كاتبُ مصادفات


*كمال الرياحي


استقرَّت نوبل للآداب، هذا العام، على الروائي الفرنسي باتريك موديانو ، وأجّلت الالتفات إلى مشاهير الرواية الأميركية، مثل بول أوستر، الذي ما يزال ينتظر فرصة للإمساك بالشّرف الأدبي العالمي الأغلى.
فيما يلي مقاربة لعوالم وأعمال صاحب «رجل في الظلام». 
يُعَدّ بول أوستر (1947 – …) أحد أهمّ نجوم الرواية الغربيّة في القرن العشرين. ثمّة أسباب جوهريّة تجعل من أوستر كاتباً مهمّاً، هي الأسباب نفسها التي تجعل من صموئيل بيكيت، وشيروود أندرسون، وكوتزي وهمينغواي، وفوكنر، وفيليب روث، وغيرهم كتّاباً مهمّين: الرؤية المقلوبة للعالَم بصورته الثابتة أمام العَين، الأحداث الضاربة في عبثيّتها تأكيداً لواقعيّتها، الخيال الذي يسبحُ في بحيرة الواقع. أوستر لا يبتعدُ كثيراً عن الواقع، وهو بذلك كاتب ما بعد حداثيّ في كَونه قادراً على محاورة العالَم والإنسان والواقع بالتخييل. 
تخرَّجَ أوستر في جامعة كولمبيا حيثُ تتلمذَ هناك على يد المفكّر العربي إدوارد سعيد، ثمّ اختار أن يشتغل مهناً بعيدة كل البعد عن تخصُّصه، فالتحَقَ بالعمل على ناقلة بترول. وصل إلى باريس هرباً من كآبة الولايات المتحدة بعد حرب الفيتنام. هناك، عمِلَ أوستر الشّاب حارساً لأحد المنازل، ثم انتقل للعمل بالترجمة من أجل الخبز وحده. كان يترجم كتباً متوسِّطة القيمة وغير هامّة أحياناً. وفي الوقت نفسه كان يترجم بعض أعمال السرياليين، وقد مثّلَ ذلك جزءاً من تكوينه الأدبي.
لعلّ صور الكاتب طفلاً وصوره شاباً ثم بالغاً، في مقاطع من سيرته المحوّرة أو المعجونة بسيَر البشر الآخرين الّذين التقى بهم على مرّ السنوات، كلّها تجذب القارىء إلى عوالمه الروائيّة وإلى سرده الحميميّ. فالقارىء يعرفُ مسبقاً أنّ ثمّة نميمة أدبيّة يخترق القارىء عبرها شيئاً من حياة الراوي-الكاتب. وهو بذلك يؤسِّس لميثاق بينه وبين القارىء يتّفق، عبره، الاثنان على كتابة الرواية، وعلى قراءتها. 
كتب بول أستر الشعر، في البداية، وكذلك بعض النثر، وكعادة الشعراء الخائنين للشعر، مرّ بمرحلة جفاف كليّ لم يكتب فيها شيئاً ليعود إلى الكتابة متحوّلاً إلى الرواية، فكتب في البداية رواية التحرّيات ؛ وهو جنس متفرِّع من الرواية البوليسية، كتبها من أجل المال، ونشَرَها باسم مستعار، ثم كتَبَ رواية رفضتها أكثر من أربعين دار نشر حتى استقرَّت في دار فرنسية صغيرة لتكون انطلاقته من هناك. 
يقول بول أوستر متحدّثاً عن ضرورة القصص:
إننا بحاجة إلى القصص بقدر حاجتنا إلى الطعام والهواء والماء والنوم. لأن القصص هي نغمات متنافرة مدوّية وصاخبة. روافد من ملايين الانطباعات المتدفِّقة علينا كل لحظة، وفصل أو عزل منمنمات وشظايا ذلك الطوفان أو الغزو، والقدرة على إعادة صهرها وترتيبها معاً ثم ربطها في دوران الزمن، هو ما تفعله القصص». 
النقّاد احتاروا في تصنيف أعماله الروائية، فقد جاءت مزيجاً من روايات التحرّي البوليسية والروايات الوجودية مستفيدة من التراث الروائي العالمي الأوروبي ومن كلاسيكيات النثر العالمي، وفي الوقت نفسه هي منغمسة في الراهن السياسي العالمي، وتُقارِب متونه، وتطرح أسئلته. 
يعتمد أوستر على وقوع الصّدفة في الأحداث. هذه الصّدفة هي ما يحرّك البَشر وواقعهم، ولعلّ هذه الفكرة المتجذّرة في أغلب ما كتب، تحتاج إلى دقّة في التعبير السّرديّ وإلى تمارين تأمّليّة تستغرق أشهراً وسنوات. فالكاتب يقول في أحد تصريحاته إنه يفكِّر في العمل الأدبي لمدّة سنوات، حتى تصبح الشخصيات جزءاً من حياته وهواجسه ولا وعيه، فلا تعود تفارقه عندما يشرع في كتابتها على الورق.
في كتابه «الدفتر الأحمر» (1992) يرسم أوستر لوحات قصصية غاية في الرشاقة السردية، قصصاً يتراوح طولها بين صفحة وأربع صفحات، ويحقّق منجزاً أدبياً في عدّة مستويات؛ إذ نراه يوغل في أحداث واقعيّة حدثت للكاتب مع محيطه الذي يتّخذ منه موضوعات لكتابه: كيف احترقت- صدفةً- فطيرة بصل في لحظات جوع حرجة، وكيف أدت الصّدفة البحتة القائمة على الخطأ الى تأليف روايته، وكيف ضيّعت الصّدفة القدرية على الطفل بول فرصة أخذ توقيع من بطله المحبوب بسبب قلم رصاص. حكايات كثيرة يعجّ بها هذا الكتاب الصّغير، تتمازج بفعل الصّدفة والواقع، أو واقعيّة المصادفة، التي ارتكزت عليها كتابة أوستر على مدار أكثر من ثلاثة عقود.
«وُلِدت أول رواية كتبتها بفعل خطأ في رقم. في إحدى الظهيرات؛ فبينما أنا جالس لوحدي إلى الطاولة في شقَّتي في بروكلين أحاول أن أعمل، رنّ جرس الهاتف، إن لم أكن مخطئاً كان ذلك في ربيع العام 1980 (…) رفعت السماعة، وإذا بأحدهم في الطرف الآخر يسأل إذا ما كان قد وصل إلى وكالة فينكرتون. قلت: لا، خطأ في الرقم، وقطعت المكالمة. ثم عدت إلى عملي وسرعان ما نسيت أمر المكالمة.
في ظهيرة اليوم التالي رنَّ جرس الهاتف من جديد. تبيَّن أنه الشخص نفسه، وأعاد سؤال اليوم السابق نفسه: «هل وصلت إلى وكالة فينكرتون؟» قلت: لا، مجدَّداً، وقطعت المكالمة، لكني هذه المرة بدأت أفكِّر: ماذا كان سيحدث لو أجبت بالإيجاب؟.انتظرت أن يرنّ الهاتف من جديد، لكن المكالمة الثالثة لم تأتِ.
عندما شرعت بكتابة «مدينة الزجاج»، تحوَّل خطأ الرقم إلى الحدث الحاسم للكتاب، خطأ حرَّك القصّة بكاملها. شخص باسم «كوين» يتلقّى اتّصالاً من شخص يطلب محادثة بول أوستر، المحقِّق الخصوصي. بالضبط كما فعلت أنا، يقول كوين للمُتَّصل إنه أخطأ في الرقم. يحدث الأمر نفسه في المساء التالي، ويقطع كوين المكالمة من جديد. لكن كوين، خلافاً عني، يحظى بفرصة أخرى. عندما يرنّ الهاتف في المساء الثالث، يندمج مع المُتَّصل، ويجازف. نعم، يقول: أنا بول أوستر. وفي تلك اللحظة تبدأ المغامرة.».
ومن طقوس أوستر أنه يكتب بقلم الرصاص، ثم ينقل، آخر النهار، ما يكتبه إلى الآلة الكاتبة العجوز رافضاً استعمال الكمبيوتر. مازال يعيش فوبيا فقدان ما قد يكتبه على الكمبيوتر: رجل نيويورك يخشى التكنولوجيا ومنتجات الحداثة!.
لقلم الرصاص معه قصّة ذَكَرها في «الدفتر الأحمر»: في طفولته كان يعشق البايسبول، ويحبّ لاعباً شهيراً آنذاك، وفجأة اعترضه في الشارع، فلم يصدِّق الطفل بول أوستر، فهُرِع إليه يريد أوتوغرافاً، طلب منه اللاعب قلماً فلم يعثر في جيبه على أي شيء يكتب به، تركه اللاعب ومضى، فظلّ الطفل يبكي على الحظّ التعس. من يومها يحمل بول أوستر في جيبه قلم رصاص، وقلم حبر، ويقول «إن فسد قلم الحبر فسيكون قلم الرصاص موجوداً حتى لا أضيِّع على نفسي فرصة أخرى».
أوستر أديب من طراز رفيع، يمارسُ طقوسه في الكتاب بثبات وروتينيّة. ولعلّ هذه الروتينيّة، وهذا الاستقرار في الحياة في مثل هذه السّن، هما ما جعلا منه اليوم كاتباً عميقاً وغزيراً وجريئاً ومتنوّعاً، متعدّد الرؤى، يكتبُ من زوايا مختلفة تعكسُ نظراته المتعدِّدة إلى العالَم وإلى المحيط.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *