د. غسان إسماعيل عبد الخالق *
التصوّف و ليلى!
قلّ أن نجد مثقفًا أو نصف مثقف أو حتى ربع مثقف عربي، لا يتغنّى من قريب أو بعيد بالصوفية والصوفيين. وربما ضمّن الكتّاب منهم، عبارات مأثورة لابن عربي أو الشنفرى أو البسطامي أو الحلاّج أو السهروردي أو الجنيد أو رابعة، من باب زركشة النصوص والرغبة في التمسّح برداء الصوفية والصوفيين. لكن واقع الحال يؤكد أن الصوفية العربية الإسلامية، بسلوكها ومبناها ومعناها الروحي والأدبي والفلسفي العميق، كانت وما زالت، تعاني كثيرًا من رقة الفهم والهجران، بل والتنكّر أحيانًا، لأسباب عديدة يقف على رأسها: كون التصوف العربي الإسلامي الفلسفي الرفيع سلّمًا طويلاً، إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه، زلّت به إلى الحضيض قدمه، والتصوف لا يستطيعه من يظلمه! والهجمة الشرسة التي تعرّض لها التصوّف الفلسفي على يد المحافظين منذ أوائل القرن الثالث الهجري حتى الآن! وتحوّل التصوّف في العديد من أقطار العالمين العربي والإسلامي إلى شكل من أشكال الفولكلور الروحي! فضلاً عما لحق بالطرق الصوفية من مظاهر الدروشة والذهول عن حركة الواقع والامتناع عن الانخراط في القضايا الكبرى والمصيرية! علمًا بأن الطرق الصوفية كان لها دور بارز في التصدّي لهجمات المغول والصليبيين على المشرق العربي، نظرًا لأنها كانت تعلي من شأن ومفهوم “الفتوّة” القوي التقي النقي العادل. وقد اعتنى السلطان صلاح الدين الأيوبي بوجه خاص ثم سلاطين المماليك بوجه عام، بدعم هذه الطرق، وأقاموا لها عشرات الزوايا والربّاطات، تقديرًا لدورها الروحي والشعبي والاجتماعي والدفاعي. وإجمالا، فالصوفية العربية الإسلامية الفلسفية الرفيعة الآن، تكاد تكون من المضنون به على كثير من المثقفين والمبدعين العرب، ومع ذلك لا يجدون مانعًا من التغنّي بها على طريقة تغنّيهم بليلى؛ فكلّهم يدّعي وصلاً بليلى، وليلى لا تقرّ لهم بذاكا!
الصوفي الجديد
يعدّ الدكتور أمين يوسف عودة، من أبرز دارسي التصوّف الإسلامي، في الأردن والوطن العربي. كما أعدّه أنا أيضًا، من أبرز الصوفيين الجدد! وأعني بالصوفيين الجدد، أولئك النفر من المتصوّفة الذين مزجوا بين أحوالهم ومعارفهم الصوفية العتيدة من جهة، وبين خبراتهم وقراءاتهم الحداثية اللافتة من جهة ثانية، فانتجوا ما يمكن وصفه بضرب من التصوّف اللطيف الذي يضعهم على مقربة من مناهج وإيقاع العصر ومن مسالك وأنظار الموروث. وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد لحقيقة أن أمين يوسف عودة، هو أيضًا، من أبرز قصّاصي جيل الثمانينات، صار في إمكاننا أن نقدر خصوصية المكونات الروحيّة والثقافية والإبداعية التي رفدت وما زالت ترفد مسيرته العرفانية اللافتة؛ فقد سبق له أن أصدر في مستهل التسعينات، مجموعتين قصصيتين هما: تحوّلات مصطفى جابر / 1990 والرنين /1991. ومع أن المجموعتين استأثرتا باحترام القرّاء والنقاد على حد سواء، فضلاً عن فوزهما بجوائز إبداعية مرموقة، إلا أن أمين يوسف عودة، آثر التوقّف عن كتابة القصة القصيرة، وتفرّغ تمامًا، للتصوف، مجاهدة وكتابة.
رسالة “كيفية التوجّه الأَتَمّ”
سبق لأمين يوسف عودة، أن نشر كتابين معدودين في حقل الدراسات الصوفية وهما: تأويل الشعر والفلسفة عند الصوفية – ابن عربي نموذجًا / 1990، وتجليات الشعر الصوفي –قراءة في الأحوال والمقامات /2001. فضلاً عن العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات في عدد من المجلات العلمية والثقافية. ويمثل كتابه (جماليات التعبير والمحتوى في الرسالة الصوفية)الذي صدر في مستهل هذا العام 2015، دراسة وتحقيقًا مستفيضين لرسالة الشيخ صدر الدين القونوي الموسومة (كيفية التوجّه الأتمّ الأوّلي نحو الحق جلّ وعلا). حيث أفرد القسم الأول منه للتعريف بالشيخ الكبير؛ ولادة ومنشأً وأساتذة وتلاميذ وكتبًا وفضلاً. ثم عكف على تحقيق نسبة الرسالة للشيخ الكبير، فقطع بصحة نسبتها له، بعد أن خيّل لبعض الدارسين والسالكين أنها لشيخه الأكبر ابن عربي، ثم تفرّغ لإبراز جمالياتها البلاغية، فأشفى من ذلك على الغاية. وأفرد القسم الثاني من الكتاب لتحقيق نص الرسالة، استنادًا إلى أربع نسخ منها، فأبرز حسنات النسخة الأولى منها، وكشف مثالب النسخ الثانية والثالثة والرابعة، على نحو يذكر له.
ولعل من الضرورة بمكان التذكير بأن الرسالة تمثّل توجيهًا مكثفًا وموجزًا للسالك المخلص والمريد المجتهد، بخصوص كيفية الترقّي في مراتب العرفان، وصولاً إلى أقصى درجات السعادة، عبر التخلص تدريجيًا من كل شواغل القلب سوى الانشغال بالله جلّ وعلا.
جماليات الرسالة
اشتملت جماليات رسالة الشيخ القونوي (كيفية التوجّه الأَتَمّ)، وفقًا لأمين يوسف عودة، على ثلاثة من المستويات البلاغية البارزة وهي:
أ- التصوير الاستعاري والتشبيهي؛ وقد بدا وافرًا ملحوظًا في مقدمة الرسالة على النحو التالي: (الحمد لله المنعم على الصفوة من عباده بمزية الاجتباء، الباذل لهم جزيل المنح وسوابغ النعماء، الذي أخرجهم من باطن الوجود العلمي، وظلام الإمكان العدمي، إلى ظاهر عرصة الوجود العيني، مجمع الأنوار والأضواء. ثم نقلهم من ضيق السد البشري وتشغيبه، وسدفة اللّجي الطبيعي العنصري وتركيبه، في سفن العناية والتصديق، وعلى براق العمل الصالح والتوفيق، حتى حطّوا رحالهم وألقوا مراسيهم بمقام حق اليقين والجلاء، وكحّل أبصارهم وبصائرهم بنوره، فخلصوا من غياهب الشكوك والحيرة والمراء، واهتدوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه). وقد لاحظ أمين يوسف عودة محقًا، انطواء الإجراءات الاستعارية والتشبيهية في رسالة الشيخ الكبير، على توظيف لافت للتشخيص والتجسيد بوصفهما حاملين بلاغيين ناجعين للمعنى المراد إيصاله للمريد.
ب- ضروب البديع ومضمراته الدّلاليّة؛ للبديع بضروبه المختلفة، وظيفة بلاغية رئيسة في النص النثري، مؤدّاها: التعويض عن افتقاره للوزن والقافية اللذين يرفل بهما النص الشعري، من خلال (الموازنة) التي تشمل المماثلة والمقابلة والطباق والجناس والتقسيم والسجع والازدواج. وقد حالف التوفيق أمين يوسف عودة، حين رصد ظاهرة السجع في مقدمة الرسالة، ثم استفاض في تجلية دلالات (الألف الممدودة المتبوعة بالهمزة) في عُرْف الصوفيين. ولنلاحظ أولاً مدى الجمال الماثل في المقدمة المسجوعة بفاصلة الألف الممدودة المتبوعة بالهمزة، وخاصة إذا أعيدت كتابتها على هذا النحو:
الحمد لله المنعم على الصفوة من عبادة بمزية الاجتباء.
الباذل لهم جزيل المنح وسوابغ النعماء.
مجمع الأنوار والأضواء.
وألقوا مراسيهم بمقام حق اليقين والجلاء.
فخلصوا من غياهب الشكوك والحيرة والمِراء.
فشفوا من كل الأسقام والأدواء.
مفتاح قفل الإنشاء، وخاتم ذروة السيادة والاعتلاء، محمّد سيد الأنبياء.
فإذا ما نحن عطفنا على ما تقدم، القول بأن (لحرف الألف عند الصوفية مكانة رمزية سامية، فهو الحرف الوحيد القائم الذي لا اعوجاج فيه على خلاف سائر الحروف. وله موقع الصدارة من حيث الترتيب الأبجدي والألفبائي، كما أن الحروف كلها من حيث كونها أصوات لا تتحقق إلا به. ولهذه الخصائص التي ليست في غير الألف، رمز الصوفية بها إلى الحق تعالى، فكما أن الحق يتجلّى في مظاهر الوجود، فكذلك الألف التي تتجلى في أصوات الحروف) صار في مقدورنا تصور المعمار الجمالي الذي اضطلع بإنشائه في رسالة (كيفية التوجّه الأتم) الشيخ الأكبر صدر الدين القونوي.
ج- التضاد الدّلالي؛ المطابقة والمقابلة؛ وفي هذا المستوى من البديع، تجسيدٌ رفيع لتلك المقولة العتيدة (وبضدّها تتعرّف الأشياء)؛ إذ لا يمكن معرفة “الفوق” دون أن يكون هناك “تحت” ولا “السواد” دون أن يكون ثمة “بياض”. ويزيد الباحث على ذلك باسترعاء انتباهنا إلى حقيقة أن التضاد، وإن كان في ظاهره تنافرًا على أنحاء متنوعة، إلا أن من شأنه إيقافنا على حقيقة التكامل الجميل الذي يمور بالتناغم والتجانس في هذا الكون على نحو جدلي.
المصطلح الصوفي ولغة الحسم الأسلوبي
إذا كان هربرت ماركيوز قد لاحظ محقًا، أن كل شكل لا بد أن يتطوّر حتى يصبح مضمونًا، فيمكننا أن نؤكد أيضًا حقيقة أن كل مضمون لا بد له من شكل يعبِّر عنه ويظهر خصوصيته وعلاماته الفارقة. إن المصطلح الصوفي، يتبدى في الخطاب العرفاني بوصفه (أحد مظاهر الحسم الأسلوبي) الذي من شأنه تحديد هوية الخطاب العرفاني، أسوة بسواه من الخطابات التي لا تدّخر وسعًا لبلورة هوياتها اعتمادًا على جملة من الإجراءات الأسلوبية وعلى رأسها تفرّد المصطلح. ومن الملاحظ أن مصطلحات الشيخ الأكبر في رسالة (كيفية التوجه الأتمّ) قد نحت كغيرها من الرسائل الصوفية، من البسيط المشترك الذي يمكن الحدس بمعناه دون استشارة المعجم الصوفي، إلى الوسيط الذي قد نحتاج معه إلى الاستئناس بمعجم السالكين، إلى المعقد والغامض الذي قد يلتبس حتى على بعض أهل الطريقة، ويحتاج منا قطعًا، إلى تفهم السّياق الذي أدرجت فيه هذه المصطلحات من جهة، فضلاً عن الاستئناس بمعجم المتصوفة من جهة ثانية.
وقد رصد أمين يوسف عودة، عددًا وافرًا من هذه المصطلحات المتفاوتة من حيث الوضوح أو الغموض، أو من حيث الإفراد أو التركيب مثل: التوجه، باطن وظاهر، حضرة الحق، إمداد، مقام القرب، الفقر، الكمال الذاتي، التحقق بعبوديته ومعرفته، التجلّي والتدلّي، المرآة، السير، السلوك، الرياضة، السالك، محبة ذاتية، هيولاني، الوحدة والكثرة، حضرة القدس، مرآة السر الإلهي، عالم الحقائق، الاستعداد، التجرّد، التزكية، الطريق، الخواطر، التيقّظ، الإطلاق، الترقّي، المجاهدات…
عود إلى بدء
يذكر لأمين يوسف عودة، على صعيد تحقيق ودراسة هذه الرسالة، تصديه لكشف الغطاء عن حقيقة مُنْشئها، وعلى نحو لا يدع مجالاً للشك بما قطع به، وهذا في حذ ذاته إنجاز معرفي لا يستهان به. كما يذكر له، تصديه لتفكيك وتحليل وتأويل وإعادة بناء مكوّنات الرسالة، شكلاً ومضمونًا، استنادًا إلى موروثه المعرفي الصوفي من جهة، واعتمادًا على مخزونه المعرفي المعاصر من جهة ثانية. فضلاً عن حساسية الإبداعية الكامنة بوصفه قاصًا موهوبًا قادرًا على تلمس اللمحات الجمالية اللافتة في النص.فوفّر بذلك للخطاب الصوفي المنصة التي تليق به، قديمًا وحديثًا، دون مبالغة أو تعسّف في التحليل أو التركيب أو التأويل. وعلى الرغم من إغراءات الاستغراق في الوصف أو التفسير أو استعراض المضمون الصوفي، إلا أن أمين يوسف عودة آثر الانشغال بابتداع ورشة جمالية أسلوبية تمور بضجيج الإجراءات البلاغية الوافرة، والتي يصعب التنكر لوجاهتها وموضوعية الإنهماك في تتبعها وإبرازها، ما أكسب الخطاب الصوفي بعامة، ورسالة الشيخ الكبير صدر الدين القونوي بخاصة، قيمة فنية مضافة، من شأنها أن تسترعي الأنظار مجدّدًا إلى ضرورة استقراء النص الصوفي بوصفه نصًا دالاً ومنتجًا وواعدًا بكثير من الحدوس النقدية. ولعمري، فإن مثل هذا الاستقراء، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وضعنا نصب أعيننا، ما وضعه أمين يوسف عودة نصب عينيه، وأعني بذلك: ضرورة التقدم باتجاه النص الصوفي، بيد تحمل الفتوحات المكيّة لابن عربي والكشّاف للزمخشري ولسان العرب لابن منظور من جهة، ويد ثانية تحمل تاريخ الأدب العربي لبروكلمان والاستعارات التي نحياها لمارك جونسون والمدخل لدراسة الصور البيانية لفرانسوا مورو من جهة ثانية!!!
* ناقد وأكاديمي من الأردن
الجسرة الثقافية