*جنفييف بريزاك / ترجمة: أحمد عثمان
“حينما يقول الذين يكتبون إننا نكتب بتركيز، أقول لا، أشعر بأنني في الدرجة القصوي من التركيز، أنا نفسي مصفاة، رأسي مثقوب”.
هكذا قالت مارجريت دوراس في السبعينيات. اعتقدت فيما هو طبيعي، فيما هو جدي، ولم تنشغل أبدا بكتابة مقال. لم تفكر في أنه من الضروري أن تكون ذات روح بسيطة أو مثقفة. كانت رغبة الأخوة لديها قوية، وتملكتها عادة مزعجة في قول ما لا يقال، حول نفسها، حول حياتها، حول طريقتها في الكتابة، حول رؤيتها في كتبها.
ذكر مارسيل بروست ذات يوم أن الكاتب يتكلم دوما عما لا يلزم. وهذا بسبب الحاجة إلي ما هو حميمي، والرغبة العميقة للحميمية لدي مارجريت دوراس كلفتها غاليا. لا يربط الكتاب مثل الهنود ثقتهم بما يتأتي من طرح الأسئلة. في البداية، حدست دوراس هذا الأمر. ونفهم أن رغبة الثقة لديها تمثل وجه الريبة الذي أرادت أن تتخلص منه، بأناقة، لأجل جمال الإيماءة والحركة.
حينما حاورتها صحافية من جريدة “لو فيجارو”، بخصوص نتاجها “نائب القنصل”، ذكرت صور الصمت، الترددات، المباغتات ومرارة هذه المحاورة قبالة طرق الطالبة التي تتبدي دوما واثقة من كونها غير مفهومة. “الفشل يجعل المرء تعيسا، والنجاح يرده مختلفا”، هكذا قالت دوراس. كتبت جاكلين بياتييه في “لوموند” أنها أقل نقاء من كوليت (1873-1954). كانت مجروحة، قالتها صراحة. خطأ. سخرت قلة من الأدباء من ذوي هذه المقدرة في هذه الوضعية، التي نتناولها علي محمل الجد، لأننا سلطنا الضوء عليها كثيرا، كساحر يطرح خفايا المهنة. هذا ليس وليام فوكنر (التي تشبهه ذ”النخيل البري” كان من الممكن أن تكون كاتبته)، ترومان كابوت (التي تشبهه أكثر مما نتصور ذ “عن الدم البارد” الذي يعد كتابا عن الطموح الدوراسي) أو فلاديمير نابوكوف، التي لا تشبهه أبدا، والتي أثارت الكثير من الحماقات مثله.
لم تكن دوراس علي “الموضة”. نتاجها مر إلي هوة السقوط والربح عبر شطط ما بعد مايو 68 وقد مثلت موضوع المحاضرات الجامعية المنظمة من قبل الأوفياء، مثل البروفيسور كلود بورجولان، أو الباحثة كاترين رودجرس.
دوراس ككاتبة استثنائية
رحلت مارجريت دوراس في الثالث من مارس 1996، وهي في الثانية والثمانين من عمرها. لا نقرأها، نضحك. نتكلم، ونهز الرأس بهدوء، عن عصرها الأول، خلال الخمسينيات، أي في عصر “سد قبالة المحيط الباسيفيكي” أو “أحصنة تاركينيا الصغيرة”. الحياة اللذيذة والمستعمرات. أي وقتما كانت مارجريت دوراس كاتبة جادة. كأن، باستدعاء بيكاسو، ننقذ كارثة مرحلته الزرقاء. نسينا أننا قمنا، في عام 1955، بتثمين نزعته الغارقة في الذاتية وعدم اللياقة… نتحدث بشئ من الحسرة وباهتمام عن نصوص العصر الثاني، عصر “نشوة لول ف.شتاين” و”نائب القنصل”. مارجريت دوراس دوما كاتبة جادة، قارئة رائعة لراسين وبروست ومدام دو لافايت وفرجينيا وولف وروبيرت موزيل. عقل مطلق. وقحة دائما ومزعجة. تخاف من الندم، من الخضوع. وبالتالي سيكون المطهر سيئا للغاية لها. كتبت روايات، سيناريوهات، مسرحيات، خلال أكثر من نصف قرن، بدءا من عام 1943، تاريخ صدور أولي رواياتها “المتهورون”، التي تراها سيئة والتي أعجب بها كينو ( 1903-1976 ). بدأت تكتب حتي وفاتها. “نحيا كتابة”، هو شعار الأمريكية آني ديلار، وقد أرادت أن تبدع شعارها الخاص، مازجة الأنواع، الشفهي والمكتوب، الفعل والتعليق، النزعة الصحافية، المسرح والسينما. عرفت النجاح في الخمسين من عمرها مع “نشوة لول ف.شتاين”، ورسامة في عام 1984، لما بلغت السبعين من عمرها، مع “العاشق”، وفوزها بجائزة جونكور التي أطلقت عدوانية مثيرة للدهشة. عناد وجلد دوراس، قوتها في العمل مذهلة. انتقدنا ورثتها الافتراضيين. لقد لاحظنا الأثر الحقيقي، العميق، الذي خلفته لدي فناني اليوم، الذين يبحثون عن ايجاد جملة جديدة، كلمات سليمة لكي يتم أسر الانتظار، الطفولة المغدورة، العزلة الكئيبة، وهذا لقول المتعة المستعادة، الحرية الانسانية، الألم. هو ذا روح العصيان.
لا يوجد زمن دوراس، لا يوجد مقاربة للسنوات الفيتنامية، لسنوات الحرب والسبعينيات: “وجدت نفسي، هكذا كتبت بخصوص “العاشق”، أكتب عن طفولتي، عن سنوات مثل هذه السنوات، أكتب عن حياتي كلها، كافة السنوات الممتزجة”. وبقراءة “الألم”، هذا الكتاب الرائع ، يتضح -بكيميائية خالصة- غضبها العاجز أمام الظلم التي مارسته أمها، قبالة عدم تمايز وظائف السجل العقاري. نفكر في ماري لوجران، الأولي من جميع النساء التي تسخر من نتاجها والتي حملت أسماء جذابة: أوريليا شتاينر، آن-ماري ستريتر، فيرا باكستر، ناتالي جرانجر، لول ف. شتاين. أنها هنا، تحت أسطر مدام كاتس، حيث الفتاة حاضرة، والتي ترد علي كل كلمة بكلمة “ملاءاتها نظيفة، مرتقة ومكوية. وسعت معطفها الأسود، وأضافت إليه جيوبا. وضعت كل شئ في صندوق كبير مع حبات النفتالين، أضافت قطعا حديدية الي حذائها. أعتقد أنني لم أنس شيئا”. “مدام كاتس تتحدي الإله”، هكذا كتبت دوراس، والصمت يطبق بعد هذه الجملة علي التركيب الخاص. هذه الضخامة تكدر الأدب، الذي تبحث عنه دوراس بلا كلل، وهو يثير قشعريرتها، بهذا الجمال المتعذر تسميته. اللا منسي. هذا المذاق لتسمية العواطف يحضن حيوات الجسد كلها. المطهر، كضرورة حزينة، يحرم قراء اليوم من قوة الاعجاب الكامل.
______
*أخبار الأدب