«عابر سرير»: استلاب الداخل وتشوّه الخارج


د.ليندا عبيد*



تأتي «عابر سرير» للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي جزءاً ثالثاً لما سبقها من «ذاكرة الجسد» و»فوضى الحواس» لتمثّل الشهوة العاجزة والرغبة المتّوثبة في الغياب بعد أن تلاشت بطولات الماضي الوطنية والعاطفية تاركة ذواتاً مشوّهة لا تتجاوز الماضي ولا تتلمس الحاضر إلا من خلال الإحساس بالخيبة والاستلاب. ويتبدى ذلك من خلال عاهات جسدية ورغبات متعذرة التحقق منسجمة مع نكوصات الماضي وهزيمة الحب والوطن. فتصير الجسور بما تتشابه به معه قسنطينة-الوطن، وبما تتشابه به المرأة معها المرأة-الوطن، انعكاسات لذوات تتوثب لانتحار عاجز يتسرّب مثلما يحسّه الراوي من هذه الجسور التي تظل أداة صلب متكرّرة تنبثق من دواخل الذوات المتعبة ضمن زمنيين متعاكسين. 
يحضر الماضي المهين على دواخل الراوي ليرسم الحاضر بما فيه من مصادفات وتناقضات تبرع اللغة الشعرية الروائية بنسجها وتصويرها. ويتصدّر «خالد بن طوبال» الأحداث في الأجزاء الثلاثة؛ فهو المتعلّق بامرأة استثنائية أشبه ما تكون بوطن ضمن مفارقة جعلتها ابنة «سي طاهر» أحد رموز الثورة الجزائرية، بينما تقتل والدها نفسياً بزواجها من أحد مستغلي الحرب. يحمل «خالد» اسمها تحقيقاً لرغبة والدها حين تولد ثم يقع فريسة لحبها حين تكبر؛ فيعيش هوس رغبة جسدية تطلّ من المخيلة ضمن أصداء ثوب أسود يعرّي جزءاً من صدرها، وكأن التعري الكامل لا يليق بامرأة تحمل مدلولات الوطن بجذورها وجسورها وتاريخها. وتتضخم المرأة داخل البناء الروائي مطلّة من زاوية الرؤية المتمحورة حول الشبق والرغبة الناقصة وأطوار معاناة متراكمة تلقي بظلالها على كل الشخوص. 
«بعد ذلك سأكتشف أنها كانت آلهة الحب تحب رائحة الشواء البشري ترقص حول محرقة عشاق تعاف قرابينهم ولا تشتهي غيرهم قرباناً». 
«لكأنها قسنطينة كلما تحرّك شيء فيها، حدث اضطراب جيولوجي واهتزت الجسور من حولها، ولا يمكنها أن ترقص إلا على جثث رجالها» (عابر سرير، دار الآداب، بيروت، ط5، 2006، ص16).
تتحرك الأبعاد الروائية ضمن تقنيات سردية متنوعة يتصدّرها الزمان ببعديه: الحاضر والماضي، اعتماداً على تقنيتي المونولوج والاسترجاع وحضور الفضاء المكاني المفتوح ممثّلاً بمدينة باريس حيث تجتمع الفنون وتتلاقى الثقافات وتغيب قوانين قسنطينة-الوطن وتقاليدها فيتكّرر الماضي الذي عاشه «زيان» الرسّام التشكيلي المشابه لـ «خالد بن طوبال» الذي يعترف أنه انتقى هذا الاسم ليطابقه بتفاصيل حياته ومصيره ضمن مقاربة تجعل من الحاضر مشابهاً للماضي في هزيمته وعذاباته. ففي حين يرقد «زيان» في المستشفى فإنّ هذا المصور ينتظر مصيراً مشابهاً له في الحب والطموح والمصير؛ فباريس فضاء مكاني يحترم فن «زيان» في الرسم، وفن «خالد» بالتصوير لكنه لا يشكّل سوى مهرب من أوجاع الحب والوطن. فيلتقي الراوي «فرانسواز» التي تمثّل نموذج المرأة المومس بمحاذاة حب صارخ حقيقي يتّمثل بنموذج المرأة-الوطن فتغيب معها الشهوة الجامحة والروح، وتبقى مصادفة الجسد للجسد على سرير عابر ، مثلما يمثّل الفضاء المكاني سريراً عابراً للشخوص رغم أنّه يقدّم أكثر من الوطن، وضمن مصادفة روائية يعيش الراوي في بيت «فرانسواز» التي كانت تقيم علاقة سابقة مع «زيان». 
يحضر»خالد» إلى باريس للحصول على جائزة صورة تحمل مأساة طفل صغير دمرّ الإرهاب بيته وأهله فجلس بعينين باكيتين يراقب كلبه الميت ضمن واقع لا يكترث بالإنسان، فينتصر النقاد لمشهد الكلب المؤثر في وجدان الغربي أكثر مما قد يرشح من حزن الطفل الصغير. فالمنفى الاختياري مختلف في مفاهيمه الوجدانية، ولا يحفل بأبناء المدينة التي قست على أبنائها. 
تدور أحداث الرواية ضمن مرحلة تاريخية تعاني بها الجزائر التي عانت طويلاً من ويلات الاستعمار من دمار الإرهاب الوحشي والإبادة الجماعية لعائلات بكاملها من دون ذنب، نتيجة للعبة السياسة وبعض المختبئين تحت عباءة الدين وغيرهم من طبقة مستغلي الحرب التي كانت إفراز المرحلة ما بعد الاستقلال. 
وتتصدّر «عابر سرير» ملاحقة عاجزة للمرأة-الوطن ضمن مفارقة ما يطلّ من اسمها «حياة»، فهي جالبة للموت مثل قسنطينة. وتعدّ استثنائية في جمالها وإغوائها مما يجعل حالة الرغبة متطرفة متعذرة التحقق. تلاحق «خالد» بطيفها طيلة الرواية وحين يلتقيها ضمن مصادفات تجعل اللقاء في بيت «فرانسواز» وضمن توقيت مرض «زيان» ترتدي «حياة» فستاناً أسود تماماً كما تطل من مخيلة مفعمة وحارقة بالشهوة المتاحة. 
ويطلّ الحب حارقاً من رهافة اللغة الشعرية كما تصدر من دواخل الراوي المرتبط مع حياة-قسنطينة بتاريخ ووجدان وذاكرة، إلا أنّ اللقاء لا يشبع نهم الحواس العطشة. ويبدو بمثابة اعتذار عن عذابات الماضي وإنذاراً بعذابات جديدة قادمة من دون تحقيق للإشباع الجسدي، فالعلاقة عاجزة ومتعذرة؛ والواقع مشوّه، ولم يبرأ أحد من تشوهات الماضي.
ويأتي اللقاء في المنفى الاختياري، وفي بيت المومس المرتبطة في حياة سابقة ماضية بـ «زيان» وفي حياة حاضرة بـ «خالد» المتقمّص لحكايته وحياته ليمثّل أحدهما الآخر الصورة والانعكاس. ويجيء هذا المتنفس خلسة ملاحقاً بعيون السلطة الفاسدة ممثّلة بزوجها الذي يمثّل مرضاً أصاب الجزائر التي صارت تلاحق أبناءها الذين صنعوا تاريخها. 
تتشكّل أجواء اقتراب» خالد بن طوبال» الحامل لتشوّه ذراع مقطوعة تصوّر الماضي وخيباته مشوبة بنذر الموت، فالهاتف يرن والراوي متوجس لا يردّ خوفاً من فقدان أجواء الرغبة والشهوة المتلهّف عليها، فيفاجأ صباحاً بخبر موت «زيان» وحيداً في المستشفى فتبدأ الدواخل بالتفجرّ، ويثور الراوي عبر مونولوجات موجعة على استلاب الإنسان وما أوصلته إليه هيمنة السلطة ضمن صورة متطرفة لمأساوية المصير. إذ يبيع لوحاته التي شكّلت روحه للجمعيات الخيرية حتى لا تقع بيد مستغلي الثورة بينما يبقي ذاكرته وقدره المتمثلة بلوحة الجسور للراوي الذي يمثّل انعكاسه، ليعلقها على جدار قلبه. فيضطر ضمن سخرية لاذعة إلى بيعها إلى أحد المهتمين الفرنسيين ليستطيع التكفل بنفقات نقل جثمانه إلى الوطن الذي ألقى به إلى الخارج. فالقيمة الفنية والتاريخية تستقر لدى الغرب بينما يظل المكان-الوطن غائباً عاجزاً عن احتوائها. 
أمام هذا المصير المأساوي، تقف المرأة-الوطن لتراقب موت ضحايا عشقها فتترقبها عين الراوي العليمة بدواخلها ودواخل «زيان»، وتطلّ عاجزة عن البكاء ترتدي معطفها الفاخر الذي لا يليق بألق نهايته ومأساوية مصيره ضمن ما يمثّله من مدلولات وما تمثّله هي؛ إذ تحمل في دواخلها النقيضين، فنصفها حياة ونصفها موت؛ نصفها ابنه «سي الطاهر» ونصفها زوجة لقاتل ومستغل، نصفها أنثى، ونصفها قسنطينة، نصفها عاشقة نابضة بالشهوة، ونصفها عاجز عن العطاء. مما يجعل المصير عذاباً وموتاً، وكأن الخصب والولادة متعذرة؛ فهي لا تلد من زوجها لأن هذا الارتباط عاجز مشوّه. ولا يستطيع «خالد» أن ينجب منها؛ فالظروف بما فيها من تراجع وموت تجعل الخصب متعذّراً، «امرأة كأنها وطن لا تكلف نفسها سوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك» (ص292)، «كانت شفتاي تلعقان لثماً دم العقم المنحدّر على خدها».
يحمل السرير مدلولات عدة؛ فمن السرير بمفهومه الواسع الممثّل بوطن لفظَ أبناءه إلى الخارج يحملون عاهاتهم وتشوّهاتهم النفسية وعجزهم ورغباتهم الناقصة فظلّوا معلّقين بجسوره بفعل ذاكرة وتاريخ موجع يحملون تفاصيله فلا يستطيعون الانفصال عن أوجاعه، ومروراً بما يمثّله من شهوة عاجزة؛ فالمومس «فرانسواز» سرير، لكنه عابر يقدّم استراحة ومتنفَّساً للجسد المتعَب بينما تظل الروح منهكة. والمرأة-الوطن سرير، لكنها تمثّل رغبة متطرّفة تهمين على كلّ الرواية، ويظل الإنجاب والارتواء منها متعذّراً؛ إذ إنها تمثّل الأرض والأم والتاريخ ضمن صورة مغرية تظهر شيئاً من جسدها وتخفي جزأه الآخر، مما يجعلها سريراً للعذاب والعطش المتكرّر، بل ونذيراً من نذر الموت. وسرير المستشفى الذي يواجهه «زيان» هو سرير الوجع مرضاً وذاكرة ، لذلك فإنه يظل عاجزاً عن المساعدة، فالمرض نفسيّ تجلّى بيولوجياً، فيصير الموت اختياراً لدى «زيان» مثلما هو المنفى اختيارٌ عند الراوي غيره ممن قتلتهم قسنطينة حين منحت نفسها للذين قاموا على أنقاض الثورة فواجهت التطرف والدمار والتشوه. 
ويمثّل القبر سريراً صغيراً ضيّقاً يمنحه الوطن بعد مشاق طويلة لأبنائه الحالمين بالحرية من دون أن يحتوي أرواحهم المتعبة أو أن يمنحهم شيئاً في حياتهم؛ فالحياة سرير عابر، والقبر هو السرير الأخير الذي لا يمنح دفئاً ولا يليق بعذابات هؤلاء المضحّين الذين حملوا عاهاتهم وتضحياتهم وساماً على أكتافهم، وحملوا الفن وسيلة للكفاح والاستمرار بما يسكنهم من دون أن ينكفئوا أو يعترفوا بالهزيمة، «يا إله الأسرّة، عابرُ سريرٍ هو حيثما حل، فاهْدِه راحةَ سريره الضيّق الأخير» (ص214).
تأتي خاتمة «عابر سرير» لتشكّل نقطة العودة إلى البداية، فإن عبور «ريان» هو تحضير وتمهيد لمصير «خالد بن طوبال» الذي يشاركه الحب والوطن والسرير. تطلب «حياة» عنوانه فلا يعطيها ليقف الشخوص أمام رحمة القدر الذي يعيد رسم مصادفاته تحت وطأة عطش متّعذر الارتواء، وتحت وقع مبادئ وعواطف صار الشفاء منها مستحيلاً، وكأنما الأمكنة دائرة يتّحرك الشخوص بها بحثا عن لقاء أخير بانتظار الحصول على سرير ضيّق بارد على أرض قسنطينة ضمن لغة شعرية قادرة على الإمساك بالتفاصيل والعبث بالوجدان لتنفذ إلى الدواخل وتعريها إلا أنها تظل مثل رغبات شخوص الرواية تمس ولا تُروى. ويظل الوطن جلاداً يتواطأ مع الحب في صنع معضلة أبنائه الذي يظلون يمدون أيديهم المبتورة أملاً بأن يكون لهم سريراً دائماً لا سريراً عابراً يؤذِن بالبرد والألم.

* الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *