مهرجانات تشارلز ديكنز: ما الذي يجعل الكاتب محبوباً؟




*لوسيندا هوكسلي

تقام مهرجانات سنوية احتفالاً بالكاتب البريطاني العظيم تشارلز ديكنز، من تكساس، ومرورا بمومباي، إلى هولندا. فما الذي يجعله محبوباً إلى هذا الحد بعد كل هذه السنين التي مرت على وفاته؟ الكاتبة الصحفية لوسيندا هوكسلي تحقق في الأمر.

في شتاء عام 1867 وصل تشارلز ديكنز إلى ميناء بوستن بعد رحلة بحرية طويلة من انجلترا. وكانت قد مرّت 25 سنة على زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما سافر حينها مع زوجته كاثرين، التي انفصل عنها لاحقا، ليحتفل هناك بذكرى ميلاده الثلاثين في ماساتشوستس، وقد أدرك عندها أنه أصبح فعلاً من مشاهير العالم.
انقضى ربع قرن منذ الزيارة الأولى، إلا أنها لم تكن الحرب الأهلية فقط هي التي جعلت الأمريكيين يصفحون عنه، بل لأنه استغرق كل ذلك الوقت الطويل لكي يعطيهم الفرصة ليعفوا عنه. فقد انتقد ديكنز الولايات المتحدة عبر روايته “حياة ومغامرات مارتن تشزلويت” ومن خلال تصويره لرحلة “ملاحظات أمريكية”، وهو ما أثار سخط الأمريكيين حينها.
بالنسبة لرجل في منتصف القرن التاسع عشر، كان ديكنز قد سافر كثيراً إلى كل أرجاء أمريكا وكندا تقريبا، وبشكل يثير الاستغراب، مع أنه لم يسافر جنوباً أبعد من ريتشموند بولاية فرجينيا. ومع ذلك، فلم يمنع ذلك مدينة غالفستن بتكساس من الاحتفاء بالمؤلف وأعماله الأدبية في مهرجان سنوي مهيب.
بدأ مهرجان “ديكنز على الساحل” في مدينة غالفستن بتكساس عام 1973، حيث تقلصت حظوظ تلك الجزيرة اقتصادياً، وباتت الكثير من مبانيها التي تعود للقرن التاسع عشر في الشارع الساحلي (وهو شارع في مركز المدينة) تواجه الدمار.
كان المهرجان الأول لجمع التبرعات بهدف الحفاظ على الأبنية المعمارية المهددة – ويضم الشارع اليوم محلات تجارية أنيقة كانت أغلبها في وقت ما مستودعات. كانت الجزيرة أيام مجدها، زمن حياة ديكنز، واحدة من أكثر المناطق ثراء في ولاية تكساس.
ووفقا لأحدث مبيعات التذاكر السنوية، فإن قرابة أربعين ألف شخص يتجمهرون في الشوارع هناك للمشاركة في مهرجان “ديكنز على الساحل”. ولكي أضعكم في الصورة، فإن عدد سكان مدينة غالفستن هو 50 ألفاً. وقد أصبح هذا الحدث السنوي جماهيرياً إلى درجة أن غرف الفنادق تُحجز مقدماً قبل بضعة أشهر. حتى أن الكثير ممن يحضرون المهرجان يحجزون غرف الفنادق لسنة مقدماً عندما يغادرون المدينة في نهاية المهرجان.
أصدقاء مشتركون
من بين جميع مشاهير المؤلفين من العصر الفيكتوري، يحتفظ تشارلز ديكنز بمكانته في قلوب الناس أينما كان في العالم، ويعشقه الأمريكيون وكأنه واحدٌ منهم. ربما يعود السبب إلى أن ديكنز قد كتب من أعماق فؤاده عن المشاعر والأحاسيس، وعن مواقف وحالات لا زالت تنطبق على يومنا هذا. ومع أن اللغة الانجليزية قد تغيّرت منذ أيام ديكنز، إلا أن صلب السرد القصصي لا يزال وثيق الصلة كما كان في القرن التاسع عشر.
لم تكن كتب ديكنز روايات فقط، بل كانت تسجيلاً لأحداث اجتماعية الغرض منها تغيير العالم. وقد فعلت ذلك حقاً. ساهمت رواية “أوليفر تويست” في إجراء تغييرات على (قانون المصانع) وغيرها من القوانين التي حمت الأطفال في وضع الفقر.
وكانت رواية “حياة ومغامرات نيكولاس نيكلباي” السبب في إغلاق مدارس يوركشير القاسية، حيث كان يُرسل إليها الأطفال غير المرغوب فيهم ويُساء معاملتهم. وتبقى رواية “ترنيمة عيد الميلاد” مشهورة حول العالم لما تنشره من معاني الفداء والمحبة.
كُتبت “ترنيمة عيد الميلاد” بعد أن شهد ديكنز الفقر المدقع في شوارع مانشستر في شمال انجلترا. كان الهدف منها جعل كل قارئ يتوقف ويفكر ملياً بما يمكن عمله لتغيير مجتمعه. كتب ديكنز إلى صديق له ليذكر أن أن الرواية ستفعل فعل “ضربة مطرقة ثقيلة نيابة عن طفل رجل فقير”. ولم تنفد “ترنيمة عيد الميلاد” من المطابع منذ نشرها في عام 1843 وتستمر العروض المسرحية التي تتناولها حول العالم.
ومن بين الكثير من الأعمال التي أنتجت هذه السنة وتتناول هذه الرواية، عرض مسرحي في مومباي بالهند، وقراءة في الهواء الطلق من قبل ممثلين أمريكيين في حديقة هايدبارك بلندن، ونسخة هيب هوب في شيكاغو.
لم تكن مدينة غالفستن المكان الوحيد غير المرجح لتضع تشارلز ديكنز في مركز اهتمامها. ففي قاعة “كاو بالاس” بسان فرانسيسكو، يستمر مهرجان ديكنز لأربعة أسابيع متتالية (في أيام عطلات نهاية الأسبوع فقط) بين عيد الشكر وعيد الميلاد. وتقيم مدينة تاكوما بولاية واشنطن في غرب أمريكا احتفالات سنوية في شهر ديسمبر/كانون الأول، مثلما تقوم بذلك مدينة هولي في ولاية ميتشغان، وكذلك مدينة سبارتانبيرغ بولاية كارولينا الجنوبية.
وليست فقط الولايات المتحدة الأمريكية التي تكنّ كل هذا الحب لديكنز، فقد ألهم هذا المؤلف الانجليزي العديد من المهرجانات حول العالم، ويُحتفل بأعماله كل عام بمهرجانات فخمة في برودستير، وروتشستر في وطنه الأم بمقاطعة كينت الانجليزية.
ويقام أحد أكبر مهرجانات ديكنز في العالم في إحدى الأماكن غير المتوقعة، وهي مدينة ديفينتر في هولندا. في عطلة نهاية الأسبوع قبل أعياد الميلاد من كل عام. ويتوقع أن يجتذب “مهرجان ديكنز في ديفنتر” قرابة 150 ألف شخص من جميع أنحاء هولندا وبلجيكا وألمانيا.
وتختلط أكثر من 950 شخصية من شخصيات قصص ديكنز مع المتسوقين في سوق عيد الميلاد، ومع مغنّي الترانيم، وبائعي الهدايا التذكارية، وروّاد المهرجان بملابسهم التنكرية.
كان والد إيمي سترايك، التي بدأت هذا المهرجان، قد اصطحبها معه إلى انجلترا لأول مرة عندما كانت في 13 من عمرها وشاركته الولع بروايات ديكنز. وعندما كبرت، بدأت في تنفيذ فكرة المهرجان.
وتقول سترايك: “كانت الأعمال المترجمة موجودة على رف الكتب، وبدأت بقصة “ديفيد كوبرفيلد”. هذا هو السبب الذي جعلني اختار إقامة عيد ميلاد خاص بديكنز. كان الديكور جاهزاً مسبقاً: كنت أعيش في أحد شوارع ديفنتر ذي البيوت القديمة. لم يكن من الصعب إعادة بناء الزمن الذي عاش فيه تشارلز ديكنز.”
مهرجانات ديكنز
التقيت في عام 2010 وفداً يمثل كوريا الجنوبية. كان الوفد يأمل في إعداد مهرجان ديكنز في سيول (وللأسف لم يحدث هذا حتى اليوم). بعد الذكرى المئوية الثانية لولادة ديكنز في عام 2012، اعتقدت أن الناس سيتعبون حتى من سماع اسمه، إلا أن هذه الذكرى تبدو وكأنها قد زادت من قوة شهرته وشعبيته.
وفي هذه السنة، 2014، تم تأسيس فرع جديد من “زمالة ديكنز” في كارّيرا بايطاليا من قبل إثنين من معلمي المدارس المتحمسين لنقل شغفهم بالمؤلف إلى طلابهما. قيل لي مراراً وتكراراً– في بلدان مثل كوبا والهند والنرويج – بأن ديكنز محبوب لأنه يجسّد القيم التي يحب الناس أن يروا مجتمعهم وهو يحتضنها.
إن واحدة من أكثر الجوانب روعة لديكنز هي كيفية مناشدته لرجال الدين بكافة اتجاهاتهم. أخبرني متحمسون مسيحيون ومسلمون وهندوس بأنهم يجلّون ديكنز باعتباره رجلاً ذو إيمان عظيم. وقد كان كذلك. إلا أن ديكنز، الذي أصبح من الموحدين كنتيجة مباشرة لأول زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية، كان لاذعاً تجاه التدين المنظّم. كما انتقد بشدة، وعلى قدم المساواة، أولئك الذين كانوا يعتقدون بأن جلّ ما كان عليهم القيام به هو العبادة في كنيسة أو معبد أو جامع، بدلاً من تقديم مساعدة عملية للمحتاجين.
عندما وافته المنيّة، سمع أحد أصدقائه صوت طفل عامل في “كوفنت غاردن” بلندن وهو يسأل: “إذا كان ديكنز قد مات، فهل يعني هذا أن سانتا كلوز (بابا نويل) سيموت أيضاً؟” يبدو أن وجهة النظر هذه سترافق مهرجانات احتفالية عديدة بديكنز حول العالم. فهذه المهرجانات تحتفي برجل لا يزال – بعد سنين طوال تبعت وفاته في عمر 58 عاماً – يؤثر على الطريقة التي يُحتفل فيها بذكرى ميلاد السيد المسيح.
________
*bbc

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *