفعها الى عنان السماء ! وعمان كلها ( كما يقول نوفل ) ، اصغر من مؤامرة واحدة ، من تلك التي تحاك في كواليس بورصات العالم ! فمافيا المال المحلية قادرة على صنع المعجزات : بلدنا صغير يا سيد نوفل ، صغير الى حد اننا استطعنا رفع سعر الدولار خمسة وعشرين فلسا خلال يوم واحد فقط ! 
عندما يطغى معيار المال على كل ما سواه ، فتتخبط كل المعايير والقيم الاخرى وتتهمش ، وعندما تطغى رائحة المال على حياتنا ، فتصبح الرائحة النفاذة الوحيدة ….التي تصيبنا بالادمان والخدر والاعياء…. عندئذ سنسقط في هاوية سحيقة !
تبخر الأموال والشركات !
رواية جمال ناجي من الروايات النادرة التي تقتحم تابو “المال والفساد المحلي ” بجرأة غير مسبوقة ، حيث ترصد الأحداث بكاميرا روائية مجهرية تكاد تكون تسجيلية ، فالكبار والصغار يمارسون الان لعبة تبديل العملات ، جنبا الى جنب مع الصرافين والبنوك، كما حدث في حالة الدينار العراقي ! ويشير لفقاعة “البورصات والشركات الوهمية ” ، التي امتصت الأموال كالاسفنجة ثم اختفت : بعض الناس يتساءلون عن المؤسسات والشركات التي ابتاعوا اسهمها ، دون ان يعرفوا شيئا عن مكان اموالهم التي دفعوها ثمنا لتلك الأسهم ! ويسألون عن مكاتبها ايضا دون ان يجدوا لها أثرا ، فيردون على بعضهم بسماجة وسخرية : لقد تبخرت ! ولم يختلف الأمر أبدا بعد حوالي العشرين عاما وكاد ان يكون مطابقا فيما سمي ” فساد وفضائح شركات البورصة الوهمية ” ، ما يؤكد نفس مقولة فيلمي الوول ستريت : يبدو الجشع جيدا في البداية ولكنه يقود لكوارث مالية وافلاس في النهاية ! ولكن الناس لا تعتبر”والنصابين والحرامية وحيتان الفساد ” كلهم يتمتعون بمهارات فائقة خفية ، ويتحدون العنكبوت في بناء شبكات ” تراتبية—مافياوية ” ، كما أنهم قادرين على سرقة الاوكسجين من الهواء دون ان يرف لهم جفن !
لقد أبدع الروائي الاردني جمال ناجي في قدرته على الاستبصار وتوقع مجريات الأمور ، فبعد حوالي عقد ونصف من اصدار روايته ، حدث تماما ما توقعه فيما يسمى مجازا ” بفقاعة البورصات ” او شركات توظيف الأموال الوهمية ، ويكفي للدلالة أن اشير لما حدث في المدينة المنكوبة “جرش” ، حيث تضرر 27 ألف شخص ، تبخرت مدخراتهم البالغة قيمتها 122 مليون دينار في رمشة عين !
بالفعل “فالمال لا ينام أبدا ” ، ويبقى يشتعل في الرؤوس كهاجس مؤرق ، وكذلك في الرواية فالمال يحقق حياة زائفة تقارب الموت ، وفي كلتا الحالتين ( في الفيلم والرواية ) فالجشع صنع وما زال يصنع فقاعات صابونية وهمية تختفي فور تكونها بلا أثر وكانها لم تكن موجودة !


الهوامش والمراجع :

الحياة على ذمة الموت ،هي الرواية الرابعة للأديب جمال ناجي أنجزت في العام 1993 وتدور أحداثها حول الاقتصاد والعولمة ونتائجها في وقت مبكر، غير أن جل فكرتها تتركز حول فلسفة النفوذ الذي يؤدي إلى الصراعات المكشوفة والمستترة بين الشخصيات الروائية

ملخص الرواية

تتحدث عن شخصية ( نوفل ) الذي تمتد سلطاته المستمدة من قدراته المالية المتعاظمة، إلى حد تأثيره على القرارات الرسمية من خلال أتباعه في المناصب العليا، غير أن تلك القوة الاقتصادية بنيت على أسس غير سوية، حيث استثمرت أموال الغير بطرق غير مشروعة، يساعده في ذلك الشاب ( عزت ) الذي يكبر ويتطور في شركة نوفل إلى أن يصبح الرجل الثاني فيها، ويتميز عزت بالذكاء والحنكة، إلى حد ان نوفل يعتبره امتدادا له في الحياة، حيث يتمكن من التلاعب بأسعار العملات واسهم البورصة وسواها لصالح نوفل، غير أن انكشاف حقيقة أعمال نوفل ومن معه تؤدي إلى اختلال ثقة الناس فيه، ثم إفلاسه وهربه من البلاد، واختلال الأوضاع الاقتصادية العامة والعملة الوطنية وقيام التظاهرات ضد الفساد الذي يمثله نوفل وآخرين ممن يتعاطون هذه الأعمال، كذلك فساد الجهات الرسمية التي سمحت بحدوث هذا الخلل.
دراسة الرواية
لا تكتفي الرواية بعرض هذه الأفكار والأحداث، انما تربط هذه الأحداث بما يجري في عالمنا ويمتد إلى مجتمعاتنا، كما تغوص في الأسباب النفسية التي أدت إلى انحراف هذه الشخصيات الروائية، وإلى فساد البيئة الاقتصادية والمالية وما يصيب العقل الجمعي من جشع يقود إلى الهلاك.
وقد عد بعض النقاد هذه الرواية إحدى نذر العولمة التي تزحف بسرعة إلى المجتمعات العربية


*كاتب وباحث وناقد سينمائي
Mmman98@hotmail.com

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *