خالد محمد عبده*
(ثقافات)
(1)
حَاصِلُ عمري كنتُ نيئَا ثمّ نضجتُ ثم احترقتُ … لخّص الرّومي حياته وتجربته الثّرية في هذه العبارة القصيرة التي لم يُطل فيها الكلام، رغم أنه يتحدّث عن رحلة روحية حُفّت بالمخاطر وصاحبتها الآلام، لكن الألم فيها كان مدعاة للفرح والسعادة، ولم يكن سببًا للشكاية والنواح، صاحب الرّومي في رحلته ألمٌ لذيذٌ كلّما اشتدَّ أدرك أنه في طريقه لبلوغ مراده وأن رحلته مستمرة نحو الأمثل الذي ينشده.
صحيحٌ أن الرّومي أطال الحديث في قصصه الصوفيّ الذي ملأ ستة دفاتر كبار، وفي داخل القصة الواحدة نجد عشرات القصص، وانتقل من الرّمز والإشارة أحيانًا إلى التصريح، وعنّف مريديه أحيانًا وطلاّبه، كان الرومي فيما يفعله كلّه قاصدًا الإنسان الذي كان يبحث هنا، وهو يحمل مصابيحه، وكان سلاحه الأوحد الكلمة الطّيبة والعمل الصالح الذي ينفع البشر ولا يُخرج إلا نباتًا طيّبًا.
كانت كلمة الرّومي مستمدّةٌ من حروف (كُن فيكون) وكان اسمُ الرحمن ذِكرَه وورده الذي ينتقل من خلاله إلى اللطيف والسميع والجميل وغيرها من أسماء الله وصفاته التي لم تعد تُذكر اليوم ويتمثّل بها المؤمنون، ومما نُسب إلى الرّومي أنه كان يقول في ورده الكبير: اللهم أنت السلامُ ومنك السلام وإليك يعودُ السَّلام، فحيّنا ربّنا بالسلام، وأدخلنا دارك دار السلام
تباركت ربّنا بالسلام وتعاليتَ. لك الحمدُ يا ذا الجلال والإكرام. سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا معبود. الحمد لله على التوفيق ونستغفر الله على التقصير.
وكما قرأ الرومي من آي الكتاب: (إن بطشَ ربِّك لشديد). قرأ: (ورحمتي وسعت كلّ شيء) وكما التمس من تجربة النبيّ الحكمة والصبر والحلم والتأديب التمس منه معنى المحبة التي استغرقته عشقًا للحق، فقد قرأ عنده أنه لا يتمُّ إيمان المرء دون أن يحبّ للعالمين ما يحبّه لنفسه.
(2)
عاش الرّومي بجوار من يبجّلون (بوذا) ويعتقدون مذهبه، وكان الرّومي الذي اشتهر أهله بالصلاّح والتّقوى والورع والعلم، ولُقّب والده بسلطان العلماء، واشتُهر شيخه الترمذي بكثرة العبادات كالصلاة والصّيام الذي مارسه حتى وهن عظمه ، كان الرومي الذي تمثّل معاني القرآن في حياته وترجمها فعلاً ونظمًا خالدًا ممتلئًا بالتّقوى والإيمان، لم يبشّر بالعنف ويتّخذه مسلكًا ولم يُكره أحدًا على ما اعتقده صوابًا، لم يهاجر الرّومي من بلده لقتال البشر أو يدّعي يومًا أنه وجب على المسلمين أن يقاتلوا دولة الظلم في (أرض الإسلام) دون أن يدرك معنى الهجرة أو الغرض من الهجرة أو ما هو حدّ الظلم وكيف يستقيم ميزان العدل؟!
(3)
لم يكن الرومي ناقرًا للصلاة نقر العبيد، أو مقرّعا لغيره لأنه لا يُصلّي، ولم يكن منشغلاً بالعالم كله وهو مقصّرٌ في حقِّ نفسه، ربّما اهتمَّ الرومي لأمر الإرشاد العالم صرف النظر عن أديان أهله، كما جاء في سيرته أنه من عذب منطقه كانت أهل الديانات جميعها تحضر مجلسه، كما ستحضر جنازته وتشيّع جثمانه إلى مثواه الأخير، وكما يهتم به اليوم أهل الأديان جميعهم ومن لا يعتنقون دينًا أو مذهبًا.
(4)
لم يشيطن الرّومي المرأة أو يُدنّسها أو ينشغل بها غرضًا من أغراضه ويحملها فوق ظهره وتحك جلده، والرّومي وإن حمل المرأة على رأسه مرّة بأن قال عنها إنها خلاّقة لا مخلوقة، إلاّ أنه أخرجها من رأسه وانتبه لروحه التي أرادها تستمدُ الحياة من (أنا الحقّ) و(أنا الأمّة) .
(5)
خالف الرّومي وقت درسِه العقيدة التي تقول بخلق القرآن، ولم يبجّل فكر المعتزلة ، لكنه لم يكن خصمًا لأهل الاعتزال، كما لم يكن يومًا خصمًا لأحد، وإن أشار إلى من يختلف عنه اعتقادًا أو مشربًا ناقدًا تصرفاته، فالإشارة إلى شخصه عرضًا، وليس المقصود هو، وإنما المقصود إنكاره لهذا السلوك أو المشرب، وهو ما لم ينتبه إليه أهل الإسلام اليوم، فنسوا الفكرة وانشغلوا بالأشخاص، وبدلاً من نقد الأفكار نقضوا وهتكوا أعراض غيرهم!
إذا انشغل كل منهم بمعتقد غيره أكثر من الالتفات إلى ما يصلح شأنه، وهو يحيا أزمة مادية وروحية، تُقام المنتديات والفاعليات والمؤتمرات اليوم من أجل نُصرة (حزب الله الأوحد) وهذا الحزب المثالي المجهول إلى اليوم أصبح موزّعًا في كل الأحزاب، فشباب الكهنوت الأصغر القابع خلف أعمدة الأزهر ينتصر لعقيدة أبي الحسن الأشعري، وهي العقيدة الصائبة دون غيرها من عقائد الإسلام! وشباب الحرم لا ينشغلون بهذه الأمور كثيرًا وإن صدّر الانشغال بها مشايخ الحرم إلى مصر وتونس والجزائر والمغرب وغيرها من بلدان الإسلام، فنُصرة (أهل السُّنة والجماعة) أضحت واجبة اليوم، ولا بأس أن تنشغل الدولة حكومة ومؤسسات بـ(الظّاهرة السلفية) وتشغل رعاياها بها، ردًّا وحوارًا وعرضًا وعجنًا وطحنًا.
(6)
ما لم يفعله الرّومي أنه لم يحوّلْ التّصوفَ إلى رُتَبٍ ومواريث، فالأوّل والآخر والمتقدّم والمنتهي والشيخ والمريد مسالكٌ وسلوك وبرهان، لا مجموعة أذكار تغلبُ عليها الصّنعة وتستغلها أهل السُّلطةِ ليل نهار، وتخجل البهاليل من تكرار فعل من أفعالها.
لم يكن الرّومي أُلعوبة في يدِ قصير خبيث، أو جعجاع مُغفّل، أو شيخٍ هَرِم أكل الدّهر عليه وشرب. لم يكن الرّومي مغازلاً لقوة أو عبدًا لسُلطةٍ، ولم ينتقل إلى باريس أو روما من أجل أن يصبح البابا الجديد!
(7)
لم يهاجر الرّومي من وطنه إلاّ من أجل تحقيق ما تقبرُه الدّول والحكومات وتستغله المؤسسات وتعبث به ألا وهو الإنسان.
الهجرةُ كانت من أجل الحياة والإحياء.
بعث مولانا ابنه وبعضًا من مريديه من قونيه إلى سوريه من أجل أن تعود الشّمس لتشرق على قلبه وروحه من جديد كما كانت ويحيا إنسانه، شمس تبريزي الذي غاب عنه بسبب إزعاج القريبين من الرّومي، الذين غضبوا من شمس لأنهم ما عادوا يشعرون بحب مولانا لهم أو اهتمامه بهم وانصب كل اهتمامه بشمس، كان الحبّ هو محرّك الغضب والرضا، وكان الحبّ الإلهي الأبقى محور حياة مولانا الرّومي.
(8)
ما لم يفعله الرّومي أنه لم يسمح بتهكّم أحد على معتقدات الآخرين، وإذ أبدى أحد تلاميذه اندهاشًا من حضور من لا يفهم كلام الرّومي نظرًا لاختلاف اللغات ربما يراه الإنسان أمرًا طبيعيًا، لكن الرّومي رفض أن يكون الاختلاف مدعاة الإنكار والتندّر والاستهجان:
كان بعض المسيحيين في مجلس مولانا جلال الدين الرومي يستمعون إليه، وعلى الرغم من عدم معرفتهم باللغة التي يتحدث بها إلاّ أنهم كانوا يحزنون ويفرحون ويبكون حسب جو المجلس
في إحدى المرات قال أحد المسلمين في المجلس (باستخفاف) ما بال هؤلاء يبكون مع أن المسلمين أنفسهم لا يصِلون إلى فهم مُعظم ما يُقال في هذه المجالس ويدركونه
فسمعه حضرت مولانا
فعلّق قائلاً:ـ
ليس من المهم أن يفهموا الكلمات
هم يفهمون لُبّ الكلمات
هم يدركون أن ما يدور في هذا المجلس هو عن الله
وعن كونه رزّاقًا عفوًا غفورًا رحيمًا جميلاً قادرًا حكيمًا مُثيبًا مُعاقبًا
وهم يشمون من هذه الكلمة رائحة أحبابهم؛ لذا يتأثرون وتثور عواطفهم.
كـــــل إنــــســـان يحب الله من جماع قلبه ويتضرع إليه، إذ ليس بوسعنا أن نضع اسمًا لهذا الإيمان القاطن في القلب، وعندما يسيل هذا الإيمان إلى مجرى الكلام وقالبه، يتشكّل ويُكتب اسم له.
كان المسيح حاضرًا وأمه مريم طيلة الوقت في رحلة الرّومي، وسواء كان خطّ الرحلة المقدّسة إلى مصر أو إلى القدسِ (المنتهكة اليوم باللسان والمستغلة والمقهور فيها الإنسان) أو إلى ربوة الهند، إلا أنه ظل مع المسيح ومريم حتى السماء السابعة، فالمقصد واحدٌ والمطلوب واحدٌ، والنّفس التي رآها مريم كان يناشد دومًا المسيح الذي بداخلها كي يُعلن عن ميلاد الإنسان.
صار المسيحُ اليوم على يد فئة عريضةٍ محلاًّ للجدال، وعلى قدر دوام الجدال والانشغال به على قدر فقدان الفئة لكثير من هدي النبوة وخصال الآدمية التي لا تتجزأ، وتظهر في موقف وتختفي في بقية المواقف التي تُطلب فيها لا تُندب فحسب!
فلا بأس عند هذه الفئة من قتل من يعتقدون في لاهوت المسيح أو تهجيرهم، ولا نفاق عندهم إن رأوا من مواقف السابقين ما يُخطّئ فعلهم، ولا سماحة مع أهل دينهم إن قال قائلهم: لا ينبغي التّعامل مع البشر بهذه الصّورة وهذه التصرفات الإجرامية، فكلُّ مخالف لهم ممتهَنٌ، عِرضُه مُستباح، دينه -إن ظل له دين- مائعٌ، وعقيدته فاسدةٌ، وإن استقبل القبلة وصلّى مثل صلاتهم.
(9)
ما لم يفعله الرّومي أن يُهجّر أحدًا من وطنه أو يروّع الآمنين، كما يفعل المنتسبون إلى الإسلام اليوم، والإنسانية قبل الإسلام من أفعالهم براء، بل كان ينتقل من دار إلى دار من أجل خدمة العباد، وكما يَرِدُ في رسائله التي كان يرسلها أنه كان يهتمّ بخدمة أهل الحِرف والصنائع، ويسعى لأن يحصلوا على مرادهم ممن هو عنده، وهو الأمر الذي أصبح اليوم نادرًا، فإن أعطاك أحدهم رقم هاتف أو عنوان شخص فكأنه خلقك ولا بد أن تتذكره في اليوم عشر مرّات لأجل خدماته الجليلة! على الرغم من أن المنتسبين إلى هذا الدين يلوكون بألسنتهم ليل نهار أن النبي بُعث رحمة للعالمين، ويروون عنه ما يفيد بأنه قال: السعي في قضاء حوائج الإخوان أفضل عند الله من سبعين فريضة، لكن الفريضة الإنسانية غابت كما غابت روح السماء عن أفعال من يتقنون بيع أنفسهم لقارون أو فرعون أو أصحاب الجلالة الجدد.
(10)
ما لم يفعله الرّومي أن غرّر بأحدٍ أو يستعطف أحدهم بآية من آيات الذكر الحكيم من أجل غرضٍ دنيء، كان الرومي من أهل الصّدقِ والصراحة فإذا ما أراد شيئًا أعلن عنه صرف النظر عما يقوله الآخرون. في الروايات أن شمس تبريزي أنكر على شيخ صُحبة الغلمان، وكان هذا الشيخ ممن يعتقد في ظهور الجمال الإلهي في صورة الغلام والمرأة كما هو الحال عند أحمد الغزالي وغيره من الصوفية، وقيل عن هذا الشيخ أنه ساعة الرقص والتواجد كان يحكُّ صدره في صدر الغلام الذي أمامه، استنكر التبريزي هذه التصرفات ورأى أن هذه التصرفات لا تصدر عن أهل علم أو دين، وإن صدرت في حالة وجد وطرب، فليس لها من الشرع مستند أو تأويل، وكلها أفعال صبيان لم تهذّبهم الشرائع ولم تمتلأ قلوبهم بالورع.
وعلى الرغم من أحاديث (الغزل بالمذكّر) التي أدين الكثرين بها، وصارت محلاًّ للاتهام والشُّبهةِ، إلاّ أن الرومي لم يلتفت إلى كل هذا وألّف ديوانًا كاملاً، جعل عنوانه اسم الحكيم الإلهي شمس تبريزي، وإن كان في معاصري اليوم من نظر إلى الرّومي بعين الشذوذ، خاصة الأعاجم الذين بدأوا درسه قبل العرب، فإن من الأعاجم أيضًا من درس الرّومي واعتبر مثل هذه الصورة عنه محض هُراء وعبث وانشغال بالغياب وبُعد عن الحضور، إذ الدرس هو المقصود لا صاحب الدّرس.
إذا أردت أن تدخل المطبخ المولوي وتذوق من ثمار المثنوي المعنوي، فلا تنقل بيتًا قيل من جوار العرش وابتسمت الملائكة من معانيه إلى سريرٍ تريد أن يجمعك بمن تنقل لها البيت، وهو سلوك نشهده اليوم عند بعض عُبّاد الأهواء! يمكنك أن تحرق المثنوي قبل أن تتحدث مع من تريد، ويمكنك لو تدبّرت بسهولة الوصول إلى السرير أو العرش الذي ارتضيت، لكن لا تُدنّس نفسك التي يخجل الدنس منها أكثر من ذلك.
ما لم يفعله الرّومي أن قدّس أحدًا أو سبّه أو انشغل بأحاديث من لا يلتفت إلى الأحد المعبود، فهو وإن كان سُنّيًّا بحسب تقاسيم أهل المذاهب، إلاّ أنه بجّل كثيرًا أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه والسيدة الزّهراء، ووصف الإمام بجميل الصفات، واستمد من علومه وعلوم آل البيت وأفاد، ولم يخش أن يُقال عنه (هذا شيعيّ) ولا أظن أن جهة من الجهات طالبت التحقيق معه، وكذلك لم يكن الرّومي من الأدعياء!
كان الرّومي نبويًّا متحققًا ولم يكن فاسدًا أو نبتًا شيطانيًا
وللحديث عن عالَم الرّومي نسأل الله طهارة وتوفيقًا.
* كاتب من مصر