«رحلة المائة قدم».. طبق ثقافي بطعم الكاري الهندي



*سمر حمود الشيشكلي


ما الذي جعل من فيلم «رحلة المائة قدم» 2014 الفيلم الأميركي الدرامي الكوميدي للمخرج لاس هالستروم وسيناريو ستيفن نايت، ينال درجة سبعة ونصف من أصل عشرة من استطلاع الرأي الجماهيري، وهي درجة ممتازة، ويحصل على تقدير إيجابي من استطلاع آراء النقاد؟ ما الذي يجعل منتجة الفيلم اوبرا وينفري تختار هذه الرواية في «نادي أوبرا للكتاب»، وتقول في مقابلة معها إن «الطعام يمزج ما بين الثقافات، ويسمح لنا أن نطلع على حياة الآخرين؟».
إنها المائة قدم التي تفصل بين الثقافات. إنه فهم الإنسان للآخر، من خلال وضع نفسه في مكانه وفي ظروفه ليراهم مثله كبشر، وأن يرى من التشابهات بينهم أكثر مما يرى من الاختلافات. إنه قراءة راقية لمفهوم التكيف، والتمازج لخلق التجديد.
هكذا يبدأ ظهور حسان حاجي كادام، الذي يروي رحلة حياته. حياة مفعمة بالألوان والنكهات وروائح الطهي، وكان الفيلم بعدها المتعة النضرة التي تدور حكايتها حول الأسرة والوطنية وأسرار الذوق السليم.
ولد حسان فوق مطعم جده المتواضع في مومباي، ومنذ طفولته الباكرة وهب ملكة المعرفة الفطرية لعالم تضبط إيقاعه نبضات روحية لا يملكها إلا المتميزون ولا يلحظها إلا العارفون. وشهد حسان أول تجارب الحياة من خلال النسمات المسكرة للكاري الحار الذي تتبل به الأسماك، والرحلات إلى الأسواق المحلية، ومباريات التذوق مع والدته. وقد تعلم منها أن كل شيء نأكله يملك روحاً حتى الخضار والفواكه، وإن كانت تلك لا تملك روحاً فهي لا تصلح لوصفة جيدة.
وتدفع مأساة فقدان الأم والممتلكات، بالعائلة الهندية إلى متابعة الحياة فوق الألم وإلى «أكل» الطريق إلى أنحاء العالم، ثم الاستقرار في نهاية المطاف في لوميير، وهي قرية صغيرة في جبال الألب الفرنسية،
الطعام جسراً
كانت عائلة كادام تدير مطعماً في مومباي لسنوات عدة. ثاني أكبر ولد حسان (مانيش دايال)، يجري إعداده ليحل محل والدته «ماما» (جوهي تشاولا)، كطباخ رئيسي في المطعم. تتعطل أحلام العائلة ثم تنكسر أمام هجمات الغوغاء والقنابل الحارقة على المطعم في مومباي على إثر خلافات انتخابات سياسية. ينجح «بابا كادام» وعائلته بإخلاء الضيوف، لكن «ماما» تقتل في الحريق.
بعد وقت قصير من عبور الحدود بين سويسرا وفرنسا، تتعطل المكابح في سيارة «بابا» بالقرب من قرية سان أنتونين- نوبل- فال. مارغريت (شارلوت لوبون)، وهي طاهية في مطعم فرنسي فخم يدعى « Saule Pleureur» «الصفصاف الباكي». تمر بهم وتقوم بتقديم المساعدة للعثور على ورشة لإصلاح السيارات وبيت للضيافة. تأخذ عائلة كادام إلى شقتها وتستضيفهم على العشاء.
كان «بابا» مذهولاً من نوعية الطعام في القرية وتوافره وغنى روحه. صادفت العائلة في طريقها عبر البلدة مبنى مطعم مهجور في ضواحيها متاح للشراء. رأى في ذلك عناية إلهية وقرر تجديد ذلك المطعم وجعله مطعماً هندياً باسم «ميزون مومباي».
تفتح عائلة الحاجي كادام الصاخبة كالعاصفة مطعمها الهندي الرخيص مقابل مطعم ريلايس الفرنسي المحترم، ويبث في البلدة الهادئة الصخب مع رائحة التوابل من الهند، ويبدأ بتحويل حياة القرويين في تلك البقاع البعيدة ويبدأ أيضاً بإغضاب جارتهم المشهورة. تبدأ مدام مالوري من جهتها حرب الطهي مع العائلة المهاجرة.
الأرملة المتعجرفة مدام مالوري (ميرين) غاضبة؛ لأنها تعاني غصة كلما فتحت أبواب مطعمها (الذي هو بمثابة معبدها) والحاصل على نجمة للمطبخ الراقي ميشلان في فرنسا الريفية، لتواجه «مومباي ميزون» المطبخ الهندي الشرقي المتواضع. مدام مالوري، مستاءة جداً من التقاط أنفها رائحة خفيفة من الكاري من عند «بابا» وأبوابه المفتوحة.. ولكن عندما تجذب موهبة الطهي المذهلة لـ «حسان» انتباه السيدة، يبدأ بناء الجسر بين الاثنين.
لكن قبل ذلك كانت مدام مالوري (هيلين ميرين) تحاول التخريب على عائلة كادام في ليلة افتتاحهم لمطعمهم من خلال شراءها جميع المكونات المتاحة محلياً واللازمة لطهي أطباقهم في ليلة الافتتاح تلك، منطلقة من منطق عنصري تجاه الشرق كما معظم الغربيين.
كان حسان قد أعطاها ببراءة قائمة طعام يوم الافتتاح فاستغلت ذاك بخبث لتخرب عليهم عملهم.
وكرد على خطوتها العدائية يذهب بابا إلى السوق ويقوم بلم كل المنتجات الغذائية في سوق القرية من خضراوات وحمام… وتشتعل الحرب. وما كان يبدو في بداية الفيلم أنه صدام ثقافات فاتر تحول بعد قليل من مسيرة الفيلم إلى غليان.
الأب بابا شعر أنه أبعد عن عمله وطبيعة حياته التي مارسها واختبرها لفترة طويلة، والثقافة التي يؤمن بأنها أقدم ثقافة عريقة في العالم، ومالوري شعرت أن عملها، وثقافتها وتاريخها باتت مهددة من قبل غزاة برابرة قادمون من الشرق البعيد.
مدام مالوري كانت معجبة بثقافة حضارتها ومتعصبة لها، مسيطرة على ذاتها، مكرسة نفسها للعمل، ولكنها ضيقة الأفق مثلما هي نظرة الغرب إلى العالم من حوله. يتواجه هذان المنطقان، ويتواجه كل من عائلتيهما وتاريخهما وإرثهما.
صدام حضاريلم تكن مدام مالوري لتسمح مع غرورها العنصري بالموسيقى الصاخبة، بالديكور الخارجي المبهرج، بالطعام الشرقي الحار بالانقضاض على إقطاعيتها، لذلك تستخدم كل قدرتها لإحباط مشروع الجيران الجدد.
قالت له ببرود: لو أنك تقلل من صخب موسيقاك
أجاب بابا بأنه سيقلل من ارتفاع صوت الموسيقى، لكنه سيرفع من حرارة المواجهة.
اشتباك ثقافات يستتبع أبعاداً كبيرة، لكن حسان الهندي المسلم الشاب ومارغريت الفرنسية كانا قادرين على أن يتجاوزا هذه الأوهام ويتعاملا بتلقائية ويتعاونا في عملهما، تعطيه من خبرتها، تهديه الكتب، تعطيه النصائح المهنية دون حسابات عنصرية أو خلفية تآمرية.
في اليوم التالي، تعقد مدام مالوري اجتماعاً لطهاتها وتسألهم إن كانوا يعرفون معنى كلمة «مارسيليز»، وتبدأ بالحديث عن العدالة والإخاء والمساواة التي يحكي عنها النشيد الوطني الفرنسي، ثم تطرد الطاهي المسؤول عن التخريب، ثم تذهب بنفسها لتنظف الجدران التي قام عمالها بتلطيخها. إشارة عميقة من الفيلم للسياسة الغربية. هكذا تقول مدام مالبوري.
مبادرة حسان بأن يكون طاه في مطبخها تعطي دلالة كبيرة، فهو يمسك بإحساسه الموهوب بكفيها أثناء عملها، ويقوم بطهي البيض بيديها. ثقافتان تتعانقان لإخراج طبق مميز. بعد تذوق العينة التي أعدها تعترف مدام مالبوري بأن حسان سيكون «شيف» عظيما وتدعوه للعمل لديها. رفض «بابا» بشدة في البداية، ولكنه ما لبث أن وافق على مضض. فجأة ترى النور. هناك أمام عينيها، إنه هو الحل لسعيها للحصول على نجمة ميشلين ثانية لمطعمها: حسان. كان لديها الحس لترى فيه فنان الطهي الحقيقي.
يثبت طهي حسان أنه شعبي وغير تقليدي في الوقت نفسه، يجلب معه التجديد والأصالة لكلتا الثقافتين، مما يجعل مطعم مدام مالوري ينال جائزة نجمة ميشيلين للمرة الثانية، وهذا شرف لا يناله إلا قلة قليلة من مطاعم أوروبا.
يتصالح «بابا» ومدام مالبوري وتبدأ حالة رومانسية بينهما، بعد حرب منافسة ضارية بينهما تقود الأحداث بطريقة مثيرة، يقول لها دعينا نرقص معاً كصديقين تقريباً، وتوافق.
«رحلة المائة قدم» فيلم حول كيف أن مسافة مائة قدم التي تفصل عبر الشارع، بين المطبخ الهندي الجديد وآخر فرنسي تقليدي عريق، يمكن أن تمثل الهوة بين الثقافات والرغبات المختلفة، ويمكنها أن تمثل الجسر بينهما أيضاً.
ولا يمكنك أيضاً إلا أن تقرأ في الفيلم عن حتمية الأقدار، والأعمار، وعن سحر الحب والمودة بين البشر على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم. هناك الكثير من وقفات الاستبصار في الفيلم مما يجعل هذه الشخصيات التي تحمل قيمة جيدة، شخصيات فريدة، ويتم فيه طرح الرومانسية بطريقة متأنية بطيئة كما عملية الطبخ.
استقبال نقديقوبل الفيلم من قبل النقاد بشكل إيجابي، وقيل أن المخرج المبدع، مخرج فيلم شوكولا «لاسيه هولستروم» قدم طيفاً حساساً من توليفة مكونة من إباحية غذائية مع الكثير من اللعب على الأوتار العاطفية. إنه حكاية خيالية لطيفة للكبار، وهو في الوقت نفسه فيلم عميق ممتع مفرح تستطيع حضوره مع كل العائلة.
يتمتع المخرج السويدي لاسي هالستروم بسمعة السينمائي الذي يقدم الراحة لمشاهديه، ويشهد على ذلك أفلامه الأخرى مثل «شوكولا» و«صيد سمك السلمون في اليمن».
ربما خرج لاسي هالستروم على العالم بطبق من الحلوى في فيلم «شوكولا» قبل أربعة عشر عاماً، لكنه ذهب إلى الطبق الرئيسي في هذا الفيلم الرومانسي الكوميدي اللذيذ الغني بتنوع لانهائي في تركيبات لانهائية. «و مثل (شوكولا) كان الفيلم ضوء ومرح حي. وكانت عدسته تنظر إلى الاختلافات العرقية بتركيز ناعم».
الطريقة الفنية التي صور بها وكأنها الأحلام، كانت رائعة، واللقطات ذكية. عكس المصور فيه مستواه الأكاديمي وخبرته القوية وقوة قبضه على المشهد.
عبقرية المصور كانت بالتقاط التفاصيل الصغيرة التي خلف المشهد الأصلي، ابتسامة أحدهم، نظرة طفل، إدراك واستبصار الأرواح، مثل هذه التفاصيل التي تجعل الفيلم خاصاً جداً. أدى الممثلون أدوراهم بشكل رائع، وكان أداء «أوم بوري»، باعتباره بطريرك الأسرة، هو الغراء الذي يجعل هذا الفيلم كقطعة واحدة. كان يمثل الأب الحريص على عائلته بشراسة ومصلحتها عنده في المقام الأول، ويتمتع بالعزم على النجاح في الأعمال التجارية، وهو فخور بتراثه الهندي. رحلة المائة قدم كوميديا ثقافة الصدام انتعشت بالأداء الناري لهيلين ميرين وأوم بوري. حتى اللكنة الانجليزية التي اختلطت بالهندية والفرنسية كانت لذيذة جداً.
تسأل مدام ماليري حسان لماذا تقوم بالتغيير في وصفة عمرها أكثر من مئتي عام، فيجيبها حسان: ربما مئتي عام كافية كسبب لنغيرها!
يتميز الفيلم بتقديم تغطية متوهجة للريف الفرنسي، وتصوير تفصيلات أكثر دقة للاقتراب من الثقافة الشرقية (الهيل، البهارات، الموسيقى، الملابس)، كما أن السرد فيه يقارب المزج المرغوب به بين مطبخ بلاد الغال والمطبخ الشرقي الهندي.
واختار المخرج هالستروم بقعته الأجمل وهي الثقافة الوسطية. أشعة الشمس الدافئة، المواقع الرائعة وكأنها صورة بطاقة بريدية في جنوب فرنسا، كانت أحد المكونات الرئيسية لهذا العرض الرقيق الممتع للغاية. وربما ما كان يحتاج إليه المطبخ الغربي الممل هو سحر ودفء وعمق ثقافة الشرق.
ابتعد الفيلم عن ثقافة الصدام التي تمثل الواقع الحالي للعالم ورصدها كرسالة تبشيرية ملحة بطريقة كوميدية ناعمة، عليك أن تمشي هذه الرحلة نحو الآخرين الذين تخاف منهم حتى تحقق لنفسك شيئاً له قيمة، هذه الرحلة تمثل أن أي شيء تريده مثل الطعام أو الحب أو الصداقة عليك أن تبذل جهداً وتمشي مسافة في اتجاهه، أناس الفيلم يتنافسون بالحب والطعام وليس بالكراهية والحروب القذرة.
أراد ليسيه أن يقول إنه عندما يفهم الناس بعضهم لن يكون هناك نزاعات، بل سيكون هناك حب، ولم يكن الطعام إلا إشارة ليس للشرق فقط، بل لتطور الحضارات وانتقالها بين الشعوب. إنه بذلك يقدم سينما جيدة تخدم قيماً جميلة، ويقدم شخصيات واقعية تعبر عن الإنسان الحقيقي بكل أبعاده المضيئة والمظلمة.
قال الممثلون عن المخرج، إنه كان شخصاً متميزاً جداً، كان يعطي الثقة للجميع، وكان يخلق لطاقم العمل بيئة أسرية وراء الكواليس، وكان يطبخ فعلاً في عطلة نهاية الأسبوع للجميع، كان حساساً وشاعرياً، وكذلك اشتغل الممثلون وكأنهم بشر التقوا فقط ليقوموا بعملية رائعة في طهي الطعام.
أصل الفيلم
الفيلم اقتبس عن رواية ريتشارد مورايس «رحلة المائة قدم» الصادرة عام 2010. ومع أنها كانت «الرواية الأولى» له، إلا أنها من أكثر الكتب مبيعاً عالمياً في تقييم الـ «نيويورك تايمز».
يقول ريتشارد موريس، الصحفي الأميركي الذي ولد في البرتغال ونشأ في سويسرا وعاش معظم حياته في ما وراء البحار، ليعود إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 2003، إن هدفه من الكتابة كان تقديم رواية ممتعة، مملوءة بالحياة والطرافة، وفي الوقت نفسه تحتوي على بعض الحقائق الإنسانية الأساسية أو الأفكار المثيرة التي يبقى صداها يتردد في رأس القارئ جيداً بعدما ينتهي من قراءة القصة، وقد نجح.
بطاقة فيلمية
أطلق الفيلم عام 2014
إخراج: لاس هاليستروم صاحب فيلم «شوكولا»
إنتاج: أوبرا وينفري وستيفن سبيلبيرج.
تمثيل: هيلين ميرين (مدام مالوري)، أوم بوري (بابا)، مانيش دايال (حسان) وشارلوت لوبون (مارجريت).
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *