واقعان مادي وافتراضي


يستمرّ الواقع العربي بطرح تحديات عبثية وسوريالية تفوق كل قدرة على مجاراته إبداعيا، لذا لا أعتقد أن هنالك أداة سرد استطاعت أن تلحق باللحظة المندفعة بسرعة السقوط الحر التي نعيشها، لذا يقف المبدعون الكلاسيكيون أو مؤدلجو سبعينات القرن الماضي وثمانيناته مذهولين أمام التفكك السريع الذي نحياه ونتواطأ أحيانا مع لذته.

لكن ممّا لا شك فيه أن الثقافة العربية ماضية في انعتاقها من طغيان الدولة، وقمع وزارات الثقافة، والشلل الحاكمة، وهي تتجه بذلك على المستوى الافتراضي نحو الحرية والفضاءات المفتوحة للتعبير، لكن الحرية بحاجة إلى نوع من التفرغ لها، بحاجة إلى مساحة من الصمت والسكينة وبعض الشجيرات وإلى جدول؛ جدول واحد فقط.
ما نعيشه اليوم هو أشبه بسلسلة أفلام “ماتريكس”؛ واقع مادي وواقع افتراضي يتداخلان، وتتلاشى الحدود بينهما لينتجا شيئا ثالثا لا يشبه شيئا قبله، إننا نعيش داخل غرف يملؤها الحزن وفي متاجر كبيرة يسكنها الفقدان؛ فقدان كل شيء.
انفجارات، جثث، أشلاء، نساء تلطم، أطفال يضحكون فوق ركام ماضيهم القصير، رجال معفّرون بلحى، يحدقون بالعدسة وكأنهم تعاركوا مع شوال دقيق لتوّهم فسال دمهم هكذا، لوحده، هناك فحول ببدل يتعاركون داخل استوديوهات مكيفة، في بث مباشر وسط ابتسامة رضى من مقدم/مقدمة يشكر ربه على النجاح، مسابقات مواهب مستقبلية لا تنتهي لمستقبل يبدو أعتم من الظلمة.
بتنا نعيش وسط الفارق بين الخيال والواقع عبر شاشات وكاميرات تحيط بنا في كل مكان، تتحايل على الحدود الإسمنتية المنصوبة على طول الوطن وعرضه، شاشة في غرفة الجلوس وفي غرفة النوم وشاشات لهواتف أذكى منا، “فيسبوك” و”واتس أب” و”فايبر” و”تويتر” و”سكايب”، كل هذا لم يغير شيئا في شيء.
فعندما تتحدث مع كاتب تحت القصف في دمشق عبر “التشات” وأنت تتسكع في مول بيافا تبحث عن حذاء مع علمك جيدا أنك من المستحيل أن تراه. فلا تجد أمامك سوى “طرطشة” نصّ متشظ ما بعد بعد حداثي وماتريكسي تزول الحدود فيه بين المرئي المتخيل -الرقمي- وبين الفعلي الحاضر ماديا الآن.
استطاعت الثقافة العربية في عام 2014 على مستوى الوعي -على الأقل- تحطيم كل نصّ مؤسساتي يلفظ أنفاسه ما قبل الأخيرة عبر نصّ تفكيكي مقابل، كما بتنا نلاحظ انتشار النصوص القصيرة التي لا أريد أن أسمّيها شعرا منعا للالتباس، والتي تحاول توثيق اللحظة “الماتريكسية” الكابوسية/الانعتاقية التي نعيشها، إضافة إلى الأفلام القصيرة ومحاولات التشكيل البصري المثير عبر فنون الفيديو الصاعدة بقوة، والتي يمكنها استيعاب كافة أشكال التعبير وتؤرّخ لجيل شاب مازال موجودا على أرصفة المدن العربية على الرغم من الربيع الدامي.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *