علي مصباح*
مدينة تأوي الخاسرين الأبديين والرابحين الذين ينشدون الخسارة
الفتاة اللطيفة طالبة تعمل ثلاثة أيام فقط هنا، من أجل تغطية نفقات الدراسة التي صرت أعرف أنها لم تعد مجانية في فيتنام الاشتراكية التي ما زالت مع ذلك تباهي بتعليق صور الزعيم هو شي منه، ومقتطعات من مقولاته ورفع راية الشيوعية بمنجلها ومطرقتها الأصفرين الحمراء في كل مكان. عندما أردت دفع الحساب والمغادرة قالت لي النادلة، وهي تظن أن الهدوء لم يرق لي في هذا المكان: لم لا تعود مساء؟ ستشهد جوا احتفاليا ساخنا إن كنت ترغب في قضاء أمسية ممتعة. شكرتها وأنا أعد بالعودة مساء. لم لا؟ قلت لنفسي، فلربما يكون الضياع الناعم في هذا المحل الصغير أفضل من مشهد أصحاب الأذرع المحززة بالأوشام والبطون الهائلة من بقايا المحاربين القدامى في الجيش الأميركي المتحلقين طوال اليوم والمساء في صخب لا يهدأ حول عدد هائل من زجاجات البيرة في حانات شارع فام نولاو والأزقة المتفرعة عنه. كما يمكن أن يكون فاصلة استراحة بعد الجلوس أمام إحدى مقاهي ذلك الشارع، حيث لن يدعك لوحدتك وغفوة تأملاتك مروّجو المخدرات الذين يتناوبون على مائدتك هامسين: ماريهوانا؟ كوكايين؟ هيروين؟ والمتسولون والمومسات المخمورات أو المسطولات وبائعات شتى الأغراض التافهة.
في القاع
– شارع فام نولا، حيث الفنادق الرخيصة والمطاعم الشعبية التي لا تستقبل غير السيّاح تقريبا: هنا يلتقي الخاسرون الأبديون من الطرفين. قدماء المحاربين الأميركيين الذين خاضوا غمار الحرب وذاقوا لهب جحيمها. حطام المعارك: نفايات بشرية، عناصر قد فقدت قيمتها الاستعمالية بعد انتهاء الوظيفة العسكرية؛ مومسات شعبيات نصف مخمورات؛ مروجو مخدرات، قوادون، باعة متجولون محملين بأغراض تافهة في أغلب الأحيان، متسولون ومتسولات من مختلف الأعمار، معاقون يستعرضون عاهاتهم، أو أذرعهم وسيقانهم المبتورة…
الساعة السادسة مساء؛ مجموعة قدماء المحاربين المتحلقين باستمرار أمام الحانة المقابلة للفندق قد كبرت الآن وقد انضمت إليهم امرأتان إضافيتان، هنا يجلس الخاسرون؛ أولئك الذين تلقوا الهزيمة وشما حارقا في وجدانهم وجراحا وكسورا وإعاقات جسدية لن يمحو آثارها الزمن. فام نولاو مأوى لجنود مهزومين يضمدون هنا جراحهم بالسلوان الأخير الذي يقترونه من زجاجات البيرة وجاك دانْيلس وبين أذرع مومسات لعل بعضهن من بنات مومسات قد ضموهن بين أذرعهن قبل حوالي ثلاثين سنة.
الشاب الذي عرض علي مرتين ماريهوانا وكوكايين يعود إليّ مرة أخرى، ينظر إليّ ويبتسم بشيء من المكر ثم يسألني إن كنت أرغب في «لايْدي»، بالرغم أنه قد رأى بكل تأكيد أن أكثر من فتاة قد عرضت علي أكثر من مرة خدماتها اللطيفة مباشرة ودون واسطة.
واحدة يبدو أنها قد مضت شوطا غير قصير على درب ال… أراها منذ يومين تعبر الشارع جيئة وذهابا، توزع على حرفاء الحانات دولارات مزيفة تضعها أمامهم على الطاولة دون أن تنبس بكلمة، بعدها تعود لتجمع دولاراتها وتنصرف صامتة.
وجه كولونيالي على بعد ما لا يزيد على كيلومتر واحد من فام نو لاو، تستعرض سايغون وجهها الكولونيالي الفاخر هناك، حيث الأوبرا وفنادق كونتيننتال وماجستيك وسوفيتال ونيو وورلد هوتيل، غير بعيد من مقر الحاكم الفرنسي سابقا. هنا يجلس رجال الأعمال من الفيتناميين والأوروبيين والأميركيين. أصحاب الصفقات الرابحة دوما، الذين يخططون لكل أنواع المعارك: قادة سياسيون كانوا يخططون للثورة والحرب على المحتل ماضيا: رجال أعمال حاليا، موظفون سامون، بيروقراطيون تأويهم المكاتب الفاخرة المكيّفة؛ إلى موائدهم يجلس أولئك الذين كانوا يسحبون خيوط الحرب من مكاتب المؤسسات المصرفية والبورصة وفي كواليس المجالس النيابية في واشنطن ونيويورك: أعداء الأمس متعاقدون جدد يبرمون الصفقات ويتقايضون لحم الخاسرين في مزارع الرز وغابات «الكاوتشوك» ومصانع النسيج وتجميد الأسماك وغلال البحر ووسق المحار.. صانعو القرار والذين يجنون الأرباح في السلم كما في الحرب من كلا الطرفين.
سوء هضم بعد حوالي ساعتين من التمشي، وما لايقل عن ساعة من البحث عن جامع سايغون الذي مررت أمامه أكثر من مرتين دون أن أنتبه إليه، أجلس لاستراحة قصيرة في مقهى Ciao Cafe، بشارع نغويان هوي غير بعيد من فندقي كونتننتال والماجستيك، وراء بناية الأوبرا والبناية المهيبة لمركز البريد الكولونيالي، أتناول عصيرا وأنظر إلى الحرفاء من حولي أمام موائدهم تحت المظلات الواقية من الشمس. أرى إلى بشرتهم الناعمة ووجوههم المشعة بآثار النعيم، ويخيل إلي أنني أجلس بين أرهاط من أكلة لحوم البشر. أتساءل: هل لحم البشر مغذٍّ ونافع إلى هذا الحدّ؟ لكن شيئا ما في ملامح هؤلاء وحركاتهم التي تفتقر إلى الكثير من التلقائية يدفع بي إلى الاعتقاد بأنهم مصابون بسوء هضم أبدي. لحوم الآدميين عصية على الهضم على ما يبدو!
حي فام نولا وداون تاون رقعتان متوازيتان في هذه المدينة: خانة للخاسرين الأبديين وأخرى للرابحين في كل الأحوال. هنا ملتقى الذين يدفعون الثمن دوما: المنذورون الأبديون للتضحية، وهناك يلتقي الذين يقطفون الثمار؛ أولئك الذين يدفعون بالآخرين إلى التضحية، يزجون بهم في جحيم الحروب وهم يشحذون في أرواحهم الساذجة جذوة حماستهم القتالية. يرددون على مسامعهم أناشيد تصدح بوطنيات مزعومة ملفقة من خطابات حماسية مثيرة ويحولونهم إلى حطب للحروب: «علف للمدافع» تسميهم بعض اللغات. حطب لكل النيران التي لن يحترق بها المدبرون والمخططون.
في شارع فام نو لاو ينفق المحاربون القدامى من الأميركيين منح معاشهم الهزيلة ويتقاسمونها مع المومسات والقوادين وباعة المخدرات وسوّاق الريكشا وأصحاب المطاعم الشعبية المتواضعة. يحتفلون معا ويعربدون ويفجرون ويقيمون حفل الحياة الشبقي بما أوتوا من وسائل وإمكانيات. صخب حفلهم المعربد أكثر حبورا على أية حال من المجالس الباردة المتكلفة للأسياد الوقورين الذين يحترقون في أجواء الحر والرطوبة الاستوائية داخل بذلاتهم السوداء وربطات الكرافات المحكمة على أعناقهم مثل حبال المشانق. هنا يلتقي الخاسرون من الطرفين حول مائدة شحيحة وعزاء متواضع يجدونه في ما يُترك لهم على أطراف المأدبة الكبرى التي يجلس إلى خوانها الرابحون. يحوّلون الفُتات بفضل قدرتهم العجيبة على حب الحياة إلى مأدبة قائمة بذاتها لهم وحدهم: بعض زجاجات من البيرة، ساعات من المتعة الجسدية يتبادلونها بمعلوم زهيد.
لا أحد من فصيلة الخاسرين يشارك رهط الرابحين خوان متعتهم المستديمة، ولا أحد من الرابحين يجلس إلى المائدة الشحيحة للخاسرين.
الضياع اللذيذ مساء تتحول «lost in Saigon» إلى مرقص. موسيقى تكنو صاخبة، دخان سجائر ينقع المكان في ما يشبه الضباب الممزوج بكوكتيل روائح العطور. سيكون عليك أن تبذل جهدا كي تفتح لك طريقا داخل الزحام لتقترب من المقصف وتطلب شرابا، وأن تتحلى بكثير من اللياقة والدبلوماسية لترد عروض المرافَقَة التي تنهال عليك من الفتيات الجميلات الكثيرات اللاتي يعج بهن البار بدء من الساعة الحادية عشرة مساء. وإن لم تخنك الدبلوماسية واللياقة، فأغلب الظن أن قدرتك على الصمود في وجه الإغراء اللذيذ هي التي ستخونك دون شك لترى قلعتك، مهما كانت محصنة بالحذر والتحفظ، تنهار بسرعة مثل بناية من التراب تطير بها عاصفة عاتية. ألم تُقبل على المكان وأنت تضمر الضياع في سايغون؟
إنها المرة الأولى التي أدخل فيها حانة lost in Saigon في مثل هذه الساعة من المساء، وكانت تلك أمسيتي الأخيرة بالمدينة قبل المغادرة باتجاه بانكوك. لن تمنحني سايغون سوى أمسية واحدة من الضياع إذن. لا أدري إن كنت أشعر بالندم لكوني قد فوتّ على نفسي خلال أيام إقامتي بالمدينة هذا الحفل الليلي الصاخب المعربد مفضلا التسكع في السوق الليلية أو الجلوس في أماكن أخرى أقل عربدة، أم أنني كنت أشعر بنوع من الظفر والنجاة بجلدي من مغريات ذلك الضياع اللذيذ.
* أديب من تونس يعيش في ألمانيا
(الاتحاد الثقافي )