سعيد الجريري*
تشتغل قصيدة «مأدُبة» للشاعرة اللبنانية جمانة حداد على معادلة مغايرة، تكسر مألوف العلاقة المفترضة بين الرجل والمرأة، في الواقع والإبداع، وهي جزء من استراتيجيتها الإبداعية لإعادة تأثيث الوعي والذائقة جمالياً، بنصوص شعرية وأخرى نثرية، تشتغل عليها، برؤية فكرية عميقة، وحساسية شعرية عالية، تبدو، في كثير من الأحيان، صادمة ومستفزةً لقيَمٍ مهيمنة واقعياً وإبداعياً، لكنها لدى الشاعرة، جزء من انسجامها الداخلي مع الذات، وتمثل صيرورة حياتية وجمالية، لها تمثلاتها وتمظهراتها المتعددة، في ما أنجزته من مؤلفات بلغات متعددة.
النص:
عندما أجلسُ أمامكَ أيها الغريبْ
أعرفُ كم تحتاجُ إلى الزمن
كي تردم المسافة إليّ
أنتَ في أوج الذكاء
وأنا في أوج المأدبة
أنت تفكّر كيف ستبدأ حديث المغازلة
وأنا تحت ستار وقاري
أكون
قد
فرغتُ
من التهامكَ
«مأدبة» نص مكثّف جداً، يتوازى فيه رجل وامرأة، مشتهيان، تتنامى بينهما علاقة على إيقاع التوازي، وثنائية التماثل الاختلاف، متجلّيةً في جمل قصار وضمائر متقابلة، مفضيةً إلى نهايةٍ جمالية مغايرة، وصادمة، لكن مبهجة، بما تحدثه من أثر لحظة انكشاف تغيير المواقع التاريخية لكل من العاشقَين.
«مأدبة» تحلق بجناحين: الأول منسوجٌ ريشُ شعريته من حرير اللغة، بفاعلية الدعوة إلى طعام أو وليمةٍ، هي بالعادة شهية، أو تثير الرغبة والاشتهاء، وتؤدي إلى امتلاءين: حسيّ بلذة التذوق، وآخر روحي بمتعة الإحساس بالدفء الإنساني في علاقة ما بين مُولِم ومُولَم له. أما الجناح الآخر، فكل رفّة منه موصولة بمدى فلسفي ممتد في فضاء مفتوح دلالياً على حوار يمجد، قيمة الحب، ويعليها فضيلةً إنسانيةً سامية، على مسافة محايثة من إضاءة خافتة تنبعث من مأدبة موغلة في فلسفة الحب، حيث طيف أفلاطون يتلامح بعيداً على حافة النص، حيث «مأدبة»مشتهاة، بانتظار اثنين ثالثهما الاشتهاء، فكل منهما مأدبةٌ للآخر، وحيث رغبتان، مؤجّلة ومعجّلة، يعبّر عنهما النص، بانسيابية عالية، في لحظة أشبه برفّة جفنٍ، هي الزمن الممتد شعورياً بين رغبةٍ والتهام.
«مأدبة» تحيل من طرفٍ ما، على حوار معاصر، يعيد كتابة تاريخ العشق ومساراته من أحاديةٍ مملةٍ، إلى ثنائية طريفة، ويقترح تبادلاً للأدوار، بديمقراطيةٍ مستوحاة من قوانين تأنيث القصيدة، في سياق تحولات الشعر العربي من مهيمنات الفحولة والتفحيل إلى الأنوثة والتأنيث.
«مأدبة» عنوان مفرد منكّر مؤنث، وعلى إفراده وتنكيره وتأنيثه سوف يتشكل النص، بقانون التوازي بوصفة مهيمنة أسلوبية، فكل من الرجل والمرأة، مفرد عن الآخر، وكل منهما غريب عن الآخر، وفي المسار النصي تبهت ذكورية الرجل، وتهيمن أنوثة المرأة، بفاعلية نصية غير مقحمة أو مفتعلة. فالباث في النص هو الأنثى، لكنها عادلةٌ حتى في توزيع الضمائر في النص نوعاً وعدداً، وإن كانت الدلالة بعدئذٍ تعلي طرفاً على آخر فتلك إرادة نصية:
المرأة (الزمن/المسافة) الرجل «الغريب»
مجموع الضمائر: 16، 8 منها للأنثى، و8 منها للرجل، ولكل منهما 4 منها ضمائر مستترة، وضميران متصلان، وآخران منفصلان، بالتساوي والتماثل، فثمة مساواة في الضمير مدهشة، كأن النص يقول عن العشق شرطه الأول المساواة، والعدل، في فضاء حر.
يبدأ النص بلسان الأنثى واصفاً لحظة الجلوس أمام الرجل، الموسوم بـ(الغريب)، لكن الأنثى تعرف ما يحتاجه الغريب من الزمن ليعبر المسافة إليها، فهي تناديه بـ(أيّها) دلالة على بعد المسافة النفسية والعاطفية التي يلزمه أن (أو يهجس بأن) يردمها في زمنٍ ما، تدرك بحدسها الأنثوي أنه يطول، ولذلك تباغته بأن تضعه على ضفة المسافة بينهما ليتوازيا:
أنت في أوج الذكاء وأنا في أوج المأدبة
فثمة علاقة انفصال بينهما (أنت أنا)، وكلاهما في (أوجٍ) مختلفٍ عن الآخر، لكنّ الأول مجردٌ مُضمَر، بينما الآخر محسوس مُظهَر، وامتداداً لصفة كل منهما، ستدنو المأدبة من أحدهما قبل الآخر.
أنت (تفكر كيف ستبدأ) حديث المغازلة
فهو رغم (ذكائه العالي) ينسل الزمن من بين يديه وهو (يفكر) في طريقة ما (يبدأ) بها (حديث) المغازلة، فيما الأنثى وهي (في أوج المأدبة) تفاجئه وتكسر أفق انتظاره، وزمن عشقه الكسول في آنٍ معاً، بفاعلية جديدة فاصلة تتجاوز (المقبّلات) إلى (المأدبة):
وأنا تحت ستار وقاري: أكون (قد فرغتُ) من التهامك
ثمة توازٍ بين أسلوبين مختلفين، يظل الأول يناور حول المأدبة، من دون أن يستطيع ردم المسافة العاطفية إليها، فيما الآخر لديه فاعلية الوصول في زمن قياسي، يعيد ترتيب مواضع الفاعل والمفعول به تاريخياً، ليفيق الطرف المقابل السادر في نمطية خاملة، على أنه مأدبة التهمتها مأدبة ظل يفكر في التهامها. هكذا تعيد جمانة حداد النظر جمالياً في المعادلة التاريخية للعلاقة المفترضة بين الرجل والمرأة، فتحدث الدهشة، بنص مكثف، تضيق عبارته، لتتسع رؤيته، على تماسّ مع النفّري.
______
*كاتب يمني هولندا/القدس العربي