صقر أبو فخر
قبل 33 سنة، وبالتحديد في 8/12/1981، سمع الناس في بيروت أن شهيدًا فلسطينيًا جديدًا قد طالته الأيدي الآثمة، وخرقت جسده رصاصات الغدر اللئيمة. 33 سنة تساوي عمر المسيح، أو حبات السُبّحة، أما الغاية فكانت فرط ذلك العقد الفلسطيني البديع، الممتد في الزمن منذ المسيح حتى اليوم. وعبد الوهاب الكيالي ليس مجرد سياسي عربي فحسب، أو مفكر قومي وكفى، أو شهيد سقط مثل كثيرين ممن سقطوا قبله أو بعده، على دروب هذه الأهوال العربية التي لا تنتهي، إنما هو هذا كلُّه معًا: سياسي بالمعنى الراقي لهذه الكلمة، ومناضلٌ أوقف عمره وعقله على قضية فلسطين، ومفكرٌ ترك لنا ذخيرة معرفية لا تنضب، وشهيدٌ غادرنا قبل ثلث قرن بالتمام.
كان عبد الوهاب الكيالي واحدًا من جيل نادرٍ ناضل في سبيل فلسطين، من موقعٍ قومي عربي تقدمي، ولم يكن ليقيم أي تخوم بين فلسطين والعروبة. وكان، إلى ذلك، أحد المكافحين بالفكر في سبيل النهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية، وقدّم، في شوط عمره القصير، إنجازات فكرية وسياسية باهرة، ما برحت ماثلةً أمام أعيننا حتى اليوم، وكان في حياته مثالًا رفيعًا للنزاهة الفكرية، وساهم في تحفيز الفكر العربي على النقد، وعلى الخروج من ركوده ورقاده، وظل دائمًا منفتحًا على الأفكار المعاصرة كلها، ولا سيما الماركسية والوجودية، علاوة على الاتجاهات الإنسانية في الفكر والأدب.
تعرّفت إلى عبد الوهاب الكيالي في سنة 1979؛ عرّفني إليه أستاذنا الكبير أنيس صايغ، حين كان يصدر معه مجلة “قضايا عربية”. كنا نسمع باسم عبد الوهاب الكيالي، ونقرأ له، ونُقبِلُ على منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر التي أَقام بنيانَها بنفسه. وكم عجبتُ، في تلك الحقبة، كيف أن اثنين من البعثيين أسسا أهم دارين للنشر في بيروت، وراحا يصدران قطوفًا من الفكر، وبالتحديد الفكر الماركسي؛ أقصد عبد الوهاب الكيالي، وبشير الداعوق مؤسس دار الطليعة، وابن العائلة البيروتية شبه الارستقراطية، والذي تزوج الأديبة السورية الكبيرة، غادة السمان. وكنا، في ذلك الزمان، طلابًا لا مال لدينا، وشغوفين بالمعرفة في الوقت نفسه، فَرُحْنا “نسطو” على منشورات الداريْن، كلما تسنى لنا ذلك، وبالتواطؤ مع أصدقائنا في كل دار. وفي إحدى المرات قال لي الداعوق وقد رآني محملًا بالكتب: إن الطريقة الملائمة، بدلًا من السطو على الكتب، هي أن تأخذ الكتاب من الدار مجانًا، وتكتب عنه في إحدى الصحف، وتهاجم الكاتب، وتقبض ثمن مقالتك من الصحيفة التي نشرت المقالة.
في ذاكرتي، أُقرِنُ دائمًا بين بشير الداعوق وعبد الوهاب الكيالي على اختلاف المصيريْن. ومع أنني عرفت عبد الوهاب الكيالي قليلًا، واقتربت لاحقًا من بشير الداعوق، فقد اكتشفت في الاثنين خصالًا رفيعة وعقلًا نيّرًا وسلوكًا راقيًا. وللأسف، فقد أمضى عبد الوهاب الكيالي في هذه الحياة اثنين وأربعين عامًا فقط، لكنها، بحساب النتائج، أنجز في الفكر والسياسة والكفاح الفلسطيني ما لا تنجزه عدة مؤسسات مجتمعة، فأنشأ المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 1969، ثم مجلة “قضايا عربية” في 1974، ومجلة “فلسطين الحرة” بالإنكليزية في 1974، و”مركز العالم الثالث للدراسات” في لندن سنة 1976 وغير ذلك من المؤسسات والموسوعات، وهي كثيرة. ولعلّ أعظم إنجاز له تجسد في النضال والفكر والأخلاق الرفيعة.
كان عبد الوهاب الكيالي لا يكف عن الترداد أن فلسطين هي الاسم الحركي للأمة العربية، أي أنها هي الخندق الأول للعرب في مواجهة الاستعمار وإسرائيل. وأمام هذا الخندق، وفي بيروت بالتحديد، سقط عبد الوهاب الكيالي في مثل هذه الأيام، قبل ثلاث وثلاثين سنة، وطوى تراب الأردن جثمان شخصية لامعة من أعلام فلسطين الكبار، فالسلام لاسمه في ذكراه.
–
* العربي الجديد