*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
علمْتُ أواخر كانون الثاني 1955 أنّ مقهىً جديداً فتح أبوابه في منطقة ( هاي ماركت Haymarket ) و أنّه في حاجة لتوظيف طواقم خدمة ، و بعد مراجعتي لإدارة المقهى قُبِلْتُ فعلاً كغاسل صحون و كانت العبارة الافتتاحيّة في دفتر مذكّراتي والمكتوبة في 4 شباط من ذلك العام تَبدأ كالتالي : ” هذا الصباحُ هو أجمل صباحٍ أعيشه منذ تشرين الثاني المنصرم : فقد كنتُ قادراً على المكوث في فراشي وأنا أقرأ وأتناولُ القهوة و أتمتّعُ بمشاهدة الطبيعة الجميلة عبر النافذة المفتوحة حيث أشعّة الشمس تغمرُ كلّ مكانٍ في غرفتي .
العملُ في المقهى خلال أوقات العصر يُناسِبُني تماماً ولم أتعب من العمل بعدُ و لسْتُ في حاجةٍ لاستنفاد طاقتي إذا أخذْتُ نفسي بانضباط صارم و لم أسمح للوقت بأن يتسلّل من بين يديّ من غير فائدة . يوفّرُ لي المقهى ساندويتشاتٍ أجلبُها معي للمنزل و أتناولُها طول اليوم وهكذا أوفّرُ على نفسي عبء شراء الطعام ،،،،، ” ، و ربّما يكونُ من المناسب هنا الإشارةُ إلى أنّ عبارة ” أخذ نفسي بانضباط صارم ” إنّما أقصدُ منها صدّ نفسي من الانزلاق في وهدة الضجر و الملل بصرف النظر عن مدى التعب الّذي أكونُ قد بلغته .
كان العمل في المقهى أكثر الأعمال الممتعة الّتي عملْتُ فيها حتّى ذلك الحين فقد كانت تلك هي الفرصة الأولى منذُ تركي المدرسة و الّتي أتيح لي فيها العملُ مع من هم أقراني في العمر و كانوا في معظمهم طلّاب دراما أو فنون كما كان جوّ المقهى في العموم مُبهِجاً للنفس : إذ كانت ثمّة نافورةُ ماءٍ ضخمة تتوسّطُ المقهى و مصنوعة من طبقاتِ زجاجٍ ملوّن مرتّبةٍ بزوايا تُتيحُ للماء العودة إلى الحوض الّذي يتوسّطُ النافورة ، و سُمِح لنا بأن نأكل و نشرب ما نشتهي و بالقدر الّذي نشاء ، ولحسْن حظّنا كان من يقومُ على إدارة المقهى امرأةٌ بوهيميّة كثيرة الحركة والكلام وتحبّ عملها كثيراً كما كانت تُبدي الكثير من الرغبة في توظيف المعتلّين جسديّاً بدافع مساعدتهم لأنّها كانت تشعر بالكثير من الشفقة تجاههم .
اعتدْتُ أن أقود درّاجتي عصر كلّ يومٍ من المتحف البريطانيّ صوب المقهى الّذي أعملُ فيه ، و بعد وصولي المقهى كنتُ أحملُ درّاجتي و أهبطُ بها في سلّم يقودُني إلى السرداب حيثُ كنتُ أعمل ، و بعد بضعة أسابيع من عملي سُمِحَ لي بترك العمل كغاسل صحون و الانتقال إلى مهنة حسابيّة أقلّ مشقّة ، و كان العمل في المقهى عموماً غريباً عليّ كلّياً ومختلفاً عمّا اعتدْتُهُ من قبلُ : فقد وجدْتُ الأجواء في المقهى أكثر تحضّراً و إمتاعاً عمّا اختبرْتهُ من قبلُ . جعَلَني عملي في المقهى أشعرُ باسترخاء عميق كنتُ أفتقدُهُ من قبلُ و مضيْتُ أستغلُّ أيّامي في المتحف البريطانيّ و أنا أكتبُ ” اللامنتمي ” بسرعةٍ هائلة لأنّني كنتُ فكّرتُ في موضوعات الكتاب منذُ سنواتٍ خلت ثمّ كنتُ أواصلُ عملي في المقهى منذ الخامسة و النصف مساءً و حتّى الحادية عشرة و النصف ليلاً . عندما كانت الجموعُ تغادرُ المسرح القريب من المقهى عند العاشرة كانت وتيرةُ العمل تشتدّ فجأة و ينقلِبُ المقهى خليّة نحلٍ مزدحمة و كان يتوجّبُ عليّ توجيهُ نظري بدقّة لكي أديم عمل أربع آلاتٍ لصنع القهوة في ذات الوقت .
عندما انغمسْتُ في كتابة ” اللامنتمي ” انتابَني شعورٌ بدهشةٍ عظيمة : فقد كانت الأفكارُ تتدفّقُ من رأسي كما تتدفّقُ اللافا Lava المنصهرة من فوهة بركان متفجّر و كنتُ أعلمُ أنّ ما أكتبهُ حسنٌ و مقبولٌ إلى حدّ مُقنعٍ لي و رأيْتُ ذاتي منعكسةً في حياة كلّ من كتبتُ عنه : فان كوخ ، نيجينسكي ، نيتشه ، إي. تي. لورنس ،،،،، و كنتُ مهووساً بالكتابة عنْ كُتّابٍ اعتُبِروا حتّى ذلك الحين نصف منسيّين من أمثال : غرانفيل باركر Granville Parker ، ليونيد آندريييف Leonid Andreyev ، هيرمان هيسّه Herman Hesse ،،، و الحقّ أنّ معظم كتب هسّه أعيدت طباعتُها بعد صدور اللامنتمي كما كتِبَ الكثيرُ من الكتب عنه و قد قرأتُ معظم هذه الكتب و للأسف لم أجد في أيٍّ منها ما يشيرُ إلى كتابي و تعليقاتي بشأن هسّه . كانت الثيمةُ الأساسيّة في ” اللامنتمي ” تحكي عن المُبدعين الّذين يشعُرون بأنّهم مهمّشون في ( صراع الفئران ) الّذي يَسِمُ الحياة في الحضارة الحديثة ، و ثمّة إحساسٌ طاغٍ أنّ فكرة ” اللامنتمي ” تكمنُ في مقطعٍ محدّد من كتاب لورنس ( أعمدة الحكمة السّبعة The Seven Pillars of Wisdom ) وَيحكي فيه الرجل عن مشاعره الجيّاشة و هو ينطلقُ نحو الصحراء مع الفجر بصحبة بعض البدو الأشدّاء : ” …. انطلقْنا خارجاً فجْرَ أحد الأيّام الأكثر صحواً و كانت الأجواء كفيلة بإيقاظ الحواس الخامدة و دفعها إلى أعلى مراقيها وهي تغتسلُ في ضوء الشمس بينما كان المثقّفُ المستنفد القوى من تعب فكره الليلة الماضية لا يزالُ يتمطّى في فراشه ، و لِساعةٍ أو ساعتيْن في ذلك الصّباح النديّ كانت الأصواتُ وشذا الروائح و بهجة الألوان في ذلك المكان تطرُقُ عقل كلّ فردٍ منّا على حدة وبصورة مباشرة ، وبدت تلك الروائحُ و الألوان مكتفيةً بوجودها ولم تكن ثمّة غضاضةٌ فيما يعتبرُهُ البعضُ مثلبةً في تصميم الطبيعة و ترتيبها البدائيّ الّذي لم تمسسْهُ يدُ بشر في تلك البقعة القصيّة من العالم ……”
وقد اختبرْتُ أنا بنفسي في مُراهقتي ذلك النوع من الصّباحات المُبهِجة عندما كنتُ أنطلِقُ بدرّاجتي نحو وارويك Warwick أو ستراتفورد Stratford أو ماتلوك Matlock ،،، و أعرفُ تماماً ما تعنيه تلك المتعة الخالصة : الإحساسُ بانّ كلّ المآسي والشقاء في العالم ليس شيئاً ذا بالٍ و لا يستحقُّ أن يستحوذ على تفكيرنا ويمكنُ ببساطةٍ غضّ الطرف عنه و الاندفاع في الحياة بتفاؤلٍ و غبطة ، و قد سبق للكاتب الألماني غوتفريد بين Gottfried Benn أن وصف هذا الشعور بتعبير ( الإدراكُ الأوّلي Primal Perception ) حيثُ يبدو معه كلّ شيء جديداً و مشعّاً بحقيقةٍ غير مختبرة من قبلُ و ينتابُنا حينذاك شعورٌ بأنّ مشاكلنا ليست أكثر من ميْل عقولنا في إسقاط أفكارها على العالم تماماً مثلما يكونُ عليْه الحال عندما نمسكُ بورقةٍ بيضاء ناصعةٍ و نعمدُ إلى تلطيخها بأصابعنا الملوّثة و هذه هي الحقيقة بالضبط الّتي أردْتُ الكتابة عنها في اللامنتمي : إنّ حقيقة القتامة و اليأس الّتي نشعرُ بها في حياتنا ستمكُثُ بعيدةً عن عقولنا عندما نفهمُ القوى الخفيّة الّتي يَمتلكُها العقلُ البشريّ ، و هذا هو الأمرُ الّذي جعلَني أعيرُ انتباهتي إلى حقيقة أنّ اللامنتمي ليس بالضرورة فرداً مُبدعاً بل يمكنُ أن يكون أيّ فردٍ جعل منه غيابُ الفهم الذاتيّ لإمكاناته الدفينة فاقداً للحس التطهيريّ الساحر الّذي تنطوي عليه عمليّة الخلق في أيّ مجالٍ كان ، و إذا كان فان كوخ أو نيتشة أمثلةً لمُبدعين استحالوا شعلةً وهّاجة في سبيل توكيد إمكاناتهم الخلّاقة فإنّ الكثيرين غيرهم من اللامنتمين اكتفوا بإطلاق سحابةٍ سوداء خنَقتْهُم مع هؤلاء الذين حولهم . كنتُ في غايةً الثقة المفرطة بنفسي عندما كتبْتُ اللامنتمي و تُشيرُ عبارة في مذكّراتي آنذاك إلى الكلمات التوكيديّة التالية ” هذا الكتابُ سيكون الأرض الخراب Wasteland لعقد الخمسينات ، و الكتاب الأهمّ بين جيله من الكتب … ” .
وجدْتُ العمل في المقهى مع طلبة الدراما الصّغار الجذّابين ممتعاً للغاية و بدأت بممارسة بعض الغزل الخفيف مع الفتيات الصغيرات الفاتنات ولكن بقيت جوي – الّتي كانت لا تزالُ تدرسُ لتكون مسؤولة مكتبة في إيلينغ Ealing – هي المركز والقلب في كلّ عالمي و اهتماماتي و كانت تأتي للمكوث معي خلال أوقات عطل نهايات الأسبوع فقط ، و رغم أنّ المرء متى ما وجد نفسه مُحاطاً بفتياتٍ مُغوِياتٍ يوماً بعد يوم و أسبوعاً بعد أسبوع فإنّ ثمّة فرصة قويّة لكي تتطوّر تلك المُغازلاتُ إلى شكلٍ أكثر حميميّة من العلاقة !! لكن لم أسمحٍ لأيّ من تلك الإغواءات أن تلوّث علاقتي مع جوي . اعتدْتُ حينذاك على العودة مشياً إلى شقّتي المتواضعة بصحبة فتاةٍ جميلة و هادئة تدرسُ الفنون و تدعى ( مارينا ) و كانت تسكنُ في غرفةٍ قرب محطّة فيكتوريا بارك و كانت تُشارِكُها فيها فتاةٌ تدعى ( سينثيا ) ، و حصل و قبلْتُ دعوتهما مرّة أو مرّتيْن لتناول الشاي في غرفتهما و كنتُ حينذاك على درايةٍ كاملة بأنّ النساء و الرجال الأصحّاء يُبدون توقاً قويّاً نحو الجنس بذاته بصرف النظر عن رغبتهم في إدامة علاقاتٍ دائميّة : فقد كانت لديّ آنذاك علاقتي الدائميّة مع جوي ولم يكنْ ممكناً لأيّ شيء آخر أن يحطّم هذه العلاقة أو يسيء إليها بأيّ شكل . حصل عندما كنتُ أقفُ وراء عدّاد فناجين القهوة أن التقيْتُ بالكثير من الفتيات الجذّابات وكانت إحداهنّ فتاة شقراء جميلة في السابعة عشرة من عمرها قدّمت نفسها لي باسم ( كارول آن ) و رأيتُها فتاةً رائعة الجسد و مُغوية وكانت تدرسُ الدراما في معهد البوليتكنيك الواقع في ريجينت ستريت كأغلب الفتيات اللواتي كنّ يتردّدْن على المقهى و كانت تعملُ أيضاً في محلّ تسجيلاتٍ قريب . زارتْني كارول آن في اليوم التالي لمعرفتي بها في المتحف البريطانيّ و كانت تلك فرصةً سانحةً لأرِيَها الأجنحة المصريّة و الآشوريّة في المتحف ثمّ جلسْنا لتناول الشاي و تبادلْنا بعض التفاصيل بخصوص حياتنا . كانت كارول آن صريحةً معي على الدّوام و أخبرتْي يوماً أنّها تشعرُ بانجذابٍ لا تستطيعُ دفعهُ تجاه ممثّلٍ وعندها فهمْتُ أنّها تراني مجرد بديلٍ للتعويض عن الممثّل ذاك فكانت ردّة فعلي الآنيّة أن اندفعْتُ في الحديث عن جوي و كيف أنّها فسختْ خطبتها المُريحة لتلحقَ بي في لندن ، و عندما قدِمتْ كارول آن إلى المقهى في اليوم التالي دعوْتُها إلى لقاء جوي و قدّمتُها لها كمجرّد فتاةٍ قابلْتُها في المقهى ، و أخبرتْني كارول آن لاحقاً ” كنتُ أشعرُ بغيرةٍ عدوانيّة من جوي قبل أن ألتقيها و لكنّني أفهم اليوم لِمَ أنت مصمّمٌ على البقاء معها ، وَ أريدكَ أن تبقى الحبيب الأوّل لي برغم كلّ شيء “.
________
*روائية ومترجمة من العراق/ المدى