*خليل قنديل
كلما تقدم بنا العمر نحاول ألا نقف تلك الوقفة التي تقودنا نحو الأسئلة الجارحة المتعلقة بتضاريس العمر وتعرجاته التي توسم الروح بالأسئلة الخادشة لتدفقنا العمري. نعم، نحاول تحاشي ذاك السؤال كلما انبرت لنا فكرة وأخذت تتعالى كالطنين في رؤوسنا إن كانت الكتابة أيضاً، وكلما تقدمنا بالعمر تقدمت هي الأخرى وأعياها الزمن بالتجاعيد وتداعيات الهرم، وصار سؤالها مُلحاً.
وذاكرة الإبداع المنهوبة بالإقبال على الحياة ونهب تصاريفها مازالت تقدر على أن تلتفت للخلف، ومطالعة تلك الرحلة، ومازالت قادرة على أن تستجمع قواها التذكرية لتعيدنا إلى شتاء العلاقات الأولى مع الكتابة، حيث البرودة التي كانت تلفح الروح وتستدعي ذاك الدفء المختبئ في المعاني والكلمات لتعيد تسخينه من جديد ولتمنحه تلك الحياة المشتهاة.
ومازالت الكتابة قادرة على استجماع مشهدها الأول حينما كانت تقبل علينا مهزوزة ومرتبكة وهي تمد لنا يدها الصغيرة المرتعشة والمتعرقة بحب الحياة، وكيف كانت تلقي برأسها الحبري في أحضاننا وتتلوى خجلاً كعاشقة هربت للتو من سطوة العائلة طالبة حماية الحبيب.
لكن ما العمل حين يتقدم بنا العمر وتزحف التجاعيد إلى ملامحنا تاركة الكتابة تنهب من بئر الذاكرة وهي تقاتل كي لا تنطلي عليها فكرة تفاوت الأعمار وشغب الفروقات؟
في الذاكرة الإنسانية استطاع بعض المبدعين القبض على جمر العمر حتى آخر لحظة، والاحتيال على هجمة العمر بالكتابة الضاجة بالحيوية، ونستطيع في هذا المقام تذكر الكاتب الفرنسي، جان بول سارتر، الذي تعمقت تجلياته الفكرية والفلسفية في أواخر عمره، كما نستطيع تذكر الكاتب الأيرلندي، برنارد شو، الذي ظل في عافية السخرية وتجاوز السائد حتى مات في عمره التسعيني. مثلما يمكن استحضار روح مبدع السرد الروائي العربي نجيب محفوظ، الذي تصادف ذكرى ولادته هذه الأيام، وقدرته على المحافظة على أناقته العمرية على رغم حصار أمراض كثيرة. ومن يقرأ رواية «لوليتا» يستطيع أن يلمس الحسرة العمرية عند بطل الرواية المُسن الذي عشق طفلة في سن أحفاده. وتذكر شيطنات نجيب محفوظ الذي أنكب في أواخر سنوات عمره على كتابة أحلامه وتحبيرها بلغة إبداعية.
ولعل الهرم الكتابي هو بالفعل من ألد أعداء فكرة الزمن والهرم عند المبدع عموماً، فالمبدع الذي يظل يقاتل كي لا يقع فريسة الخرف والجنون بسبب شفافيته المبالغ فيها، يظل يحتطب في مساحات بعيدة عن هذا الختل كي لا يقع فريسة لتداعياته. لكن مع ذلك تظل الذاكرة الكتابية حافلة بالشواهد المرعبة في هذا المجال، فمن يستطيع نسيان نيتشه الذي ما أن رأى الحوذي يضرب حصان العربة بالسوط حتى انهار وأخذ يعانق الحصان ويقبله وهو يبكي ربما. أو نسيان نجيب سرور، ومن يستطيع نسيان بعض العمالقة الذين آثروا، عندما هاجمهم الهرم، العودة إلى الغابة والجزر النائية والعودة إلى أمنا الطبيعة كي يُشيد حياته المعافاة من جديد.
إن المخيال العدواني الذي ظل يغافل المبدعين ويسوقهم نحو الجنون أو الانتحار، صار في زمن تشابك فيه كل شيء بحاجة فعلية إلى الاقتحام ومشاجرته بالوعي واقتياده نحو المسارب المنطقية؛ فإذا كان المبدع وهو يعيش تحت وطأة كوابيس هذا الوعي، فالأجدر بنا السعي لإنقاذه من كل تلك الهرطقات التي أكلت رأسه.
والصحيح أنه صار لزاماً على المبدع العربي، وقبل أن يقع الفأس بالرأس، أن يدخل في رحلة البوح التي سيكون لها وحدها العلاج السحري للاغتسال من كل هذه الأدران النفسية التي تعرقل انطلاق الكتابة وتطعنها في عافيتها.
______
* الإمارات اليوم