*أمير العمري
تونس – رغم كل ما يمكن أن يقال عن الدورة الـ25 لمهرجان قرطاج السينمائي التي شهدت الكثير من الاضطراب في برمجة الأفلام، مع تعدد الأقسام وتكاثر الأفلام بشكل يربك أي خبير بالمهرجانات السينمائية، إلاّ أنها أتاحت الفرصة لمشاهدة عدد من الأفلام، سواء التي فاتتنا فرصة مشاهدتها من قبل، أو بعض الأفلام التي لم تستهلك كثيرا في عروض المهرجانات العربية الأخرى.
كان من أكثر الأفلام التي شهدت إقبالا جماهيريا وتفاعلا إيجابيا من جانب جمهور تونس، الفيلم المصري “فتاة المصنع” للمخرج محمد خان، الذي كتبت له السيناريو وسام سليمان، وهو يصوّر فتاة من الطبقة العاملة تسعى إلى الحب في مجتمع يرفض أصلا فكرة العلاقات العاطفية قبل الزواج.
وهي فكرة جيدة وإن سبق طرحها من قبل، غير أن ما قلل من قيمتها كثيرا أن السيناريو يجنح بها إلى أقصى ما يمكن أن ينتج عن “الميلودراما” التي تكثر فيها المبالغات في المـــواقف والأحداث والأداء التمثيلي، وهي مبــالغات دراميـة عنيفة تقوم على “سوء فهم”.
فهناك اتهام يلحق بالفتاة من جانب زميلاتها في مصنع النسيج، خلاصته أنها فرطت في بكارتها مع الشاب الذي تحبه، بل وحملت منه أيضا، وهنا تنقلب الدنيا فوق رأسها ولا ينقذها من القتل إلاّ صلابة أمها في مواجهة شقيقها.
أما ما جعل الفيلم يأتي على صورة جيدة من الناحية السينمائية، فهو يرجع إلى ما يتمتع به مخرجه محمد خان من خبرة وقدرات حرفية عالية، مكنته من إضافة الكثير إلى السيناريو العتيق، وجعلت الفيلم يحفل بالكثير من اللحظات المضيئة، خاصة وقد عرف كيف يضفي الطابع الواقعي على لقطاته ومشاهده التي يصوّرها في أماكنها الطبيعية، محررا الكاميرا من قيود التصوير الداخلي أو بين جنبات الأستوديو، كما اعتاد أن يفعل في معظم أفلامه.
ياسمين رئيس أدّت دور “هيام” فتاة المصنع، الواقعة بين إلحاح مشاعرها ورغباتها الطبيعية، وبين التقاليد الموروثة وثقيلة الوطأة للأهل والمحيط الذي تعيش فيه. لكنها تتمكن من التغلب على أزمتها في نهاية الفيلم، وتعلو فوق جراحها ولو على صعيد رمزي، عندما نراها في المشهد الأخير وهي ترقص رقصة تدل أنها استعادت ثقتها بنفسها مجددا.
وفي المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة شاهدنا فيلم “قبل تساقط الثلوج” للمخرج العراقي-الكردي هشام زمان، الذي يقيم ويعمل في النرويج، لكنه يظل مرتبطا -ثقافيا- بالمجتمع الذي نشأ فيه وجاء منه، والدليل على ذلك موضوع فيلمه هذا الذي يبدأ في كردستان ويمتدّ إلى أن يصل من خلال أسلوب “فيلم الطريق” إلى النرويج.
قبل تساقط الثلوج
موضوع الفيلم مشابه من حيث الفكرة العامة لموضوع فيلم “فتاة المصنع”، فهو يدور أيضا حول مفهوم الشرف والعذرية والبكارة في مجتمع شرقي تقليدي قبلي، في كردستان، يرفض الحب، أي يرفض أن تختار المرأة من تحب، بل يريد أن يفرض عليها الخضوع للتقاليد التي تحظر العلاقات التي تسبق الزواج، حتى لو كانت علاقات بريئة.
بطل الفيلم شاب في السادسة عشرة من عمره يدعى “سيار”، يموت والده عائل الأسرة فيصبح مسؤولا عن رعاية شقيقتيه وأمه، وعندما تفرّ شقيقته الكبرى “نرمين” من القرية رافضة الزواج القسري المفروض عليها، يصبح مطلوبا منه أن يعثر عليها لكي يقتلها غسلا لشرف العائلة، خصوصا بعد أن يتضح أنها فرّت مع شاب تحبه وترغب في الارتباط به.
ولكنه يفشل في الإمساك بها إلى أن تفرّ إلى الخارج، فيتعقبها لكي يقتلها بصحبة فتاة تدعى “إفين” كانت متخفية في ملابس صبي، وعن طريق المهربين وسفن التهريب يتمكن من تعقب نرمين حتى يصل إلى النرويج، لكن نزعاته الموروثة تضعف تدريجيا مع وقوعه في حب إيفين، وينتهي إلى رفض ارتكاب فعل القتل، غير أنه يلقى مصيرا تراجيديا.
الفيلم مصنوع ببراعة ودقة، ويتمتع برونق خاص، سواء في رسم الشخصيات، أو في تصوير البيئة المحيطة، متدرجا من الألوان الدافئة الحارة والجبال الخضراء والسماء الصافية في كردستان، إلى البرودة والفضاء المفتوح والثلوج التي تغطي الأفق في النرويج، وكأن التدرج في الطبيعة يصنع تدرجا موازيا في سيكولوجية الفتى “سيار”، من العنف إلى الليونة، ومن القسوة إلى الاسترخاء.
وتكمن أهمية الفيلم أيضا في كونه من الأفلام القليلة التي عالجت موضوع الهجرة غير الشرعية إلى بلدان أوروبا من خلال المهربين، وكيف يستغلون الشباب، ولكن في سياق الدراما الإنسانية، وكذلك من خلال أسلوب عقلاني هادئ يبتعد عن المباشرة والخطابية والإدانة المباشرة للطرف الأوروبي كالمعتاد.
“قبل تساقط الثلوج” من أفضل أفلام الطريق التي شاهدتها خلال السنوات الأخيرة، وهو يكشف عن قدرات مخرجه هشام زمان وحرفيته العالية ونجاحه في تحريك الممثلين وفي ضبط إيقاع فيلمه، بحيث لا تصبح هناك لقطة زائدة أو أخرى ناقصة.
ويثبت هذا الفيلم أيضا أن السينمائي من العالم العربي يمكنه أن يحقق النجاح، إذا ما أتيحت له الإمكانيات الإنتاجية الصحيحة والمناسبة، إضافة إلى العمل مع فريق من التقنيين البارعين، وهذان العنصران توفرا لمخرج هذا الفيلم الذي مثل العراق في المسابقة. وقد حصلت الممثلة العراقية سوزان إلير على جائزة أحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم وهو دور إيفين.
متسللون
ومن التسلل إلى أوروبا إلى التسلل عبر الجدار العازل نحو القدس، كما نرى في الفيلم الوثائقي الفلسطيني “متسللون” إخراج خالد جرار.
هذا فيلم محكم، يعرف مخرجه موضوعه تماما، يعرف المادة التي يصوّرها، والشخصيات التي يقابلها، ويعرف في الوقت نفسه، كيف يقتنص اللحظة في حرارتها وتلقائيتها، دون أن يستطرد كثيرا أو يسهب ويخرج بالتالي عن موضوع فيلمه.
والموضوع هو كيف يقاوم الفلسطينيون في الضفة الغربية ذلك الكابوس الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على حياتهم، كابوس التفرقة والعزل والتقسيم من خلال الجدار الفاصل الذي أصبح رمزا مجسدا لعنصرية الصهيونية وشراستها.
لكن الجميل في الفيلم أننا نرى كيف نجح هذا الجدار في أن يستخرج من الفلسطينيين شبابا ورجالا ونساء: -وليس الاكتفاء بصبّ اللعنات- بل كل طاقات المقاومة والتحدّي، تحدّي الجدار وتحدّي قوات الاحتلال بكل الوسائل، باعتلاء الجدار بمساعدة أشخاص احترفوا المساعدة على إتمام عمليات الاعتلاء والقفز من فوق الجدار، أو من خلال فتحات تمكنهم من النفاذ، بل وكيف تمكنوا أيضا من عمل ثقوب لإدخال الخبز والسلع إلى أهلهم في الجهة الأخرى من الجدار. وبالتالي نجحوا في جعل الحياة تستمرّ رغم كل المعوقات المصطنعة.
وفي أحد المشاهد التي تصل إلى مستوى اللامعقول في الفيلم، نشاهد كيف تتحدث سيدة من وراء الجدار إلى أمها المسنة على الجانب الآخر، وتتواصل معها فقط عن طريق التلامس بالأيدي بمشقة من خلال “شق”، أو فتحة عرضية نحيفة للغاية لا تسمح بأكثر من التلامس بالأيدي بين المرأتين. ولا شك أن لا معقولية المشهد الذي يعكس طبيعة الاحتلال الوحشية، هو أكثر بلاغة من ألف صورة وصورة!
فيلم “متسللون” عمل جريء يتميز بالتركيز ووضوح الرؤية وطابعه الإنساني البسيـط الذي يصل به إلى الجمهور في العالم. في الوقت نفسه لم يحمل حصول فيلم “عمر” للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد على الجائزة الكبرى للمهرجان جديدا، فقد سبق أن عرض الفيلم في الكثير من المهرجانات ونال الكثير من الجوائز والتكريمات. ولاشك أن “عمر” هو من أفضل أفلام السينما العربية، لكنه في الحقيقة محسوب على إنتاج 2013.
_____
*العرب