*ترجمة: لطفى السيد
أود أن أقول لكم بكل بساطة كم أنا سعيد لوجودي بينكم وكم أنا متأثر بالشرف الذي أوليتموني إياه بمنحي جائزة نوبل في الآداب.
إنها المرة الأولي التي ينبغي علي فيها أن ألقي خطابا أمام هذا الجمع الغفير وأشعر من ذلك ببعض التخوف. نميل إلي الاعتقاد أنه، بالنسبة للكاتب، من الطبيعي ومن السهل الانخراط في هذا التمرين، لكن الكاتب- أو علي الأقل الروائي- له علاقة صعبة، في أغلب الأحيان، بالكلام. ولو استدعينا هذا التمييز المدرسي بين الكتابي والشفاهي، فالروائي أكثر موهبة في الكتابة منه في الكلام.
الكاتب يعتاد علي الصمت وإن ود اختراق مناخ ما ووجب عليه الانصهار في حشد، يسمع الحوارات دون أن يظهر، وإن اشتبك في هذه الحوارات، يطرح دوما بعض الأسئلة الحصيفة حتي يفهم جيدا النساء والرجال الذين يحيطوبه. يتردد في كلامه بسبب اعتياده علي محو كتاباته. بكل تأكيد، بعد العديد من المحو، قد يبدو أسلوبه صافيًا. لكن عندما يتحدث لا يجد مخرجًا لتصحيح تردداته.
ثم إنني أنتمي لجيل لم يسمح للأطفال بالحديث إلا في بعض المناسبات النادرة، وإذا طلبوا تصريحا بذلك، ومع ذلك لم يسمعوهم وفي الغالب الأعم كان يقطعون حديثهم. هذا ما يفسر صعوبة تعبير البعض مننا، فتارة مترددين وتارة متسرعين جدا، وكأنهم يخشون مقاطعتهم في كل لحظة. من هنا وبلا شك جاءت الرغبة في الكتابة التي شغفت بها، مثل كثيرين آخرين، للخروج من الطفولة. تود أن يقرأك البالغون. سوف يضطرون هكذا لسماعك دون مقاطعتك وسيعرفون مرة واحدة وللأبد ما في قلبك.
الإعلان عن هذه الجائزة بدا لي غير واقعي واحترت في معرفة لماذا تم اختياري. في ذلك اليوم، أعتقد أنني لم أشعر قط علي نحو قوي جدا كم أن الروائي أعمي بإزاء أعماله الخاصة وكم أن القارئ يعلم أكثر منه عما يكتبه. الروائي لا يمكن أن يكون قارئه إلا ليصحح في مخطوطه بناء الجملة، التكرار، ومحو الفقرات الزائدة. ليس لديه سوي تمثيل مشوش وجزئي عن كتبه، كرسام منهمك في عمل لوحة فريسك علي السقف، وممد علي السقالة، يعمل علي التفاصيل من أقرب مكان ممكن أقرب، دون أن يري المجموع.
نشاط الكتابة نشاط متفرد مثير للفضول. تمرون بلحظات من الإحباط عندما تكتبون الصفحات الأولي من رواية. ينتابكم، كل يوم، إحساس بالسير في الطريق الخطأ. ومن ثم تكون الغواية كبيرة للرجوع للخلف والانخراط في طريق آخر. لكن لا ينبغي الاستسلام لهذه الغواية بل اتباع نفس الطريق. الأمر تقريبا كما تكون وراء عجلة قيادة سيارة ليلا، في الشتاء، وتسير في شبورة جليدية دونما أدني رؤية. ليس لديك اختيار، ولا تستطيع السير للخلف، وينبغي أن تستمر في التقدم محدثا نفسك بأن الطريق سيكون في نهاية المطاف أكثر استقرارًا وستنجلي الشبورة .
في المرحلة الأخيرة من الانتهاء من كتاب، يبدو لك أنك تبدأ في الانفصال عن نفسك وأنك تتنفس بالفعل هواء الحرية، كالأطفال في الدراسة عشية الإجازات الكبيرة، يكونون لاهين وصاخبين ولا يستمعون لمعلميهم. أود أن أقول أيضا إنه في اللحظة التي تكتب فيها الفقرات الأخيرة، يشهد الكتاب بعض العدوانية في عجلته للتحرر منك. يغادرك بمجرد أن تخط الكلمة الأخيرة. انتهي الأمر، لم يعد به حاجة لك، لقد نسيك. والآن القراء هم من يكشفونه لك. تشعر في هذه اللحظة بفراغ عظيم وبأنك قد أهملت. تشعر بعدم الرضي بسبب هذه العلاقة بين الكتاب وبينك التي سرعان ما انقطعت. عدم الرضي هذا وهذه العاطفة غير المكتملة تدفعانك لكتابة الكتاب التالي لتوطد التواز، دون أن تصل له قط. كلما مرت السنون تتوالي الكتب ويتحدث القراء عن “مشروع”. لكن ينتابك شعور هو الهروب بعيدا للأمام.
نعم، القارئ يعرف أكثر عن الكتاب من مؤلفه نفسه. يحدث بين القارئ والرواية ظاهرة تشبه ظاهرة تحميض الصور، التي كنا نمارسها قبل العصر الرقمي. من لحظة تداولها في الغرفة المظلمة تصير الصورة شيئا فشيئا مرئية. كلما تقدم المرء في قراءة الرواية، تحدث نفس عملية التطور الكيميائي. لكن حتي يوجد مثل هذا الاتفاق بين المؤلف والقارئ، من الضروري ألا يجبر قط المؤلف قارئه، بالمعني الذي يقال عن مطرب يفرض صوته، ولكن يشده بشكل لا يحسه ويسمح له بهامش كاف حتي يشبعه الكتاب تدريجيا، وذلك عبر فن يشبه الوخز بالإبر، حيث يكفي أن توخز الابرة في مكان محدد حتي يشيع التدفق في كل النظام العصبي.
هذه العلاقة الحميمية والتكميلية بين الروائي وقارئه يبدو أن المرء يجد معادلها في الحقل الموسيقي. اعتقد دائما أن الكتابة قريبة من الموسيقي، لكن أقل نقاءً بكثير منها، وأحسد دائما الموسيقيين الذين يبدون لي أنهم يمارسون فنا أعلي من الرواية- والشعراء أقرب ما يكونون للموسيقيين من الروائيين. بدأت في كتابة قصائد في طفولتي، ولذلك دون شك فهمت بشكل أفضل الفكرة التأملية التي قرأتها في مكان ما:”إنه من الشعراء السيئين يخلق كتاب النثر”. وفيما يتعلق بالموسيقيين، المقصود في الغالب بالنسبة للروائي أن يجذب كل الأشخاص والمناظر، يعاين الشوارع في تقسيم موسيقي حيث يعثر المرء علي نفس المقطوعات اللحنية من كتاب لآخر، لكنه تقسيم موسيقي غير كامل. الروائيون يأسفون لعدم كونهم موسيقيين صرف، وأنهم لم يؤلفوا الـ
nocturnes لـ شوبان.
يكمن فقدان الوضوح والتراجع النقدي لروائي إزاء مجمل أعماله الخاصة في ظاهرة لاحظتها في حالتي وفي حالة كثيرين آخرين: كل كتاب جديد، في لحظة الكتابة، يمحو السابق، لدرجة أن يولد لدي انطباع أنني قد نسيته. أعتقد أنني كتبت رواياتي بشكل متواصل وراء بعضها البعض بضربات من لحظات النسيان المتعاقبة، لكن غالبا نفس الوجوه، نفس الأسماء، نفس الأماكن، نفس الجمل تعود من كتاب لآخر، مثل موتيفات مفرش كان قد تم نسجه في لحظة بين الصحو والنوم. غفوة أو بالأحري حلم يقظة. الروائي في الغالب مسرنم، كم هو مخترق بما ينبغي أن يكتب، وقد يخاف أن يسحق أثناءعبوره أحد الشوارع. لكن المرء ينسي هذه الدقة المتناهية للمسرنمين وهم يسيرون نياما علي الأسطح دون أن يسقطوا.
في البيان الذي تلي الإعلان عن جائزة نوبل هذه، استوقفت العبارة التالية، التي كانت إشارة للحرب العالمية:” أماط اللثام عن عالم الاحتلال”. أنا مثل كل اللاتي والذين ولدوا في عام1945، طفل الحرب وعلي نحو أكثر تحديدا، بما أنني ولدت في باريس، طفل يرجع ميلاده لباريس الاحتلال. الأشخاص الذين ولدوا في باريس تلك أرادوا نسيناها بأسرع ما يمكن، أو بالأحري لا يتذكرون سوي التفاصيل اليومية، أو هؤلاء الذين أوهمونا أنه بعد مجمل المعيشة كل يوم لا يجدونه يختلف كثيرا عما كانوا يعيشونه في الأوقات العادية. حلم سيء وكذلك ندم غامض بعد أن كانوا نوعا ما من الناجين. وعندما سألهم أبناؤهم فيما بعد عن هذه المرحلة وعن باريس تلك، كانت اجاباتهم مراوغة. أو بالأحري التزموا الصمت كما لو كانوا يريدون محو ذكرياتهم. هذه السنوات مظلمة ومخفاة عنا بعض الشيء. لكن أمام مرات الصمت من آبائنا، خمنا كل شيء، كما لو كنا قد عشناها.
كم كانت مدينة غريبة باريس الاحتلال هذه. في الظاهر، الحياة تتواصل “كالسابق”. المسارح، دور السينما، قاعات الميوزك هول، والمطاعم المفتوحة. كنا نسمع الأغاني في الراديو. كان هناك أيضا الكثير من الناس في المسارح ودور السينما مثل ما قبل الحرب، كما لو كانت كل هذه الأماكن مخابئ يتجمع فيها الناس وينضمون إلي بعضهم البعض ويتضامنوا. لكن كثير من التفاصيل الغريبة أوضحت أنها لم تعد.
نفسها باريس السابقة. بسبب غياب السيارات، كانت مدينة صامتة، صمت نسمع معه حفيف الأشجار، اصطفاق حوافر الخيل، ضجيج خطوات الجمع علي الجدات، صخب الأصوات. في صمت الشوارع والإظلام الذي يحدث في الشتاء حوالي الخامسة مساءا، كان ادني ضوء من النافذة ممنوعا. كانت تبدو هذه المدينة غائبة عن نفسها- مدينة “بلا عيون” كما كان يقول المحتل النازي. كان من الممكن
اختفاء الكبار والأطفال من لحظة لأخري دون أن يتركوا أي أثر، وحتي بين الأصدقاء كنا نتكلم بشكل إيحائي ولم تكن المحادثات صريحة أبدا لأننا كنا نشعر بتهديد يطير في الهواء.
في باريس هذه الحلم السييء، حيث يجازف المرء أن يصبح ضحية لوشاية أو لكبسة عند الخروج من محطة المترو، ان المقابلات خطرة وتحدث بين أشخاص يفعلونها في أوقات الطمأنينة، غراميات عابرة تولد في ظل اطفاء النور دون أن يكون المرء متأكدا من العثور عليها في الأيام المقبلة. وبالتالي تكون هذه المقابلات في الغالب بلا غد، وأحيانا يولد من هذه المقابلات السيئة أطفال فيما بعد. ولذلك كانت باريس الاحتلال بالنسبة لي دوما كليل أصيل. بدونه لم أكن لأولد قط. لم تتوقف باريس تلك عن تسلطها بضوء ملثم تنضح به كتبي أحيانا.
ها هي تجربة كاتب تميز بطريقة راسخة بتاريخ ميلاده وزمنه، حتي وإن لم يشترك مباشرة في الحدث السياسي، حتي لو أعطي انطباعًا بعزلته، منسحبا فيما نسميه” برجه العاجي”. وإن كتب قصائد، تكون صورة عصره الذي يعيشه ولا يمكن أن تكون مكتوبة في عصر آخر.
هذه هي قصيدة ييتس، الكاتب الأيرلندي العظيم، والتي دائما تؤثر علي نحو عميق قراءتها:” البجعات البرية في كول. في أحد المتنزهات يراقب ييتس البجعات وهي تنساب فوق الماء”.
ظهر البجع في كثير من أشعار القرن التاسع عشر- عند بودلير أو مالارميه. لكن قصيدة ييتس هذه لا يمكن أن تكون مكتوبة إلا في القرن التاسع عشر. بإيقاعها المتميز و سودواويتها، تنتمي للقرن التاسع عشر وأيضا للسنة التي كتبت فيها.
يحدث أيضا أنني ككاتب في القرن الحادي والعشرين أشعر، أحيانا، بأنني حبيس زمني، وأن روائيي القرن التاسع عشر العظام، بلزاك، ديكنز، تولوستوي، ديوستوفسكي، يبعثون في نفسي بعض الحنين. في ذلك العصر، كان الزمن يجري بطريقة أكثر بطئًا من اليوم، وهذا البطء يتوافق وعمل الروائي لأنه يستطيع أن يركز أكثر طاقته وانتباهه. منذ ذلك، تسارع الزمن وتقدم في شكل انتفاضات مما يفسر الفرق بين السلاسل الروائية الضخمة في الماضي، وفي فن العمارة الكاتدرائي، والأعمال غير المتصلة والمجزئة اليوم. من هذا المنظور، أنتمي لجيل وسيط وسأكون شغوفا لمعرفة كيف ستعبر الأجيال التي ولدت مع الإنترنت والتليفون المحمول والإيميل وتويتر عبر الأدب عن هذا العالم الذي “يتصل” فيه كل واحد بشكل دائم وحيث” شبكات التواصل الاجتماعي تخدش الحميمية التي كانت لا تزال ملكنا حتي وقت قريب. الحميمية التي تمنح عمقا للأشخاص ومن الممكن أن تكون موضوعا روائيا عظيما. لكني أود أن أبقي متفائلا فيما يتعلق بمستقبل الأدب وأن واثق أن كتاب المستقبل سيؤكدون علي التناوب كما فعل ذلك كل جيل منذ هوميروس.
وعلاوة علي ذلك، الكاتب مثل كل فنان آخر، ويجب أن يرتبط بعصره علي نحو وثيق ولا يهرب منه، والهواء الوحيد الذي يتنفسه هو ما يمكن أن ندعوه”هواء زمنه”. دائما ما أعبر في كتبي عن شيئ ما من الأبدية. في مسرحيات راسين أو شكسبير لا يهم أن تكون الشخصيات مرتدية ملابس عتيقة أو يجعلهم المخرج يرتدون الجينز والجواكت الجلد. هذه تفاصيل لا أهمية لها. ننسي،أثناء قراءة تولوستوي، أن آنا كارنينا ترتدي ملابس 1870، كم هي قريبة منا بعد قرن ونصف. ثم بعض الكتاب، مثل إدجار آلن بو، ملفيل، ستندال، مفهوموين علي نحو أفضل بعد مائتي عام من موتهم من هؤلاء الذين كانوا معاصريهم.
في النهاية، علي أي مسافة يقف الروائي بالضبط؟ علي هامش الحياة ليصفها، لأنك لو غرقت فيها، في الحدث، سوف يكون لديك صورة مشوشة عنها. لكن هذه المسافة الخفيفة لن تمنعه القدرة علي التماهي التي تكون له إزاء شخصياته وإزاء النساء والرجال الذين استلهمهم من الحياة الواقعية.
قال فلوبير:”مدام بوفاري هي أنا”. وتولستوي تماهي في الحال مع هذه التي راها تلقي بنفسها تحت القطار ليلا، في محطة روسيا. وموهبة التماهي هذه ذهبت بعيدا جدا لدرجة أن تولستوي انصهر مع السماء والمنظر الذي كان يصفه واسغرقه كليا، حتي أبسط حركة من جفن آنا كارنينا. هذه الحالة الثانية هي نقيض النرجسية لأنها تفترض في آن نسيانا لذاته وتركيزا عاليا جدا علي غيره، حتي يتجاوب مع أقل تفصيلة. ذلك يفترض أيضا بعض العزلة. وهي لا يعني الانكفاء علي الذات، ولكن تعني الوصول لدرجة من الانتباه والشفافية العالية اتجاه العالم الخارجي لنقله في رواية.
________
* أخبار الأدب.