شهاب غانم*
في يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2014 كنت ضيف الشرف الرئيسي في حفل ضخم حضره أربعة آلاف شخص في تريفاندرام عاصمة ولاية كيرالا في الهند، وكرمني فيه أومن شاندي رئيس وزراء ولاية كيرالا. وكنت قد كرمت في أغسطس/آب 2014 في تريشور العاصمة الثقافية لكيرالا من قبل وزير الثقافة جوزيف في أكاديمية الآداب بحضور رئيس الأكاديمية الروائي الكبير سوراداران وكبار أعضائها وكوكبة من الأدباء العرب من بلدان عربية مختلفة، وكان ذلك بمناسبة حصولي على جائزة طاغور للسلام في مدينة كالكتا، قبل ذلك بأكثر من عام. وبعد مغادرة الوزير بدأ أول مؤتمر أدبي عربي- كيرالي باللغتين العربية والماليالمية، وقد أوحت لي تلك الزيارة بقصيدة وآمل أن أتناول موضوع تلك الرحلة والقصيدة في مقالة أخرى.
أما سبب التكريم الجديد فهو ترجمتي إلى العربية لقصيدة تسمى «ديوا داساكام». فقد اتصل بي في نهاية الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول صديق قديم من الصحافيين الهنود، الذين يعملون في دبي، وأخبرني أنه يود زيارتي مع أديب هندي اسمه عبداللطيف العمري ترجم إلى العربية شرحا لتلك القصيدة من لغة الماليالم، وكانت القصيدة قد ترجمت إلى عشر لغات أخرى على الأقل منها الإنكليزية والفرنسية. والقصيدة لزعيم ديني شاعر مصلح اجتماعي اسمه نارايانا جورو (1856- 1928)، وجورو تعني المعلم، يتبع حركته عدة ملايين في جنوب الهند، والذي استرعى انتباهي في حركته أنه ينادي بإله واحد. قال لي عبداللطيف إنه يعرف أنني أكتب تفسيراً لسورة الفاتحة باللغة الإنكليزية مع ولدي المهندس وضاح، فأخبرته أننا قد انتهينا من المسودة بعد سنوات طويلة، وعسى أن يصدر الكتاب قريبا.
أخبرني عبداللطيف أن نارايانا جورو كتب قصيدته بمثابة دعاء غنائي أساسي يردده الأتباع يوميا في صلواتهم أو دعائهم وأنه اهتم بالتفسير، لأن القصيدة تمجد الخالق وحده وتشجيعا من مسلم لما فيها من توحيد، وطلب أن أراجع مسودته وهو في عجلة من أمره، لأنه تقرر إصدارها بالعربية في كتاب في موعد أقصاه 30 ديسمبر، الموافق الذكرى المؤية لنشر القصيدة في لغتها الأصلية.
كنت أنوي أن أعطي المسودة لصديق ليراجعها لغويا بسبب انشغالي، ولكن حب الاستطلاع دفعني لقراءة المسودة، ووجدت نفسي أصححها في الوقت نفسه خلال يومين وأرسلتها للمترجم الذي أرسلها على عجل لكيرالا، وعاد إليّ قائلا، إن القائمين على المشروع يرجونني أن أترجم القصيدة نظماً. قلت لهم ذلك أمر صعب وأنا في معظم ترجماتي للقصائد الأجنبية أترجمها نثرا، إلا في حالات قليلة ترجمت النصوص الإنكليزية الموزونة إلى شعر موزون لتفاعلي مع النص. وعلى كل حال وعدت أن أحاول ولكن أخبرتهم أن الوقت المتاح قصير. بعثوا لي بالترجمة الإنكليزية وكانت في عشر مقطوعات قصيرة، كل مقطوعة من أربعة أبيات. وجدت أن القصيدة هي عموما في تمجيد الله، وقد قلت لهم إنني سأحاول أن أترجمها في شكل عمودي أو تفعيلي أو خليط من ذلك ولن ألتزم بوزن واحد أو قافية واحدة فأعطوني كافة الحرية. وقد ترجمتها خلال بضعة أيام مع محاولة الإبقاء على المعنى الأصلي قدر الإمكان. وفي ما يلي ترجمتي لبعض المقطوعات:
* * *
من أعالي العلا إحمنا
يا إلهي مدى الدنى
لا تكلنا لنفسنا
أنت ربان أمرنا
في محيطات عمرنا
فاسمك المجد والسنى
* * *
أنت ياربنا الوحيد
تمنح اللبس والطعامْ
فلتهبنا قناعةً
تملأ النفس بالسلامْ
* * *
المحيط بأمواجه والرياح
وبعمق المحيطْ
هو شيء بسيطْ
من قدرة ما لها آخرُ
قدرة لا تتاح
فلك المجد وحدك يا قادرُ
* * *
ألست القويَ القديرَ؟
الإلهَ الوحيدَ الكبيرَ؟
من يبطل السحر والكفرْ
ويعطي الخلاص لمن يسلم الأمرْ
* * *
أنت سرُّ الوجود والعلمِ
أنت سرُّ السمو في القِيَمِ
في يديك الزمان: حاضرهُ..
ما سيأتي.. ما غاب في القدمِ
أنت رب الوحي العظيم بدتْ
في ثناياه روعة الكلمِ
* * *
مالكَ الملكِ يا أكرمَ الأكرمينْ
لكَ كلُ انتصارٍ مبينْ
أنت وحدُك من يمنحُ البائسينْ
أنتِ وحدُك من ينقذُ التائهينْ
أنت بحرٌ من الحكمةِ الشاسعة
ومحيطٌ من الرحمةِ الواسعة
* * *
هبْ لنا ربُّ منْ رضاكَ الكريمِ
غمرةً في سنى الضياءِ العظيمِ
وأعشنا في مجدك المعلومِ
في محيطٍ من النعيمِ المقيمِ
القائمون على المؤتمر طلبوا أن أحضر كضيف الشرف الرئيسي في حفل تدشين الكتاب. اعتذرت لرغبتي في حضور حفل زواج ابنة اختي العزيزة على قلبي يوم 31 ديسمبر فأقنعوني بأنهم سيرتبون عودتي في الوقت المناسب لحضور حفل الزواج.
أردت أن أستفيد من الرحلة أدبيا فطلبت أن يحاولوا أن يرتبوا لي لقاءات يوم 29 ديسمبر مع ثلاثة من أهم شعراء تريفاندام وهم أو إن في كروب المولود عام 1931 الذي كنت قد ترجمت له قصيدة في مجموعتي «قصائد من كيرالا» الصادرة عام 2005، وشاعرة البيئة الشهيرة شجثا كماري المولودة عام 1934، التي كنت التقيتها ثلاث مرات في الماضي، إحداها منذ عدة أعوام في منزل القنصل الهندي حين دعاني للقاء مع نخبة من شعراء كيرالا وقد ترجمت لها بعض القصائد المتميزة في ثلاثة من كتبي آخرها «مطر الليل» وهو عنوان استعرته من عنوان إحدى قصائدها.
والشاعر الثالث كان مادوسودانان ناير المولود عام 1949 والذي كنت قد تعرفت عليه في ترشور في أغسطس/آب الماضي. وفي الواقع تمكن القائمون على أمر رحلتي من ترتيب زيارتين ممتعتين لمنزل شجثا كماري ومادوسودانان بحضور التلفزيون والصحافة، اللذين سجلا الحوار كاملا وأذاعا مقتطفات منه في نشرة الأخبار، ونشرت الخبر والصور صحيفة «مادهيمام» في اليوم التالي، أما الشاعر الشهير كروب فهو في وضع صحي صعب جداً وقد منعت عنه الزيارات.
في اليوم التالي وجدت حفاوة بالغة في موقع الحفل وقد تجمع أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من مريدي نارايانا جورو خلال فترة ثلاثة أيام أشبه بنوع من الحج إلى منطقة قبره، الذي كان قد زاره في يوم من الأيام المهاتما غاندي والشاعر طاغور. وكان القائمون على الحفل يحاولون أن ينجزوا بالاتفاق مع موسوعة جينس أطول سجل لقصيدة طولها المتواصل (دون لصق) يتجاوز عشرة كيلومترات وكان الزوار ينسخون القصيدة كاملة بخط يدهم بمختلف اللغات التي يعرفونها، بما في ذلك الماليالم المكتوبة بالحروف العربية (وهي لغة قليلة الاستعمال في زمننا الحالي) وقد سجل القصيدة بذلك الحرف العربي أكثر من 60 شخصا، كما سجلت أنا ترجمتي العربية.
وقد وصل طول الورقة عند زيارتي أكثر من 8 كيلومترات وربع الكيلومتر. وقد جهز لفة الورق مصنع في (مدراس) التي تسمى اليوم (شيناي) عاصمة ولاية تاميل نادو بطول 15 كيلومترا! ولعل من أغرب الأمور أن الطريق الذي كان مزينا على جانبيه بالأعلام كان يخفق فيه أكثر من عشرين علما يحمل صورتي واسمي زيادة في الحفاوة بي.
في الحفل قدم رئيس الوزراء لي أول نسخة من كتاب «ديوا داساكام» باللغة العربية وألقى كلمته الرسمية، ثم كرمني بصفتي الضيف الرئيس للحفل وبعدها غادر الحفل، ثم ألقيت أنا كلمة أشرت فيها في ما أشرت إلى التوحيد في قصيدة ناريانا جورو واقتراب ذلك من الإسلام، وأشرت إلى جهوده في الإصلاح الاجتماعي ومعارضته لنظام الطوائف الطبقية في بلاده من براهميين ومنبوذين وغير ذلك، ثم قرأت ترجمتي العربية للقصيدة كاملة. وبعد ذلك تحدث كبير القساوسة في كيرالا وبعض المسلمين ومنهم عبداللطيف مترجم الكتاب وقد كرموا من قبل كبير اتباع نارايانا جورو وهو شيخ ربما جاوز التسعين. وعدت إلى الفندق لأستعد للسفر لحضور حفل زواج قريبتي في الإمارات بينما استمر الحفل.
*أديب من دولة الامارات
( القدس العربي )