*رحمن خضير عباس
( ثقافات )
تبدأ من البرج – وربما تنتهي اليه – ، وكأنها تائهةٌ تحت رحمة ألصدفة ألحائرة . هل كانت متعطشة لصهيل مدينة أدمنت على الضجيج ، وهي ألتي تعشق الصمت وتلوذ به ؟ كانت مغرمة بأشعار محمود درويش ورؤى نجيب محفوظ وحزن كنفاني . كتبت ذات يوم في صفحتها قائلة :
” هل بوسعي أنْ أفلت مني وأطلّ عليك ”
إنبهر أمام شفافية اللغة وعمق الفكرة ، وحينما حاورها ذات مساء . قالت وهي تحلق في ضوء القمر مستشهدة بقول لجلال الدين الرومي ” ايها المسافر لاتضع قلبك في أي منزل مهموما عند الرحيل عنه ” ضحك وهي يعيد عليها شطرا لأبي الطيب ” لك يامنازل في القلوب منازل ” .
إنه ألبرج يبدو عالياً وكأنه يحرس مراكش الحمراء ، يختزن حكاياتها الأولى حيث جامع الفنا . ساحة بمثابة كيان فضائي لاتعرف أوله أو آخره . هكذا كان يفكر وهو يمرقُ مذهولاً بين حلقات ألراقصين ألذكور ألذين يقلدون ألراقصات بشكل داعر يثير الشفقة مصحوبة باحتقار . لماذا الأحتقار ؟ هكذا فكر وهو يبدي تفهمه لهؤلاء ألذين يتقمصون زي النساء ألراقصات ، إنه إستقطاب المتفرجين ، وإستدرار إعجابهم وجبي ما يمكن من النقود بأيّة وسيلة ..حلقات مُروّضي ألثعابين ألذين تعودوا على إكتشاف مدمني الفرجة المجانية ،لذالك فعيونهم زائغة للبحث عن فضول السياحة التي تلقم افاعيهم طعاماً من نقود تتدحرج ولكنها لاتكفي . حلقة ألحكايات ألتي تبدأ بالبسملة ولاتنتهي اليها ، وحكايات الجن والعفاريت ورحلات الخيال الشعبي الموشى بالأمثال والحكم ألسائرة التي تعانق الأحاسيس الرخيصة ، وألتي تتموج في ساحة لاحدود لأفعالها . باعة عصير البرتقال يغرقون في لجة الضوء وباعة اللحم المشوي والأسماك والطنجية ألغارقة في إرتباكات أوانيها . مرّ من خلال النساء اللواتي يخضّبْنَ بالحنّاء أيدي الصبايا المتبرجات ، أيد تتخضب بأشكال تختزن فناً فطرياً لاغبار على صفائه .
صاحت به إمرأة شوّافة وهي تمسّد أوراق الكارت القديمة . جلس مسترخياً . وظلت تلوك حكايات تكررها لكل الزبائن لمستقبل الباهر ، وعن السفر القادم وعن إمراة تحبه ومشغوفة بلقائه ، وعن وجع الكراهية لدى شخص قريب منه ..إلخ. هل كانت تترجم بعض أوهامه أم أنها بصد تفسير احلام لم يحكيها . تذكر قول فرويد ” غالبا ماتكون الأحلام في غاية العمق عندما تكون في غاية الجنون ” . قاطعها بشكل لايخلو من السخرية : الذي تفضلت به قد ينطبق على الكثيرين من الزبائن إلا أنا ، ثم أردف : هل تعرفين اين الشظايا الأنثوية ؟. وحينما قفزت دهشتها من وراء نقابها الأسود والذي يبدو منه عينان ذابلتان ، ملوثتان بشيء من الكحل الرديء ، مستفسرة عن مقاصده بهذا السؤال ؟ . قال لها : امزح معك ودس في يدها المتخشبة قطعة ورق نقدية ، ثم ذاب في زحام الساحة وكأنه يستنشق أسرارها ، تلك الساحة التي سال الزمن من لعابها ، إبتداءاً من جيوش يوسف بن تاشفين وانتهاءأ براقصي الكناوة المتعبين وهم يرقصون بقلنسواتهم الملونة. أضواء الكاشفات الضوئية تتجه الى مبنى الكتبية البهي ، بينما تبدو أحصنة الكوشي تأخذ مسارها السياحي ، تبحث عن زبائن اليورو المدغدغ لأحلام الربح السريع .
قالت له : الهمزة تعني أنك ستربح من خلال شراء شيء أقل كثيراً من سعره، اي أنك تجد شيئاً جاهزاً للربح . ضحك في نفسه على هذا التعريف ، حيث وجد نفسه (الهمزة) الملائمة في الأسواق والحوانيت والمقاهي . همزة في ساحة الفنا وأزقتها واسواقها ، فبمجرد تساؤله بلهجة طارئة غير صافية سيجعلون الثمن مضاعفا . ضريبة يدفعها لعجمة اللسان في مدينة تبحث عن الإثارة والنقود ، ولكنها تفتح فضاءا من الإثارة والمتعة وتزجية الوقت . بحيث تنسيه مغبة التلاعب بالأسعار . إلتفت الى الخلف لتدارك إرتباكه في هذا الفضاء الملوث بالضجيج . كان يبحث عن لحظة ناعمة تعيد اليه سرور الرغبات الطارئة والمتطايرة في جسد هذا الفناء الهائل . حاول أنْ يهرب من الساحة التي امسكت بتلابيبه الى حد الإختناق .
تاكسي ..صاح بصوت واهن ، ثم إرتمى في المقعد الأمامي
– مقهى البرج ..
أبدى السائق تبرمه في بداية الأمر ، لعدم تأكده من موقع المقهى لكنه إنغمر في الحديث المشترك . تحدثا عن المطر والجفاف وإزدحام الطرق بالعجلات ، أردف السائق قصصاً عن أبواب الرزق وميّزات القناعة .. كان السائق يتحدث وهو ينهب الأرض غير عابيء بزحام الطرق وكثرة السابلة والمتسكعين.
حينما توقفت سيارة الأجرة الصغيرة قبالة المقهى ، أراد أنْ يكتشف جغرافية المكان ، الحوانيت المحيطة بالمقهى ، البيوت ، أكشاك بيع الصحف ، حتى الحمام العمومي . عاد الى المقهى من جديد بعد جولته السريعة وهو يتصبب عرقا .
تذكر أنها قالت له : هي لاتعرف غير هذه المقهى في هذه المدينة التي أدمنت على الضجيج ، وانها تشعر كالتائهة في فضاء إجتماعي لم تألفه من قبلُ . صدّقها – لأنّ عينيها العميقتين لاتكذبان- . تحدثا عن الدراسات السوسيولوجية والشعر والقصة وعن إصرارها في محاولة إستيعاب مجتمع يتموّج بإحتمالات المد والجزر.
– يالها من ظهيرة مراكشية خانقة ؟ همس لنفسه وهو يتهالك في زاوية بعيدا عن الأنظار .
كانت المقهى خاوية ، سوى بعض الوجوه المشدودة الى التلفاز حيث التعليقات على مباريات الأمس . جفاف اللعاب يتردد في سقف الحَلْق ، والقميص الذي كواه يبتل بالعرق ، والحذاء الذي أصرّ على تلميعه لم يساهم في تخفيف حدة توتره . حينما سأله النادل عن رغبته :
– قهوة حْليب
توهم أنّ النادل يغرز فضوله في عمق حقيبته المكتظة بالأوراق الملوّثة بالحبر ، تلك الأوراق التي رافقته في حلّه وترحاله والتي يجد نفسه لاشيء بدونها . هي سلوته وعزاؤه . تأمل كوب القهوة التي تعوم في رغوة الحليب ،إلتقط مكعبات السكر وظل يبعثر حبيباتها على وجه المزيج ألذي يرتشفه ببطء ، وهو يؤوي الى حاسة الوهم التي عثر عليها فجأة
– هل ثمة وجود لمثل هذه الحاسة ؟
لم يكلف نفسه عناء الأجابة وهو يراها منزوية في إحدى زاويا المقهى ، قريبا من لوحة فنية معلقة على الحائط . كانت تحتسي خليط الأفاكاتو بالحليب ، وجهها مبلل بالضوء ، يتموج كحقل وديع ، بينما خصلات شعرها تبرز من بين غطاء راسها . تذكر أنه سألها ذات مساء خريفي : هل انت محجبة عن قناعة ، أم أنه لضرورات إجتماعية ؟ قالت : لا هذا ولا ذاك . ثم أردفت ضاحكة : ربما من مقتضيات الزي المعاصر . لكن هذا البريق إختفى في غيمة الوهم التي التصقت به ، وجعلته يقضم أصابع الندم ، في دهشة المشهد الذي ملأه بشي من الحزن وبعض الحيرة . لا ، ليست هي . كان يتمتم وهو يتأمل كوب قهوته من جديد. أخرج دفتر يومياته ، تأمل وريقاته ولكنه لم يجد أي أثرلفكرة المقهى . لم يتفقا على أيّ موعد ..إذن ماسبب مجيئه الى هنا وكيف عرف اسم المقهى! . كان يتساءل مع نفسه وهو يتصفح الصحف المرمية على الطاولة .
أصبحت رغوة الحليب تميل الى لون غامق ، والمقهى شبه فارغة إلا من شخص منهمك بحلّ الكلمات المتقاطعة
الرشفة الأولى تفوح برائحة البُن.
الرشفة الأخيرة تفوح برائحة الإنتظار.
وفجأة تملكته رغبة عنيفة أن يغادر مقهى البرج الى الأبد ، بعد ان تلاشت فقاعات النشوة ، وبعد ان خذله سوء الفهم ،وسوء التوقيت ، حتى إنجرف في رغبات بدائية ، أضاعت عليه لحظات الصمت التي كان يبحث عنها . ردد مقولة جلال الدين الرومي : ” الشيء الذي لايمكن التعبير عنه بكلمات ، لايمكن إدراكه إلا بالصمت ” هل كانت لعنة الوهم ؟ تلك التي ما إنفكت تطارده وتشعره برائحة الشظايا التي تناثرت من أمكنة مختلفة وأزمنة متعاقبة . شظايا أنثوية تناثرت على قارعة العمر وفسحة التشرد منذ فجر استيقاظ أحاسيسه الأولى ، حينما رأى ذات ليلة من ليالي عاشوراء صبية تلتصق بالجدار،بينما وجهها اسير لغرائبية المشهد ، وجه يسيل بالفرح الطفولي وينغمر في أضواء المواكب التي ترتمي على النهر فتمنحه بريقا ، تسمّر مابين بهاء الضوء والظلمة أمام عينين تسبحان في وجه يشع بالبسمة .نسي الطقوس والحزن والمواكب والناس وبقي مشدودا الى عينيها ، وحينما جرفه الزحام أضاعها الى الأبد ،،ومرت السنوات تصهل كالخيول . وفي مكان قصي ينزوي بعيدا بين منعرجات الأطلس وبين اسوار المدن الغافية تحت حفيف شجر الأركان وجدها من جديد . في مكان آخر وفي زمن آخر ! نفس ألق العينين وعمقهما ، ونفس البريق الذي يتموج على الثغر .وحالما صرخ ” وجدتها ” حتى غادرها غير مرغم هذه المرة ولكن رائحتها بقيت مخزونة بالذاكرة وشبح عينيها ظل يطارده في اصقاع الجليد . هل كان حلما ام حقيقة أنْ يعثر على ذات التشابه للمرة الثالثة ، في الإسم والهيئة وربما السن ، وحتى مرأى العيون المتساوية البريق والعمق والدهشة . وهاهي السنوات تصهل راكضة عبر اعوام جميلة واخرى عجاف ، ومازال مكبلاً في مخاض الحلم وهو يتحسس ملامح الكهولة ، وكأنه يكتشفها للمرة الأولى ، الغضون التي تسلقت جبهته والتجاعيد التي شوهت عنقه .
قالت له: سانتظرك في مقهى البرج . هل كانت تنتظره ام تنتظر كلماته المتلعثمة التي أسماها قصصا . ثم بلغ به التهور ان يهديها بعض الحكايات، فمن المؤكد أنّها تبحث عن القصص أوالكلمات . وقد لاتبحث عنه بعد أنْ اصبح بضاعة متعفنة بفعل تراكم ألسنوات وعذاباتها . كلماته البائسة كانت تبحث عن خلود وهمي ، أسوة بكلكامش ! هل كان حَريا به أنْ يحاكي لعبة الأضداد ، وهو يدفن سر الخلود الذي عجز عنه كلكامش؟ هذا التساؤل الذي سقط عليه كمطرقة حديدية وهو يتذكر الأغنية الرائعة :
يا كلكامش عد الى الوطن/ بلدك بحاجة اليك كما المطر
آه كلكامش ابق آمنا في أوروك )
حاول أنْ يجمع الكرات المتشظية ، يضعها في أشكال هندسية ثلاثية الأبعاد . ولكنه فكر بالكرات التي إنهمرت من حمرة الأسوار ، ألوان غير المرئية رافقته زمنا طويلا. هل هو التناسل الذي سماه جزافا بالتشظي ؟ هل كانت تلك التي طاردته في الحلم والتمني هي من انتظرته في مقهى البرج ؟ نفس الأسم والسمات ولكن ..أيمكن للكرات أنْ تتشظى ؟ أنْ تصنع وجها ؟ لم لا ! كان سلفادور دالي قد استخدم الكرات المتشابكة والمتداخلة لتكوّن كتلة ثلاثية الأبعاد ‘ رسم من خلالها وجه كالا زوجته وحبيبته التي اختطفها من زوجها السابق ايلوار . كان مسحورا بوجهها ، بدفيء مشاعرها ، بقوة إرادتها ولكنه حينما أراد أنْ يصنع لها بورتريتا جعله مشبعا بالكرات المتشابكة التي إتحدت من خلال منظور معين لتشكل وجهها ، بملامحه الدقيقة ، بفتنته وصرامته ودقة زوايا ، هذا الوجه الذي أحاط الفنان دالي ، وملأ حياته وكبح جنونه . الكرات المتكورة والتي تطايرت وكأنها تتخذ شكل إنفجار الذرات الأولى التي أهلكت هيروشيما وناكازاكي ، هل تصلح الذرات المتطايرة أن تصنع إمرأة ؟ هذه الأسئلة كانت تلحّ عليه وهو يرقب الطاولات الأنيقة للمقهى ، ومن خلال الزجاج ترائى له وجهه المتعب ككتلة متراصة غير متشظية ، بينما الوقت يتمطى كقطة كسولة . نادى على النادل كي يسعفه بكأس آخر من الماء ليرطب شفتيه ، كان الماء باردا .سلمه ثمن القهوة وهويلتقط حقيبته الجلدية مغادرا المقهى . كان الشارع ضيّقاً و الجدران العالية تمنحه بعض الظلال الخفيفة ، لم يكن متأكداً من التوقيت الذي أضاعه في خضم إنشغالاته . لم يوجه لومه لأحد فقد كانت فرصة لألتقاط أنفاسه والخلو الى نفسه ، ولم يكن لديه متسع من الوقت لتكرار التجربة ، ولكنه كان يتخيل الشظايا المتطايرة قد شكلت وجها ذا ملامح أنثوية يطفح بإبتسامة لم يستطع إدراك مغزاها .