بومات أبي


*كارمن فيورو

مذ كنت طفلةً

وأبي يجمع البوم.
بومٌ من المعدن، من الوبر، من الزُّجاج، من الطّين،
من القماش، من الكرتون، من أصداف البحر،
من الموزاييك الصغير، من الخَرز.
بعضُها فاخر وبعضُها متواضع،
فريدةٌ وفنِّيَّة،
مألوفة وعاديَّة،
صلبة وهشَّة جدّاً.
تُبرز ثقافةً، رحلةً
أو حلقةً حميميَّةً من حياتها.
تَسكُن رفوف مكتباتها.
تراقب صلاة الكتب.
بومة جميلة من عصور ما قبل التاريخ
تقفُ حيث يبدأ تاريخ المكسيك.
بومة يونانية تقليدية
تُلوِّح 
لأفلاطون ولحواراته مع الآخرين. 
بومةُ تجريديّة،
معروفة بعينيها الكبيرتين، 
تتأمَّلُ كتب ميرو وبيكاسو
وآخرين يُظهرون
كيف أَتقَن القرن العشرون
المتعة.
مذ كنت طفلة
أسمعهم يهمسون في الظل
حين ينام البيت،
يتناقشون الأفكار،
يروون الحكايات أو يرحّبون
بعضوٍ جديدٍ وصل توّاً
من بلد بعيد.
من المهم أن تسمعَ كيف يتحاجّون
البومة الأكاديمية التي شاهدتَها بقبّعة ورِداء
والبومة الهيبي ذات الجسد الموشوم
بخرز ملون،
أو هذه البومة النَّسوية التي تحمل زهوراً صفراء مفتوحة
وهي تقفُ على الطِّين الأسود
وتحتفظ بكتاب المرأة التي تعرف اللاتينية لروساريو كاستيانوس.
بين كنوزها
واستمعتُ لصمت هذه البومة الهندية
التي وبعيداً عن الجميع،
تتأمَّلُ الأوراق الخضراء
المتمايلة خلف النافذة.
ثمّة بومة بوهيمية
مصنوعة من فلّينة نبيذ بوردو
وبومة كريستاليَّة مخدوشة تدافع بأناقة
عن التنوع الجنسي وعن زواج المثليين.
بومات تتحدّث الألمانية أمام مجلّدات دي كانت وهاسيرل،
وأخرى تردُّ بلغة التوخولابال
تحمي بأجنحتها المصنوعة من قماشٍ وضيعٍ
كتاباً للينكيرسدورف.
المناقشات ازدادت سخونة
لكنها ظلَّت جامعة شاملة.
والآن وقد ناهز أبي التسعين
ما زالت البومات تزور بيته.
ليست هدايا ولا ذكريات رحلة،
ولا مكتسبات يصنعها، 
فهو لا يغادر البيت.
البوماتُ تصلُ وحدها
وإذ لا تقف على رفوف المكتبات،
فهي تقف على التلفاز والمكتب
أو على ظهر المقعد العالي.
أراها وإخوتي دوماً
حيثما نكون:
تقفُ على أوراق كتاباتنا،
تركُنُ بانتصار في رؤوسنا،
تحرُس أحلامَنا.
بوماتُ أبي
متيقّظةٌ للعالم ومصيره،
تهتمُّ بالآخر
وبعيونها المفتوحة تبحث عن العدالة.
يجلسهنَّ أبي ويعلَمُ أن لبوماته ذاكرةً سليمةً،
وأن رئاتهِنّ الفتيَّة تستنشق كل الهواء
الذي تحتاجه الروح لتكون جريئة
ولتكون أفكارُها واضحةً مصقولةً كحجارة النَّهر
أو كلؤلؤٍ أزرقَ من البحر المتوسط،
يعلَمُ أبي أن أجنحتها النُّحاسية أو المصنوعة من الزجاج البركاني
تسمح لها بالوصول لكل الأمكنة:
لا تحتاج هبوطَ السلالم كي تفتح الصندوق، 
ولا صعودَ باص مهترئ للذهاب لجامعة أونام
ولا باصاً جحيمياً للوصول لشياباس
ولا طائرةً مستحيلةً لبلوغ برشلونة مرة أخرى.
بوماتُه ترافقه في هذه المساءات الهادئة
يهزمن الوقت 
ونعمَته 
وحكمتَه الّلانهائية.
أسمع عويلَها في مطبخي
وأعلمُ أنَّ أبنائي وحتى أحفادي الذين لم يولدوا بعد
يوماً ما في شارعٍ لا أمشي به
أو في حميميّة بيت محتمل
ستستمع بألفة وذهول
برفرفاتها الحيوية.
* Carmen Villoro ولدت في العاصمة المكسيكيّة عام 1958 وتقيم في جوادالاخارا-خاليسكو منذ عام 1985. نشرَت قرابة عشرين ديواناً شعرياً، من بينها: “الزَّمن في إحدى المرَّات” 1990، و”السَّاكن” 1997، و”عصير برتقال” 2000 و”عمل أسود” 2006.
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *