ما هي الفلسفة؟


جيل دولوز و فيليكس غوتاري

(ثقافات)


 ترجمة : عبدالعالي نجاح

   ربما أن طرح مسألة ما هي الفلسفة؟ لا يتأتى إلا آجلا، حين تقبل الشيخوخة وساعة الحديث بطريقة ملموسة. تطرح هذه المسألة حين تنتفي المواضيع التي تستدعي السؤال، لكن تكون نتائجها مهمة.
فيما مضى، نطرحها ولا نكف عن طرحها، لكن بشكل جد سطحي وجد تجريدي؛ نعرضها ونحتويها أكثر مما نحن مشذوذين بها. توجد حالات حيث لا تمنح الشيخوخة شبابا أبديا، لكن على العكس حرية مطلقة، وضرورة خالصة حيث ننعم بالسكينة بين الحياة والموت، وحيث تأتلف كل أجزاء الآلة قصد إرسال في المستقبل سمة تخترق العصور، تورنر وموني وماتيس (1). فقد اكتسب أو انتزع تورنر في شيخوخته حق إنقياذ الصباغة في طريق قاحلة وبدون رجعة، والتي لا تتميز قط عن السؤال الأخير. وكذا الشأن في الفلسفة، إذ أنجز كتاب (نقد الأحكام) لكانط في مرحلة الشيخوخة، كتاب متحرر لن يتوقف أتباعه عن السعي وراءه.
لا ندعي الوصول إلى هذه المكانة، كل ما في الأمر، أن الوقت قد حان لنتساءل عن ماهية الفلسفة. لم نتوقف عن القيام به سابقا، ونمتلك مسبقا الجواب الذي لم يتغير: الفلسفة فن تكوين وإبداع وصناعة المفاهيم. لكن لا ينبغي فقط أن يتضمن الجواب السؤال، بل يتطلب أيضا تحديد لحظة معينة ومناسبة وملابسات ومشاهد وشخصيات وكذا شروط ومجهولي السؤال. يتطلب إمكانية طرحه “بين الأصدقاء”، كبوح أو ثقة، أو في وجه العدو، كتحدي، وفي نفس الآن بلوغ تلك اللحظة، بين الكلب والذئب، حيث نتوجس حتى من الصديق.
إن المفاهيم في حاجة إلى الشخصيات المفاهيمية التي تساهم في تحديدها. ويعد “الصديق” تلك الشخصية التي نقول بصددها أنها تشهد على الأصل الإغريقي للفلسفة. إذ كان للحضارات الأخرى حكماء، لكن الإغريق يمثلون هؤلاء “الأصدقاء” اللذين ليسوا مجرد حكماء جد متواضعين. إنهم الإغريق اللذين كرسوا موت الحكيم، واللذين استعاضوا عنه بالفلاسفة، أصدقاء الحكمة، اللذين يبحثون عن الحكمة، لكن دون امتلاكها بطريقة قطعية. بيد أن القليل من المفكرين قد تساءلوا حول دلالة “الصديق”، خاصة وتحديدا عند الإغريق. هل يعني “الصديق” حميمية مقتدرة ما، ونوعا من الذوق المادي أو طاقة ما، كتلك التي تجمع النجار بالخشب، حيث يتمثل النجار الجيد الخشب بالقوة، إنه صديق الخشب. تعد المسألة جد هامة بما أن الصديق، لا يعني قط شخصية خارجية، مثالا ما أو ظرفية تجريدية، ولكن حضورا داخليا في الفكر، وشرطا لإمكانية الفكر نفسه، وبخلاصة مقولة حية، ومعاشا مفارقا، وعنصرا مكونا للفكر. هذا، ومنذ نشأة الفلسفة، مارس الإغريق ضغطا قويا على الصديق الذي لم يعد في علاقة مع الآخر، ولكن مع الوحدة والموضوعية والجوهر. ويعبر ذلك جيدا على العبارة المأثورة، والمتمثلة في ضرورة ترجمة أنا صديق بيير وبول أو أيضا صديق أفلاطون، لكن ليس صديقا للحق وللحكمة أو المفهوم. ويعد الفيلسوف خبيرا في المفاهيم، وفي حاجة إلى المفاهيم، كما يدرك تلك الثابتة والاعتباطية أو الفارغة، والتي لا تصمد لحظة واحدة؛ وتلك على العكس التي صيغت جيدا وتشهد على فعل إبداعي، مقلق أو خطير حتى.
ما معنى الصديق حين يصبح شخصية مفاهيمية أو شرطا لممارسة الفكر، أو أيضا محبا، أليس بالأحرى محبا. ألا يقحم الصديق حتى في الفكر علاقة حيوية مع الآخر الذي تم الاعتقاد في إقصاءه من الفكر الخالص؟ أو أيضا ألا يتعلق الأمر بشخص آخر غير الصديق والمحب؟ لأنه إذا كان الفيلسوف صديقا للحكمة ومحبها، أليس ذلك راجع إلى إدعائه، ببذل الجهد بالقوة عوض امتلاكها بالفعل؟ إذا يصبح الصديق أيضا داعية، وأن الذي ينعته بالصديق، فهي المادة موضوع الدعوة، وليس قط عنصرا ثالثا، الذي يصبح على العكس منافسا. وتنطوي الصداقة على حذر اتجاه المنافس أكثر مما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة. حينما تتحول الصداقة نحو الجوهر، يصبح الصديقان كداعية ومنافس (لكن من يميز بينهما؟). وتلتقي الفلسفة الإغريقية بذلك مع مساهمة المدن الإغريقية التي نسجت فيما بينها وبداخل كل واحدة علاقات تنافسية، فارضة دعاة في كل المجالات، في الحب وفي الألعاب والمحاكم ومجالس القضاء والسياسة، وحتى في الفكر الذي لن يجد قط شرطه في الصديق، لكن في الداعية والمنافس (الجدل الذي يحدده أفلاطون في جدلية التنافس (2)). مسابقات رياضية معممة. ويعد الصديق والمحب والداعية والخصم تحديدات مفارقة التي لا تفقد بذلك وجودها المكثف والحيوي، في نفس الشخصية أو في شخصيات متعددة. وحينما يطرح الآن موريس بلانشو، الذي ينتمي إلى المفكرين القلائل المهتمين بمعنى كلمة “صديق” في الفلسفة، هذه المسألة الداخلية لشروط الفكر بما هو فكر، أليس شخصيات مفاهيمية جديدة أيضا التي يقحمها بداخل حركية الفكر(3) الجد خالص، شخصيات أقل إغريقية هذه المرة، آتية من مكان آخر، والتي تجر وراءها علاقات حيوية جديدة منخرطة في وضعية الأشكال، نوع من الإعياء القبلي، ونوع من خيبة الأمل بين الأصدقاء التي تحول الصداقة ذاتها إلى فكر المفهوم كمشاركة وصبر لا متناهيين؟ إن لائحة الشخصيات المفاهيمية غير مغلقة البتة، وبالتالي تلعب دورا هاما في تطور الفلسفة أو تحولاتها، وكذا ضرورة فهم تنوعها، دون اختزاله في الوحدة المعقدة سلفا للفيلسوف.
يعد الفيلسوف صديقا للمفهوم، ويتمثل المفهوم بالقوة. مما يعني القول أن الفلسفة ليست مجرد فن تكوين وخلق وصناعة المفاهيم، لأن المفاهيم ليست بالضرورة أشكالا أو اكتشافات أو منتوجات. وبالتحديد، تعد الفلسفة المجال المعرفي المتمثل في إبداع المفاهيم. ويصبح الصديق صديقا لإبداعاته الخاصة. إن إبداع مفاهيم دائمة الجدة هو موضوع الفلسفة. وباعتبار وجوب ضرورة إبداع المفاهيم، فإنه يحال على الفيلسوف وكذا على ذلك الذي يتمثله بالقوة، أو ذاك الذي لديه القوة والمقدرة. لا يمكن الاعتراض على أن الإبداع ينتمي بالأحرى إلى الحسي وإلى الفنون، مادام الفن يخلق وحدات روحية، ومادامت المفاهيم تعد أيضا حسيات (4). إن العلوم والفنون والفلسفات في الحقيقة مبدعة بدورها، رغم أن إبداع المفاهيم بالمعنى الدقيق يرجع إلى الفلسفة وحدها. لا تكون المفاهيم مكتملة، مثل أجسام سماوية. ولا توجد سماء للمفاهيم. ينبغي ابتكارها وصناعتها أو بالأحرى إبداعها، وأنها لن تكون شيئا بدون توقيع أولئك الذين أبدعوها. لقد حدد نيتشه مهمة الفلسفة حيث كتب “لا ينبغي للفلاسفة الاكتفاء بقبول المفاهيم التي تعطى لهم، من أجل صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع في صناعتها وإبداعها وطرحها، وإقناع الناس باللجوء إليها”. إجمالا وإلى غاية الآن، يثق كل واحد في مفاهيمه، كما لو تعلق الأمر بصداق خارق جاء من عالم خارق بدوره، لكن ينبغي تعويض الثقة بالحذر، وعلى الفيلسوف أن يحتاط جدا من المفاهيم، مادام نفسه لم يبتكرها (كان أفلاطون يعرف ذلك جيدا، حتى وإن كان يدرس العكس…). ما قيمة فيلسوف يمكن القول عنه أنه لم يبدع مفهوما ما؟ نرى على الأقل ما ليس فلسفة: إنها ليست تأملا ولا تفكيرا ولا تواصلا، رغم اعتقادها كونها تارة الواحدة وتارة الأخرى، نظرا لقدرة كل مجال معرفي على توليد أوهامه الخاصة، وعلى الاختفاء وراء ضباب يبعثه خصيصا. إنها ليست تأملا، لأن التأملات هي الأشياء ذاتها كما هي منظورا إليها في عملية إبداعها لمفاهيمها الخاصة. وأنها ليست تفكيرا، لأن لا أحد في حاجة إلى الفلسفة للتفكير في أي شيء كان. يتم الاعتقاد في إعطاء الكثير للفلسفة حين نجعلها فنا للتفكير، لكن يتم تجريدها من كل شيء، لأن الرياضيين كرياضيين لم ينتظروا أبدا الفلاسفة للتفكير في الرياضيات، كما الفنانين حول الرسم أو الموسيقى، فالقول بأنهم صاروا فلاسفة يعد مزحة سيئة، مادام تفكيرهم ينتمي إلى إبداعاتهم الخاصة. ولا تجد الفلسفة أي ملجأ أخير في التواصل، الذي لا يشتغل بالقوة إلا على الآراء، قصد إبداع “إجماع” وليس إبداع مفهوم ما.
فالفلسفة لا تتأمل ولا تفكر ولا تتواصل، رغم أنها مطالبة بإبداع المفاهيم من خلال هذه الأفعال أو الهوايات. ليس التأمل والتفكير والتواصل مجالات معرفية، بل آليات لتشكيل كليات في كل المجالات المعرفية. تعد كليات التأمل، ثم التفكير، بمثابة الوهمين اللذين درستهما الفلسفة سابقا في حلمها للسيطرة على المجالات المعرفية الأخرى (المثالية الموضوعية والمثالية الذاتية)، وأن الفلسفة لا تزداد شرفا حين ترتد الآن إلى كليات التواصل التي تمنحها سيطرة وهمية على الأسواق ووسائل الإعلام (مثالية تماثلية). كل إبداع فريد، وأن المفهوم كإبداع فلسفي محض هو فرادة على الدوام. يتمثل المبدأ الأول للفلسفة في كون الكليات لا تفسر شيئا، وينبغي أن تكون ذاتها موضع تفسير. ويمكن اعتبار هذا التعريف للفلسفة حاسما، معرفة بواسطة مفاهيم خالصة لكن يسقط الحكم النيتشوي المتمثل في استحالة المعرفة بواسطة المفاهيم، إذا لم يتم إبداعها بداية… يعني التفلسف إبداع المفاهيم. إذا، الفلاسفة الكبار جد ناذرين.
معرفة الذات/تعلم التفكير/العمل على دحض البديهيات/ الدهشة، “الدهشة من أن الكينونة هي…”، تشكل هذه التحديدات، وتحديدات أخرى، تصرفات مفيدة، رغم أنها مملة مع مرور الوقت، لكنها لا تشكل انشغالا جد محدد، ونشاطا حقيقيا، حتى من وجهة نظر بيداغوجية. على الأقل، يعني إبداع المفاهيم فعل شيء ما. يتطلب استعمال الفلسفة أو صلاحيتها، أو أيضا مضرتها، العمل على تغييرها.
تتسارع مشاكل كثيرة أمام الأعين المهووسة للرجل الشيخ الذي يرى تضارب كل أنواع المفاهيم الفلسفية والشخصيات المفاهيمية. وبداية، أن هذه المفاهيم تظل موقعة، جوهر أرسطو، كوجيطو ديكارت، موناد ليبنتز، شرط كانط، قوة شيلنغ، ديمومة برغسون… لكن أيضا، يلح البعض على كلمة استثنائية، أحيانا غير صحيحة أو مستفزة، التي تعبر عنها؛ بينما يكتفي البعض بكلمة متداولة جد عادية، والتي تشحن بقواعد الجناس القديمة جدا حيث يصعب على أذن غير فلسفية رصدها. يثير البعض تعابير قديمة، والبعض الآخر منطوقات جديدة، خاضعة إلى تمارين اشتقاقية جد جنونية، الاشتقاق كرياضة فلسفية خاصة. لابد أن تنطوي كل حالة على ضرورة غريبة لهذه الكلمات ولاختيارها، كعنصر في الأسلوب. ويتطلب قداس المفهوم ذوقا فلسفيا خاصا الذي يعمل بالعنف أو بالتلميح، والذي يشكل داخل اللغة لغة للفلسفة، ليس فقط مجموعة مفردات، وإنما صياغة لغوية ترقى إلى السمو أو إلى جمالية رائعة. بيد أن للمفاهيم، رغم زمنها وتوقيعها وقداسها، طريقتها في مقاومة الفناء؛ مع العلم أنها تخضع لمتطلبات التجديد والتعويض والتحول، التي تعطي للفلسفة تاريخا وكذا جغرافية مضطربتين، حيث تحتفظ بكل لحظة وبكل مكان، لكن في الزمان، وتعبران، لكن خارج الزمان. إذا كانت المفاهيم دائمة التغيير يتم التساؤل عن أية وحدة دائمة للفلسفات. هل ينطبق الشيء نفسه على العلوم وعلى الفنون التي لا تعمل بواسطة المفاهيم؟ وماذا عن تاريخ كل واحد منهما؟ إذا كانت الفلسفة ذلك الإبداع المستمر للمفاهيم، فمن البديهي التساؤل عن ما هو المفهوم كمثال فلسفي، لكن أيضا عن ما تقوم عليه المثل الإبداعية الأخرى التي ليست مفاهيم، والتي تنتمي إلى العلوم وإلى الفنون المتمتعة بتاريخ خاص وصيرورة خاصة، وبعلاقات متغيرة خاصة في ما بينها وبين الفلسفة. تمنح فرادة إبداع المفاهيم للفلسفة وظيفة، لكن لا تعطيها أي تفوق أو امتياز، مادامت هناك طرائق أخرى في التفكير وفي الإبداع، وسبل أخرى للتفكر التي تضطر إلى المرور عبر المفاهيم، كما هو المبتدأ في الفكر العلمي. فلابد من الرجوع دائما إلى مسألة معرفة ماذا يفيد هنا النشاط الخاص بإبداع المفاهيم، وفق الشكل الذي يختلف فيه عن النشاط العلمي أو الفني. لماذا ينبغي إبداع المفاهيم، ودائما مفاهيم جديدة، في إطار أية ضرورة ولأي استعمال؟ من أجل ماذا؟ إن الجواب الذي يقر بأن عظمة الفلسفة تتمثل بالضبط في عدم صلاحيتها لأي شيء، عبارة عن غزل غبي. على أية حال، لم يكن لدينا أي مشكل في ما يخص موت الميتافيزيقا أو تجاوز الفلسفة، إنها تراهات شاقة ولا جدوى منها. يتم الحديث الآن عن إفلاس الأنساق، في أن مفهوم النسق قد تغير فقط. إذا ما تم إبداع المفاهيم في مكان وزمان ما، فإن العملية التي تم الاشتغال عليها ستسمى دائما فلسفة، وأنها لن تتميز عنها نهائيا حتى وإن أطلق عليها اسما آخرا. يمكن للفلسفة التخلي عن مكانتها لكل مجال معرفي آخر يستطيع شغل وظيفة إبداع المفاهيم جيدا، لكن مادامت الوظيفة موجودة، فإنها تظل تسمى فلسفة، ودائما فلسفة.
نعرف بالأحرى أن الصديق أو المحب كداعية لا يقوم بدون منافسين. إذا كان للفلسفة أصلا إغريقيا كما نردد ذلك جيدا، فلأن المدينة الإغريقية، وخلافا للإمبراطوريات أو الدول، ابتكرت الأغون (5) كقاعدة لمجتمع “الأصدقاء”، مجتمع البشر الأحرار كمتنافسين (مواطنين). إنه الوضع الثابت الذي يصفه أفلاطون حين يدعي كل مواطن شيئا ما، فإنه يواجه بالضرورة منافسين، بحيث لابد من توفر إمكانية الحكم على صحة أساس الإدعاءات. يطلب النجار الخشب، لكنه يصطدم بحارس الغابة والحطاب وصانع الخشب الذين يقولون: أنا صديق الخشب. وإذا تعلق الأمر بالعناية بالبشر، فإن الكثير من الدعاة يحضرون كأصدقاء للإنسان، كالفلاح الذي يغذيه، والناسج الذي يلبسه، والطبيب الذي يعالجه، والمحارب الذي يحميه. وإذا كان الانتقاء يتم في كل الحالات رغم كل شيء داخل دائرة ضيقة، فإن الأمر يختلف كليا في السياسة، حيث يمكن لأي كان أن يطلب أي شيء، داخل الديمقراطية الأثينية كما يراها أفلاطون، حيث يتم إبداع الهيئات التي بواسطتها يتم الحكم على صحة أساس الإدعاءات، إنها المثل كمفاهيم فلسفية. لكن هنا أيضا، ألن نلفي كل أنواع الدعاة الذين يطلبون الفيلسوف الحقيقي، وأنهم أصدقاء الحكمة أو المعقول. وتصل المنافسة إلى ذروتها بين الفيلسوف والسوفسطائي، الذين يتنازعون غنائم الحكيم الشيخ، لكن ما السبيل إلى التمييز بين الصديق الزائف والحقيقي، وبين المفهوم والسيمولاكر؟ المزيف والصديق، إنه المسرح الأفلاطوني الذي يعمل على سمو الشخصيات المفاهيمية مشحنا إياها بقوى الكوميديا والتراجيديا.
لقد التقت الفلسفة، في عصرنا هذا، بمنافسين جدد كثيرين. تمثلوا بداية في علوم الإنسان، وعلى الخصوص السوسيولوجيا، التي أرادت أن تحل محلها. لكن، حينما تخلت الفلسفة باضطراد عن ميولها نحو إبداع المفاهيم، لكي تحتمي في الكليات، لم يتم معرفة قط جيدا طبيعة المسألة. هل يتعلق الأمر بالتخلي كليا عن إبداع المفاهيم لصالح علم دقيق حول الإنسان، أو على العكس تغيير طبيعة المفاهيم بجعلها تارة تمثلات جماعية، وتارة أخرى تصورات عن العالم مبتكرة من طرف الشعوب، وقواها الحية التاريخية والروحية؟ ثم جاء دور الإبستمولوجيا واللسانيات، أو حتى التحليل النفسي، والتحليل المنطقي. هكذا، واجهت الفلسفة، من تجربة إلى أخرى، منافسين وقحين باستمرار، حتى أن أفلاطون نفسه لن يستطع تخيلهم في لحظاته الجد كوميدية. وأخيرا، وصل العار إلى قمته حين استحوذت المعلوميات والإشهار والتسويق التجاري وفن التصميم على كلمة مفهوم نفسه، واعتبرته من مهمتها، وأنها هي التي تبدعه، وأنها تنتجه. إننا أصدقاء المفهوم، ونجعله داخل حواسيبنا. المعلومة والعمل الإبداعي، المفهوم والمقاولة، ببليوغرافيا غنية مسبقا… كما عملت الحركة العامة التي عوضت النقد بالتسويق التجاري على التأثير في الفلسفة. السيمولاكر، لقد أصبح تمثل علبة الماكارونا مفهوما حقيقيا، وأن عارض المنتوج والسلعة أو الإنتاج الفني فيلسوفا، وشخصية مفاهيمية أو فنانا. لكن كيف تتساوى الفلسفة، الشخص الشيخ، مع الأطر الشابة في سباق نحو كليات التواصل قصد تحديد شكل تجاري للمفهوم (مجلة ميرز). كلما اصطدمت الفلسفة بمنافسين وقحين وأغبياء، فإنها تلفيهم في مجالها الخاص، وأنها تشعر بشحنة لأداء مهمتها، إبداع المفاهيم، والتي هي أجرام سماوية (6) أكثر مما هي بضائع. هناك ضحكات حمقى تبعث على البكاء. هكذا إذا، تعد مسألة الفلسفة النقطة الفريدة حيث العلاقة المتبادلة بين المفهوم والإبداع.
لم يهتم الفلاسفة كفاية بطبيعة المفهوم كواقعة فلسفية. لقد فضلوا اعتباره معرفة أو تمثلا معطيين، واللذان يفسران بالملكات القادرة على تكوينه (التجريد أو التعميم) أو استخدامه (الحكم). لكن المفهوم لا يعطى، وإنما يتم إبداعه، وبإبداعه لا يتم تكوينه، إنه يوجد نفسه في ذاته، وجودا ذاتيا. والأمران متطابقان، مادام أن ما يتم إبداعه بالفعل، من الحياة إلى الإبداع الفني، يتمتع بذلك بوجود ذاتي للذات، أو بخاصية النسق الذاتي/ البنية (6) التي بواسطتها نتعرف عليه. بقدر ما يتم إبداع المفهوم، بقدر ما يوجد نفسه. إن ما يرتبط بنشاط بداعي حر، فإنه يوجد في ذاته، وأن الجد ذاتي يغدو جد موضوعيا بطريقة مستقلة وضرورية. لقد اهتم الكانطيون الجدد كثيرا بهذا المعنى للمفهوم كواقعة فلسفية، وعلى الأخص شيلنغ وهيجل. وحدد هيجل بشكل قوي المفهوم بأشكال إبداعه ولحظات وجوده الذاتي، تمثل الأشكال الجانب الذي من خلاله يتم إبداعه بواسطة الوعي وفيه، عبر تعاقب الأرواح، في حين تقيم اللحظات الجانب الآخر الذي من خلاله يجد المفهوم ذاته ويوحد الأرواح في الذات المطلقة. يبين هيجل إذا بأن المفهوم لا علاقة له بفكرة عامة أو مجردة التي لا ترتبط بالفلسفة نفسها. لكن كان ثمن ذلك توسيعا لا محدودا للفلسفة الذي لم يترك قط استمرارية الحركة المستقلة للعلوم وللفنون، لأنها تعيد بناء الكليات بلحظاتها الخاصة ، وأنها لا تتناول شخصيات إبداعها الخاص إلا كأشباح شكلية. يدور الكانطيون الجدد حول الموسوعة العالمية للمفهوم، التي تحيل إبداع هذا الأخير إلى ذاتية خالصة، عوض أن تحدد لنفسها مهمة جد متواضعة، أي بيداغوجيا المفهوم، التي ينبغي أن تحلل شروط الإبداع كعوامل للحظات تظل فريدة. فإذا كانت الحقب الثلاث للمفهوم تتمثل في الموسوعة والبيداغوجيا والتكوين المهني التجاري، فإن الحقبة الثانية وحدها باستطاعتها أن تمنعنا من السقوط من قمم الأولى إلى الكارثة المطلقة للثالثة، كارثة مطلقة بالنسبة للفكر، وذلك مهما كانت بالطبع الفوائد الاجتماعية من وجهة نظر الرأسمالية الكونية.
الهوامش:
(*) Gilles Deleuze et Félix Guattari, « Qu’est ce que la philosophie ? » Paris, Les éditions de Minuit, 1991. Introduction. 
1/ Turner, Monet, Matisse.
2/ l’amphisbetesis.
3/ Pensé.
4/ des « sensibilia ».
5/ l’Agôn.
6/ des aérolithes.
7/ autopoïétique.
* كاتب من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *