إليف شفق: شعوري بالغربة دفعني للتفكير في الهوية


نهى حوّا



في رواية «المعماري والمتدرب» للكاتبة التركية إليف شفق، قصة حب لإسطنبول، حيث عاشت لفترة طويلة وحيدة برفقة جدتها. وإليف تقر، في مقابلة أجرتها معها صحيفة «غارديان» البريطانية بمناسبة إطلاق كتابها الجديد، بتأثير طفولتها التي عاشتها بعيداً عن والديها في هذا الشعور بالغربة الذي رافقها، والذي ربما يكون سبباً للكتابة عن الأقليات والمهمشين في المجتمع..

وللتفكير بمسألة الهوية، وتقول إن الكتب أنقذتها من الجنون بعد أن فقدت مركز الثقل في حياتها، وربما يكون بحثها عن الانتماء دافعها للاهتمام بقضايا السلطة والتعصب الديني، وهي كتبت كثيراً عن الصوفية، وتتحدث عن انجذابها لتلك «الرحلة إلى الداخل»، حيث الفضاء الجامع لكل متصوفي الأديان.

يمكن ان يعمد البعض إلى اعتبار روايتها الجديدة، قصة حب لإسطنبول وماضيها العثماني، فالرواية تستحضر مجد حكم السلاطين وقسوته في عهد سليمان القانوني وخلفائه، كما أنها تسرد قصة أحد أهم المعماريين في السلطنة العثمانية، وهو المعماري سنان، على مدى قرن (1546 إلى 1632)، من خلال عيون أحد المتدربين على يده، مروض الفيلة: الهندي جاهان، والذي وصل إلى قصر طوب قابي في إسطنبول بعمر 12 عاما، متخفيا على سفينة نقلته برفقة فيل أبيض مرسل كهدية إلى السلطان من غوا إلى تركيا، إذ تبوأ أعلى المناصب.

غير ان النقاد يحذرون من خطأ اعتبار هذه الرواية، التي ألفتها إليف شفق باللغة الإنجليزية، احتفاء خالصاً بتلك المدينة، وإليف نفسها تقول في المقابلة مع صحيفة «غارديان» إن السرد التاريخي العام في تركيا يقتصر على عدد قليل جدا من السلاطين دون سواهم، وتسأل: «ما الذي كان يشعر به أولئك الذين يطلق عليهم الرجال والنساء البسطاء على مدى قرون، عندما كانت تركيا تمر بتلك التغييرات؟». وما تثير اهتمامها هي فئة الأقليات وفترات الصمت، وتقول: «بالنسبة لي، هناك دوما رغبة في استعادة القصص والموضوعات المنسية أو التي همشت».

كان استقبال روايتها فاتراً في تركيا، على عكس بريطانيا، وهي ترد على ذلك بأنها اعتادت تقبل الصالح بجريرة الطالح، وتشرح: «وصلتني انتقادات كثيرة من النخبة المثقفة وكثير من الود من القراء». وتضيف: «كلما زادت قراءة كتبي في العالم الغربي، ازداد الكره لي في موطني».

تجربة وأوضاع


وإليف الكاتبة الأكثر شهرة في تركيا، تحدثت لـ «غارديان» أيضا عن أوضاع النساء في تركيا انطلاقا من تجربتها. فوالدتها وقعت في حب والدها عندما كان يدرس الفلسفة في فرنسا، وتزوجته لتعود إلى أنقره مع طفلها بعد فشل الزواج، وتقول إليف تعليقا على هذا الأمر، إنه كان بالإمكان تزويجها ثانية إلى رجل يكبرها بالسن بسرعة، وتتابع:

«هذه هي التقاليد، إنه مجتمع ذكوري بشدة (فعندما تتزوج الفتاة) لا تعود لها منزلة هامة في سوق الزواج بعد ذلك، إذ سقطت من عليائها ولم تعد بتولا». لكن «ينبغي تزويجها كي لا تشكل تهديدا».

«على الهامش»


بيد أن جدتها أرادت لأمها طريقا مغايرة، وهي أن تكمل تعليمها قبل الارتباط برجل آخر، فدخلت أمها السلك الدبلوماسي، وكان تأثير هذا الأمر أن إليف أمضت طفولتها وحيدة، أولا مع جدتها، ولاحقاً في مواقع السفارات في مدريد (حيث أصبحت الإسبانية لغتها الثانية) والأردن وألمانيا. وهي تقول: «جزء مني شعر دوما كما يشعر الآخر، الغريب، المراقب..

ووالدي كان له ابنان من زوجته الثانية لم التق بهما حتى اواخر العشرينيات من عمري. وكنت دوما على الهامش. في مدريد، كنت التركية الوحيدة في مدرسة دولية، لذا بدأت أفكر بمسألة الهوية. وكل تلك الأشياء أثرت بي. لم يكن هناك مركز ثقل في حياتي، ولا احساس بالاستمرارية، واعتقد بصدق أن الكتب انقذتني من الجنون».

مفردات احتجاج


أثارت مؤلفاتها الكثير من الجدل. في روايتها الأولى «الصوفي» وظفت إليف مفردات مبطنة عمدا، احتجاجا على إضفاء الطابع التركي على اللغة بدءا من العشرينيات من القرن الفائت. ورواية «لقيطة إسطنبول» كانت سببا في اضطهادها ومحاكمتها لتناولها الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915.

والقضية استمرت سنة قبل أن يجري إسقاط التهم عنها، وتقول: «اختبرت الحب والكراهية، وككاتبة في تركيا، أصبحت معتادة على هذا الأمر. فنحن ننتقل بسهولة من شعور إلى آخر، عاطفيون جدا، بالتالي تتعلم أن لا نأخذ الأمور على محمل الجد كثيرا».

انتهت المحاكمة في اليوم نفسه الذي شهد ميلاد طفلها الأول، الأمر الذي أدى إلى معاناتها من اكتئاب ما بعد الولادة، كاد أن يدمرها ككاتبة، وهي ترجع الأمر في كتاب مذكراتها «الحليب الأسود» إلى صراع في نفسها حول الاتجاه الذي يجب أن تأخذه في حياتها. وإليف قسمت نفسها في هذه الرواية إلى «ست نساء صغيرات» يتحدثن معها، والأمومة لم تكن مصدر رعبها فحسب، بل واقع أنه بات عليها أن تستقر.

كما جعلت نفسها سفيرا أدبيا للصوفية، وفي روايتها «»قواعد العشق الأربعون« الصادرة عام 2010، تسرد قصصاً من زمنين مختلفين، أحدهما يتناول صداقة تعود للقرن الثالث عشر ميلادي بين الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، وصوفيين طوافين.

وتقول إنها تحب طرح تساؤلات حول التحيزات الثقافية والرهاب من الإسلام، بقدر ما تحب طرح تساؤلات بشأن أية مشاعر مناهضة للغرب، لأنها تعتقد أن جميع الأيديولوجيات المتطرفة متشابهة جدا. وعن انجذابها للتصوف الإسلامي وفكرة الرحلة إلى الداخل، تقول إنه في هذا الفضاء الداخلي تلتقي بالمتصوفين اليهود والمسيحيين والإسلاميين والطاويين الصينيين. وستستغرب مدى التشابه في أقوالهم جميعاً.

«المعماري والمتدرب» ونسيج العمارة في القرن الـ16


تقع أحداث رواية الأديبة التركية إليف شفق الأخيرة »المعماري والمتدرب«، في القرن السادس عشر، في أوج مجد الإمبراطورية العثمانية. وتخبرنا بقصة جاهان، الفتى الهندي البالغ من العمر 12 عاما، بعد هروبه من سطوة زوج أمه في غوا، متجها إلى قصر طوب قابي بإسطنبول برفقة هدية مرسلة للسلطان: الفيل الأبيض تشوتا.

وهذه المغامرة سترفع الفتى من أصوله الفقيرة إلى أعلى المناصب في البلاط السلطاني، حيث سيلتقي في القصر بسنان، كبير المعماريين للإمبراطورية العثمانية الذي سيأخذه تحت جناحه، في سبيل بناء بعض من أجمل المباني في التاريخ (بمساعدة تشوتا). والقصة لا تروي فقط حياة هذين الشخصيتين فحسب، وإنما قصة إسطنبول.

خصوم ومنافسات


وفي أثناء تشييد تحف سنان المعمارية، يزداد الخصوم والمنافسون في كل مكان. وسيختلط جاهان بخدم مخادعين وأصدقاء كاذبين، ويجتمع بخصيان وجوارٍ وتراجمة وانكشارية وغجر وأقزام ومتسولين ومروضي حيوانات، وسيقع في حب الأميرة الجميلة المخادعة، ميهريما. وعمل جاهان مع فيله في الحملات العسكرية ومشاريع البناء.. والمواكب الملكية ستنقله من القصور إلى ساحات الوغى.. ومن الحمامات إلى الزنازين.

وتقول الكاتبة التركية إن الآلية السياسية في المراكز العليا في السلطة لا تعنيها، بقدر اهتمامها بأولئك المنسيين في السجل الرسمي. وإسطنبول بـ «أزقتها الملتفة كالثعابين وممراتها تحت الأرض وأسواقها المغلقة»، تصبح بطرق كثيرة، شخصية مركزية في الرواية، حيث يصارع العمال والمساجين والخصيان والمنفيون والغجر والسكارى والداعرات وغيرهم، في أرجائها.

استكشاف ومعنى


تعد العمارة فكرة أساسية في الرواية، والأمر لا يتعلق فقط ببناء العجائب المعمارية للإمبراطورية العثمانية التي تستحضر بقوة في الرواية، بل أيضاً استكشاف معنى الحياة بالنسبة لجاهان، وكيفية تحقيق التناغم، واتصال كل جزء بالمجموع، وإعادة بناء النفس مجدداً من الخراب، الأمر الذي يمكن أن يكون بصعوبة تشييد واحدة من تحف سنان. وبينما الكراهية والحسد يدمران، فإن الحب يمكن من بناء العالم الجديد.

وحب جاهان لابنة السلطان لا رجاء منه، اذ ينطوي على خطف لحظات من الحنان، لكن هناك الوفاء بين المعلم وتلميذه، والفتى والفيل، والدعم العاطفي من الغجر، لكن الرواية لا تقع في الرومانسية والعاطفية، بل إن القسوة تهيمن على جزء كبير منها. أخوة السلطان يخنقون بأوامر من شقيقهم الذي تبوأ العرش، وأحياء فقيرة تدمر من أجل بناء مساجد جديدة، وأراضٍ أجنبية تجتاح وتسلب ويستعبد سكانها.

«تحت القبة الخفية»


يزخر أسلوب إليف شفق بالاستعارات التي تزين النص، وفكرة قبة المعماري تشكل الاستعارة المركزية في القصة: »المسيحيون واليهود والمسلمون والزرادشتيون وأناس من أديان كثيرة، عاشوا تحت القبة الخفية نفسها. بالنسبة للعين التي ربما لا ترى، فإن العمارة كانت في كل مكان«.

يرى النقاد الرواية، على أنها الأكثر تقليدية لإليف شفق، من حيث سردها القصصي، وتستحضر المؤلفة مجموعة غنية من الأدب الشعبي التركي، كما يظهر تأثرها بثقافات متنوعة من آسيا وأوروبا.

وعلى الرغم من تناول الرواية قضايا متنوعة من السلطة والتعصب الديني والوجود والحرية، إلا أن موضوعها الأساسي هو الحب، ووصف إليف لإبداعات المعماري سنان ينم عن حب: المنارات النحيفة، والأروقة المضاءة بنور الشمس والرخام المنحوت والقباب المرتفعة.

ستة أشخاص


وتقرأ في الرواية »كنا ستة أشخاص: المعلم والمتدربون الأربعة والفيلة البيضاء. بنينا كل شيء معاً: المساجد والجسور والمدارس والخانات وبيوت الزكاة والقنوات. وأنا أفكر في إسطنبول كل يوم.

لا بد من أن الناس يسيرون الآن عبر ساحات المساجد، من دون أن يعرفوا أو يروا. ويفترضون أن المباني حولهم كانت هناك منذ أيام نوح، لكنها لم تكن كذلك، نحن شيدناها. مسيحيون ومسلمون، حرفيون وعبيد، بشر وحيوانات، يوماً بعد يوم. لكن إسطنبول مدينة سهلة النسيان. فالأشياء تكتب على المياه هناك باستثناء أعمال سنان المكتوبة بالحجر”.

نقد حاد


إليف شافاق، التي تعالج كتبها قضايا نسائية، مثل جرائم الشرف، أعربت أخيراً عن معارضتها لتعليقات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن الرجال والنساء غير متساوين. لكن لديها وجهة نظرها الخاصة، فهي: «لا تعتقد بإمكانية التحدث عن حقوق النساء إذا لم تكن هناك حقوق للإنسان».

وتقول «أرغب في أن نؤمن بالديمقراطية»، والسياسة بالنسبة لها «لا تدور حول الأحزاب والبرلمان فحسب، وإنما هناك سياسة في فضائنا الخاص، وفي العلاقات بين الجنسين أيضاً. وحيثما هناك سلطة توجد سياسة».

– البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *