حيوية رامبرنت في آخر العمر


*مودي بيطار

رسم رمبرانت فان رين إسحق وريبيكا بعد زواجهما، وترك مشهداً ملتبساً. هي في ثوب أحمر واسع، وهو في ثياب مطرزة بخيط ذهبي، يلمس صدرها بيمناه ويحيط كتفها بيسراه. نظرة ريبيكا جانبية، ويدها على نصف أصابعه. للناظر أن يقرّر إذا أشارت نظرة الشابة ويدها الى الحرج أو الخفر أو الضيق أو القبول. هل كان التعبير علناً عن مشاعر حميمة مقبولاً لدى الهولنديين أو اليهود وحدهم، أو أن العريس عجز في شكل فردي عن كبح الرغبة في تفحّص ملكه الجديد؟ رسم الفنان الهولندي ما يُعرف بـ «العروس اليهودية» في 1665، وبعد أكثر من قرنين سيقول فنسنت فان غوخ إنه سيكون سعيداً بإعطاء عشر سنوات من عمره إذا استطاع البقاء جالساً أمام اللوحة مع قطعة خبز يابسة لا أكثر.

تستعيد «ناشونال غاليري»، لندن، رمبرانت في آخر عمره بعدما عرضت «تيت مودرن» و»تيت بريطانيا» آخر أعمال هنري ماتيس وترنر هذه السنة. تغيّر أسلوب الرجال الثلاثة الذين تحرّروا من ضرورة متابعة مسارهم المألوف لسبب أو آخر. اتّبع رمبرانت (1606- 1669) تقنية جريئة وتفسيراً تقدمياً لمواضيعه بعد مرحلة الشباب جعلته، وفق «ناشونال غاليري»، المعلّم الأكبر في العصر الهولندي الذهبي. معرض «رمبرانت: 
الأعمال الأخيرة» الذي يستمر حتى 18 كانون الثاني (يناير) 2015 يمحّص انشغال الفنان في أعوامه العشرين الأخيرة بالاختبار، الضوء، اليومي والحميم.
أثار التساؤل برسمه نحو ثمانين هيئة ذاتية تملك «ناشونال غاليري» اثنتين من أفضلهما وأكثرهما تناقضاً. تصوّره الأولى في الرابعة والثلاثين، في أوج مجده، واثق النظرة، يرتدي المخمل الثمين ويضع الحلى الذهبية. كان بيتر بول روبنز توفيّ لتوّه، وبات رمبرانت بلا منافس. دفع طلاب الفن مبالغ باهظة للدراسة في محترفه، الأكبر في أمستردام يومها، وبهر المعلّم مناصريه بالطاقة المتوهجة في عمله. احتفل بنجاحه بشراء قصر ملأه بالأعمال الفنية القديمة الثمينة، واستدان بكثرة ظناً منه أنه سيعيدها بسرعة. لم تكن الهيئة الذاتية في 1640 إشارة الى الأيام الآتية، والمعرض لا يضمّها للأسف، بل يشمل أخرى مناقضة رسمها في 1669، عام وفاته، تُظهر رجلاً خائباً، مهزوماً في الثالثة والستين، منقّر الوجه، خشن اليدين، في ملابس زريّة، يرقو الأحمر فيها كالعادة لونه البني المفضل.
يحكي المعرض قصة الانحدار الأليم من العزّ الى الفاقة وسط احتفاظ الفنان المدهش بحيويته المعتادة التي لوّنها بحماسة ضارية للتجديد. أخفى الفن المناخ السياسي المضطرب في البلاد أواسط القرن السابع عشر بصور الحب، هيئات الأثرياء بملابسهم الباذخة، المشاهد البيتية الهادئة والبقر المبقّع. عقدت هولندا معاهدة صلح مع عدوها القديم إسبانيا، لكن إنكلترا برزت عدواً جديداً بعد إقرارها قانون الملاحة لإنهاء السيطرة الهولندية على التجارة البحرية. قطعت الخطوط الحيوية، وتسبّبت بركود الاقتصاد في الأرض المنخفضة. كان رمبرانت عانى من موت أطفاله الثلاثة ثم زوجته الجميلة ساسكيا بالسلّ، ولم يبق له من أولاده سوى تايتس. اتخذ خيرتي، ممرضة ابنه، عشيقة ثم هجرها الى مدبرة المنزل الحسناء هندريكي ستوفلز. قاضته خيرتي للحصول على نفقة، فأقنع أصدقاءه بالشهادة زوراً بأنها كانت مضطربة عقلاً وأخلاقاً، وتسبّب بإرسالها الى إصلاحية، ثم فشل في تجديد عقابها بعد خمسة أعوام. في «امرأة تغتسل في جدول» من العام 1654 يصوّر هندريكي تخوض بحذر في الماء وهي ترفع ثوبها الداخلي الأبيض الذي يسقط عليه ضوء باهر. المجاز واضح في اللوحة الجميلة، الحسيّة، التي يعكس التقلقل الجسدي فيها التساؤل العاطفي عن المستقبل.
ربما كانت المصاعب العامة والخاصة ما جذب رمبرانت الى ضربة الريشة الخشنة في وقت أقبل الأثرياء على المواضيع الكلاسيكية ذات السطح الأملس الصقيل. سار عكس التيار، وتعمّق بحثه الروحي عن التفاعل بين المظهر الخارجي والحقيقة الداخلية، وحقّق في العقدين الأخيرين من عمره بعض أجمل وأعمق الأعمال الفنية الغربية وأكثرها ابتكاراً. ولئن اتهمّه نقاد بالمسرحية لتكثيفه التعبير الإنساني، لا يملك الناظر إلا التماهي مع الشجن واليأس في الهيئات الذاتية الأربع التي تفتتح المعرض. لم ينهِ «يعقوب يبارك نجلي جوزف» التي بقي سطحها خشناً، شبه نحتي. يعارض الضوء المقبل من خلف ظهر يعقوب قتام الخلفية وثياب زوجة جوزف، ويبدو الضوء المحيط برأس إفرام كأنه هالة. نصّت العادات على مباركة الابن الأكبر باليد اليمنى، لكن الجدّ يتجاهل منسى ويضع يمناه عمداً على رأس حفيده الأصغر. يعتمد رمبرانت ألوانه المألوفة، الأصفر والبني والأحمر، ويولّد مزاجاً وقوراً، حميماً، حنوناً ومقدساً. في «باثشيبا ورسالة الملك ديفيد» ضربات ريشة عريضة وتلوين حيوي ومناخ قصصي ونفسي عميق. يطغى فيها وجه المرأة المتأمل على جسدها المكتنز العاري المضيء. كان زوجها جنرالاً أرسله الملك إلى الجبهة لكي يتمكّن من لقائها، وتشرد بعد قراءتها رسالته فيما الخادمة تجفّف قدمها.
تقول الوجوه القليل في «موظفو نقابة تجار الأقمشة» التي يجتمع فيها ستة رجال في زي أسود بيوريتاني بياقة بيضاء، وقبعة سوداء. يقابل غطاء الطاولة الأحمر وقار اللوحة التي يجدهابعضهم من أجمل الهيئات الجماعية إطلاقاً بوجوهها الشبيهة بالأقنعة والياقات البيضاء الصغيرة المعارضة لسواد اللباس. في «مؤامرة الباتافيين برئاسة كلوديوس سيفيليس» يجلس رجال حول طاولة مشعّة تبدو كأن ضوءاً ساطعاً وُضع تحتها. يقوى الضوء في أذرع الرجال وصدورهم، ويبهت في الوجوه ليولّد ذلك الشعور المريب الذي يلائم التآمر تماماً. لم تجذب الحياة الجامدة رمبرانت، لكنه يضئيها في «الثور الذبيح» ويمنحها مناخاً دينياً، ويقدّمها بأسلوب شبه انطباعي. عُلّق الثور المشع أمام خلفية قاتمة، ساكنة، وأوحى الموت والابن الضال الذي يهجر حياة اللهو فيذبح له والده العجل المسمّن.
يرى النقاد اليوم أعمال رمبرانت الأخيرة أجمل ما حقّقه، لكن معاصريه خالفوهم الرأي. فضّلوا طلابه السابقين ومنافسيه، فاضطر الى إعلان إفلاسه وبيع قصره بكل نفائسه، وكان عليه الوقوف جانباً حين هُدم محترفه الشهير الشاهق السقف. استأجر بيتاً صغيراً في منطقة وضيعة وعاش مع هندريكي التي باتت زوجته العرفية. تابع عمله بالتحدّي نفسه، مع أنه اضطر إلى بيع قبر زوجته خلال رسمه «العروس اليهودية». بقي وحيداً بعد وفاة هندريكي ثم ابنه بالطاعون، وترك هيئته الحزينة شهادة على تغير الحال، ثم رحل بهدوء.
________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *