إنريكي بيلا- ماتاس: مهنة الأدب خطيرة


*ترجمة وتقديم – خالد الريسوني

ولد إنريكي بيلا – ماتاس في برشلونة سنة 1948، درس الحقوق والصحافة، وفي سنة 1968 اشتغل محرِّراً في مجلة «فوتوغراماس» ومجلة «ديستينو»، وفي سنة 1970 قام بإخراج فيلمين قصيرين: «كل الشبان الحزانى» و«نهاية الصيف»، بالإضافة إلى ذلك اشتغل ممثِّلاً في سبعة أفلام كتالونية مُنِعت جميعها من طرف الرقابة الفرنكوية، وفي عام 1971 استُدعي للتجنيد الإجباري، وفي المخزن الخلفي للمطعم العسكري كتب أولى رواياته: «امرأة في المرآة تتأمل المشهد»، والتي ستستعيد عنوانها الأصلي في طبعة 2001 وهو «في مكان أعزل». بعد العودة إلى برشلونة عمل ناقداً سينيمائياً في مجلَّتَيْ «بوكاشيو» و«ديستينو»، وفي سنة 1974 اختار أن يعيش المنفى الذاتي في باريس لأعوام، حيث أقام في غرفة على السطح أَكْرَته إياها الكاتبة الفرنسية مارغاريت دوراس، وهنالك سيكتب روايته الثانية «القاتلة المتنوِّرة»، وسينشر كتابيه الثالث والرابع «جنوب الجفنين»، «حكاية تعلّم كاتب» والمجموعة القصصية «لا أذهب قَطّ إلى السينما» تباعاً سنَتَيْ 1980و 1982، وسينهي إنريكي بيلا- ماتاس مرحلة البداية برواية: «احتيال»، لتبدأ مرحلة النضج وتكريسه كاتباً متميِّزاً فرض نفسه في المشهد الأدبي في إسبانيا وفي أميركا اللاتينية مع كتّاب آخرين، ربطته بهم صداقة متينة، هم: روبيرتو بولانيو، وسيرخيو بيتول، وخوان بيُّورُو، وريكاردو بيغليا. ومنذ الثمانينات من القرن الماضي أصبح إنريكي بيلا- ماتاس من الكتّاب الدائمين لملحق مجلة «دياريو 16»، وواصل النشر في مجلة «الماغازين ليتيرير» الفرنسية ما بين سبتمبر 2004 ومارس 2008، وكتابة عموده «قهوة بيريك» في القسم الثقافي من يومية «الباييس». واعترافاً بأعماله الكبرى في مجال المزج بين عالمَي البحث والتخيُّل من قبيل: «التاريخ الموجز للأدب المحمول» 1985، «وبيت إلى الأبد»، 1986، و«انتحارات مثالية» 1991، و«أبناء بلا أبناء» 1993، وفي مجال الرواية أعمال من قبيل: «بعيداً عن بيراكروث» 1995، و«شكل حياة غريب» 1997، و«سفر عمودي» 2000.. وعلى الخصوص «الدبلينية» 2010، «وأجواء ديلان» 2012.
نال إنريكي بيلا- ماتاس العديد من الجوائز الأدبية: «جائزة ميديثيس» 2003، «رومولو غاييغو» 2001، جائزة «هيرالدي» 2002، الجائزة الوطنية للنقد 2002، جائزة «مدينة برشلونة» 2001، جائزة دائرة نقّاد الشيلي 2003، الجائزة الدولية «إنيو فلايانو» 2006، وجائزة مؤسَّسة «خوسيه مانويل لارا» 2006، وجائزة الأكاديمية الملكية الإسبانية 2006، وقائمة طويلة من الجوائز العالمية الأخرى، آخرها جائزة «فورمينتور للآداب» 2014، التي سُجِّلَ، على قائمة الفائزين بها، كتّابٌ كبارٌ مثل: خورخي لويس بورخيس، وخورخي سيمبرون، وصمويل بيكيت، وخابيير مارياس، وخوان غويتيسولو، وكارلوس فوينتس.
لتقريب عالم إنريكي بيلا- ماتاس من قرّاء العربية نقدّم هذا الحوار العميق الذي يفتح أفقنا نحو تفاصيل مسار طويل من المكابدة مع الكتابة والأدب، ويجعل منهما رسالة إنسانية ومهنة خطيرة في زمننا الراهن.
——————-

§ الكتاب الأول الذي كتبته «امرأة في المرآة تتأمَّل المشهد» (1973) لكن «القاتلة المتنوِّرة» (1977) كانت أولى رواياتك التي حظيت بشهرة. يقول روبيرتو بولانيو إن هذا الكتاب مع كتاب خابيير مارياس «نطاقات الذئب» يؤرّخان لبدايات الجيل الذي ينتمي هو الآخر إليه. ما رأيك في هذه الفكرة الجيلية؟ تحدث لنا عن ذلك الكتاب الذي لا يبرز كثيراً للعيان.
– الكتاب الأول كتبته في المخزن الخلفي للمطعم العسكري بمليلية. أنا كنت أريد أن أكرِّس حياتي للسينما، وكنت -للتوّ قد انتهيت من إخراج فيلمين قصيرين قدّمتهما في بعض المهرجانات. كتبت شيئاً كي استطيع -بكل بساطة- أن أحسّ أني أنمّي نشاطاً فنياً، فضلاً عن إمساكي بالبندقية خلال الأيام كلّها. عدت إلى برشلونة صحبة «امرأة في المرآة تتأمّل المشهد»، الكتاب الذي كان عنوانه الأصلي «في مكان منعزل» وهو العنوان الذي سيؤثِّر، قليلاً، في العمل اللاحق. والواقع أني أتموضع في مكان منعزل من السردية الإسبانية. لمّا عدت إلى برشلونة، اكتشفتْ بياتريس دي موورا (التي كانت تشرف منذ ثلاث سنوات على دار النشر توسكيتس، وكانت حينئذ دار نشر صغيرة، وقرّاؤها قليلون) أني كتبت مؤلّفاً، فطلبت مني أن تقرأه، سلَّمته لها فقرَّرت، نشره تحت عنوان مغاير للعنوان الأصلي «في مكان منعزل»، ولم أكن قد كتبت الكتاب وأنا أفكِّر أنه سينشر، كتبته فقط لكي أواصل الحياة على امتداد سنة، كان يجب عليّ أن أمضيها مجنَّداً في إفريقيا. لكني، بعد شهور قليلة من عودتي من إفريقيا، حين ذهبت للعيش في باريس – صرت أعتقد أني قد أصبحت كاتباً بالفعل. ففي نهاية المطاف، سبق لي أن نشرت كتابي الأول. وهناك كتبت «القاتلة المتنوِّرة» الذي جعلته في عملي «باريس التي أبداً لا تنتهي» كتابي الأول… وبخصوص بولانيو، أنا أتفق تماماً مع ما يقوله. وعن خابيير مارياس كان مهمّاً جدّاً أن ألتقي بكتابه الثاني «معبر الأفق»، فقراءتي له حفَّزتني على الكتابة لأنها فتحت لي آفاقاً شاسعة، والأمر نفسه بالنسبة لكتابه اللاحق «ملك الزمان» الذي يقدّم على أساس أنه رواية، والذي يتضمَّن بحثاً جديراً بالإشادة، وهو البحث المعنون بـ«شذرة ولغز وحظّ رهيب».
§ في «مستكشفو الهوّة» (2007)، تَمَّ الحديث كثيراً عن إرادة الاستغناء عن الميتا أدبية للاقتراب من اليومي. من المؤكَّد أن العديد من القصص تبدو أنها تحيل على حالات آنية – بشخصيات مرَّت بعملية ما – لكن، أيضاً، ثمة إعادة كتابة لبعض قصص «لا أذهب قطّ إلى السينما» 1982. هل حاولت أن تنجز لعبة مرجعية ذاتية جديدة، أم أنك كنت تنشد الميل نحو رؤية أكثر واقعية؟
– ثمة لعبة أدبية خاصّة تقودني إلى «لا أذهب قَطّ إلى السينما» من خلال إعادة الإمساك ببدايات قصة ما، للتمعُّن في كيفية تنميتها وتطويرها الآن. في الكتاب، هناك لعبة منحرفة أتظاهر فيها أني أستغني عن الميتا أدبية، أو -ببساطة- عن الأدب بمعناه الصارم جدّاً، فأضع، في بداية الكتاب قصّة لأناس عاديين في الأوتوبيس في قصّة «التواضع»؛ وذلك لكي أخدع القارئ الذي -بهذه الطريقة- يعتقد أنه، حقاً، قد حدث تغيُّر ما. وهكذا أحقِّق لنفسي أن يلج القارئ الكتاب، وهو على ثقة أنه سيعثر فيه على شيء بسيط، فيمضي قارئاً للحكايات، ويكاد -دون أن يشعر بذلك- أن ينتهي إلى ولوج شعريتي الحقيقية، وهو شيء يمكن أن يخلص -بطريقة لا متوقّعة- إلى شَدِّهِ بقوَّة.

§ مفهوم الكتابة حاضر في «لأنها لم تطلب ذلك» التي تواصل فكرة لعبة النصوص داخل النصوص.
– يقولون إنها أفضل قصص هذا الكتاب، عدا أنها المرة الأولى التي يتمّ فيها -حقاً- اللعب بالخيال والواقع، والمزج بينهما بشكل يمكن أن أقول عنه إنه قوي، لدرجة يفرض معه واقع الخيال نفسه، وهو خيال وفيٌّ بشكل مطلق لأحداث واقعية يمكنها أن تبدو محتملة، فقط، إذا حكيتها بالطريقة التي أقوم بها في تلك القصة: بتقديمها على أساس أنها مبتدعة. إن كان ثمة شخص لم يقرأ قَطّ ما أكتبه، ويريد أن يعرف كيف أكتب، فإن أفضل ما يمكن أن يقوم به هو أن يقترب من نص «لأنها لم تطلب ذلك» الذي أعتقد أنه النصّ الأكثر تمثيلاً لكل أعمالي.


§ إعادة كتابة «لا أذهب قَطّ إلى السينما» يبدو أنها تقرِّبنا من فكرة الكتابة المتغيِّرة، التي ليست -قَطّ- نهائية إلا في حاضرها. وهذا يحيلنا على الفكرة الخوانرامونية (نسبة إلى الشاعر الإسباني خوان رامون رخيمينث) عن المراجعة المستمرّة، التي -كما قلت- حاضرة في «أذى مونتانو» (2002). لماذا تجد في إعادة الكتابة فعلاً جدّ مشوّق؟
– أرغب في إعادة كتابة «احتيال»، وهي رواية ذات تيمة كبرى، ذات حبكة هامّة خصوصاً، يمكنني الآن أن أطوِّرها بشكل أفضل، لكني لن أفعل ذلك لأنني أفضِّل أن ألج حكايات وأفكاراً جديدة. إعادة الكتابة تغوي لأنه -وكما نعلم جميعاً- إذا كان ثمة شيء لا نهائي حقاً فهو الأدب؛ إذ إن المرء يتوخّى، دوماً، تحقيق الكمال في كل ما يكتب، وينتهي إلى عدم تحقيق ذلك حينما يكون على وعي بأنه إن لم يفعل ذلك فلن ينتهي أبداً، لن ينتهي أبداً.

§ بالعودة إلى الأوتوبيوغرافي، فالكتاب الذي نجد فيه حضوراً أكبر لتيمة الأوتوبيوغرافي هو «باريس التي أبداً لا تنتهي»(2003) الذي، فضلاً عن كونه احتفاءً بهمنغواي، فقد حدّدته على أنه محاكاة ساخرة لرواية التعلّم. إلى أي حَدّ حاولت أن تحقِّق من خلالها هذه الغايات؟
– لقد كان السارد، من الناحية الجسدية، رجلاً مماثلاً لهمنغواي في المخطوطة الأولى التي سلّمتها إلى هيرالدي الذي قال لي: «ثمة شيء لم يكتمل، لا أستطيع أن أومن بأن من يتحدَّث هو مماثل لهمنغواي، أَصْلِحِ الأمر.». حينئذ عدت إلى البيت وأصلحت ما استطعتُ إصلاحه، أصلحته بطريقة غريبة الأطوار شيئاً ما، وقد بقيت في ذاكرة العديد من قرّائي، وبعضهم بلغ حَدّ الاعتقاد بأن الأمر يتعلَّق بنوع من العبقرية الخاصّة بي. والواقع أن ماغيَّرته قمت به مضطراً بسبب هذه الملابسات، لكن الأمر نفذ إلى ذاكرة العديد من القرّاء القريبين مني على أساس الاعتقاد الراسخ بأني، دوماً، كنت أومن بأني أشبه همنغواي، ولا أحد من محيطي الأكثر حميمية كان مستعدّاً ليقول لي -بالفعل-إني من الناحية الجسدية كنت مشابهاً له، طبعاً كانت تلك الدراما، حقيقةً، شيئاً كنت أعيشه يومياً. لأنني اليوم -بالفعل- مقتنع، حقيقة، بأني مماثل لهمنغواي. وفعلاً، ففي السنة القادمة سأتقدَّم للمسابقة الرسمية لأشباه همنغواي في كاي ويست، ومن المؤكَّد أنهم -على الأقل- سيقبلون ترشُّحي.
§ نعتقد أن مفهوم الهوية الزائفة يوجد ضمن أسس الأدب الذي تكتبه: على مستوى الموضوع. وعلى مستوى حركة تثبيت وجه الممثِّل دانييل إيملفورك لفليبي تونغوي من مونتانو، أو في التناصّ الذي يتوخّى محو خطوط مرجعيّته لكي يحقِّق صوتاً جديداً. هل ثمة بيلا- ماتاس آخر حقيقي خلف كل ذلك؟
– انتهيت، للتوّ، من كتابة محاضرة تشتمل على فصل بعنوان «التناصّ والميتا أدبية»، أشرح فيه هذه الطريقة في العمل. يتعلَّق الأمر بأن يكون المرء متعدِّداً، وأن يبني شخصيته على أساس أن «يكون كل الناس» مثل جون فانسينت مون، تلك الشخصيته البورخيسية. أظن أن ذلك سيحدث مع كتاب «ذكريات مبتدعة» (1994) حينما بدأت هذه الممارسة بتملُّك ذكريات الآخرين لبناء صوتي الخاصّ من خلال إجراء تحويرات وتعديلات عليها. 
§ وبخصوص طريقة المحاضرة كاستراتيجية سردية، نجدها في أعمال كويتزي المتأخِّرة، كيف كان اكتشافك للكاتب الجنوب إفريقي؟ وإلى أي حَدّ تستفيد منه وتحاكيه؟
– كانت قراءة كويتزي متمنِّعة عليّ حتى بلغت «العار» فتركتني منبهراً، وإن كنت أعترف بأنها من روائع الأعمال الأدبية، ولقد هَمَّتني -مع ذلك، بشكل أكبر- رواية «الشباب»؛ إذ لها بعض الحضور في المعالجة النقد ذاتية التي أمنحها لشخصيتي الروائية في«باريس لا تنتهي أبداً». ويهمّني أيضاً كويتزي اللاحق الذي مضى يشتغل دون أن يتأثّر بالحدث التافه لجائزة نوبل، لربَّما هو الكاتب الحيّ الممارس الأفضل، ومن بين أبحاثه الأخرى الكثيرة يجب قراءة مقاله المُعْجَب بأعمال و.ج سيبالد، هنالك حيث ينبغي فهم بعض الأشياء، فكويتزي يهمّه -مثلاً- الشكل الذي عرف كيف يبتدعه سيبالد بعد استنفاذ الأشكال الثيربانتيسية من خلال مخطوطه الذي عثر عليه في طليطلة، أو شكل (دي فو) مع روبنسون كروزوي، الشخصية التي ما يزال -حتى يومنا هذا- العديد يعتقدون أنه أحدَثَ -حقاً- تجديداً تقنياً، وَصْفَة جديدة لترجيح المحكي، عودة إلى النفي الضمني للسلطة المتخيّلة تتحقّق بطريقة محكمة: إن تخيّله مزيج من حكايات الرحلات والمذكّرات والبحوث والصور الفوتوغرافية واليوميات، وأنا أفكِّر في البحث السردي المعنون بـ«إليزابيث كوستيلو»، أقول إنني ألتقي مع كويتزي (أتمنّى -على الأقل- أن يتيحوا لي الحق في الالتقاء معه) في توظيف جنس المحاضرة في الروايات. وإن كنت سأقول -إذا ما استنفدوني- أني قد أمضيت وقتاً أطول- منذ أذى مونتانو- وأنا أشتغل على هذا الجانب. ما يدهشني أنه لا أحد في إسبانيا يتّهم كويتزي بالميتا أدبية، بينما كل التأصيليين يلومونني على ذلك، ربّما لأنني من هنا (أو يظنّون أنني من هنا).

§ الآن، وأنت تقول ذلك، في بدايات «بيلا- ماتاس المحمول» (2007) شرحت أن هيرالد اقترح عليك أن تُعَنْوِن كتبك الثلاثة: بارتليبي، مونتانو، وباسابينتو بـ«الكاتدرائية الميتا أدبية».
– لم يقترح عليّ، بل عَنْوَن تلك الثلاثية هكذا دون إعلان مسبق في ندوة صحافية. وقد قيل ذلك بالنظرة الأحادية التي يمتلكها هيرالد بالنسبة للجميع، وهو ما يجعل مؤلِّفيه الأكثر ذكاءً يوا صلون الاعتقاد بأنهم آلهة، لكنهم يتذكَّرون -أيضاً- أن كل شيء نسبي.

§ مجموعاتك القصيصية تُفتتح بمحكيّ استهلالي يمنح المجموعة وحدة تيمية. في«أبناء بلا أبناء» (1993) ثمّة تعارض ما بين المجال الاجتماعي والمجال الأدبي والحميمي، هل تعطي الأولوية للثاني على الأول؟
– إنها من الأشياء التي -مع مرور الزمن- لا ينبغي لي أن أغيِّرها، لأني مازلت أفكِّر فيها بالطريقة ذاتها. ما كنت أتوخّاه في «أبناء بلا أبناء» هو أن أضع -على الأقل، في نفس المستوى- العالم العمومي والحياة الشخصية لكل واحد. حين أتحدَّث، دوماً، عن هذا، أتذكَّر ما كان يقوله إيفان كليما: «أمعنوا النظر إلى أن كافكا، الذي كان يتحدث -فقط- عن العلاقات مع أبيه، قد مُنِع من طرف الدولة التشيكية الشيوعية.»، وذلك يبيِّن لنا أن ما هو خصوصي، أحياناً (التحدُّث عن الأب الذي تعتقد السلطة وبمبرّر أنك تتحدّث عنها) يمكن أن يكون سياسياً أكثر خطورة ممن يضع رواية ذات التزام اجتماعي كبير، وهو يعتقد أنه سيغيِّر العالم.
§ باتّباع هذه المعارضات التاريخية، تنطلق رواية «احتيال» (1984) من حدث واقعي، لكن، بالاستناد إلى صيغة روائية أنجزها ليوناردو شاشا، ومع ذلك فسياق برشلونة ما بعد الحرب المتشنِّجة يطفو في الخلفية.
– ولذلك قلت -من قبل- إنه كتاب كنت سأمنحه الآن معالجة مختلفة. كمدخل، كان سيهمّني أكثر أن أطوِّر شخصية الكاتب المتسكِّع الذي يجدونه يقوم بسرقة القبور، والذي -فيما بعد- سيصير كاتباً آخر، لكنه موجود في قواميس الأدب الإيطالي كما لو أنه مؤلِّف واحد، بينما هما مؤلِّفان اثنان كتبا كتباً مختلفة. أردت أن أحكي تلك الحكاية، لكني انحرفت نحو حكاية شخصية برناولا، شخصيتي الفالسرية الأولى (نسبة إلى الكاتب السويسري روبرت فالسر)، رجل يكتشف أنه يعجبه أن يكون مساعداً، وكنت -للتوّ- قد انتهيت من قراءة روايته «جاكوب فون غونتين». التي ستصير كتابي المفضَّل خلال سنوات عديدة، وأعتقد أن ذلك قد استطاع أن يؤثر في بشكل كبير، لأنني -فعلاً- كنت أشعر بذاتي مفتوناً بفكرة دخول مدرسة قصدَ تعلُّم أن أكون فيَّ الخدمة، وعلى الخصوص أن أتعلَّم كيف أكون في الحياة (روح الدعابة اللاإرادية عند فالسر جدّ مسلّية وجريئة) صفراً مطلقاً على اليسار.
§ حدِّثْنا قليلاً عن صورة الكاتب كجاسوس في «شكل حياة غريب» (1997). هل هناك لقاء مع بيغليا في هذا الصدد؟
– في هذا الكتاب ليس هناك تأثير لبيغليا لأنني -حسب ما أعرف- لم أكن، بعد، قد بدأت قراءتي لأعماله. لقد كان موجّهي «السيدة دالواي» لفيرجينيا وولف، ما دامت حكاية لأربع وعشرين ساعة من حياة امرأة، ويجب أن أشير -أيضاً- إلى أني قد اتّخذت ذلك الكتاب دليلاً لي دون أن أكون قد قرأته، فقط كنت أتخيل ما الذي يمكن أن تكون قد فعلته وولف في تلك الرواية. أردت أن أنجز يوماً لكاتب يتجسّس، لأنه يبدو لي أن التجسُّس مهنة شبيهة بمهنة الأدب؛ ففكرة كتابة حكاية كاتب يمتلك تقاليد عائلية في التجسُّس، انبثقت من غلاف العدد الأول من مجلة «لا تيرال» الذي ضَمَّ ملفّاً عن التجسُّس والأدب، عثرت على عنوان الكتاب في مطار لشبونة، في غلاف قرص لأماليا رودريغيس حيث تبدو جدّ شابة وفاتنة. التوافق بين جمال المغنّية وملاحة العنوان كان حاسماً. كل الكُتّاب الجدّيين، الكُتّاب الحقيقيين يحيَوْن شكلاً غريباً من الحياة. 

§ «بعيداً عن بيراكروث» 1995 كتاب يفتتح ما يسمّى الثلاثية الواقعية، ويبدو أنه يمتلك تأثيراً قوياً من بيسوا، وإن كانت أيضاً تبدو لنا فيه أصداء لكتاب «أمي» لألبيرت كوهن (البناء المتفرِّد وأحد الشواهد).
– أجل، لكنه لا يمكن أبداً أن يكون واقعياً، على الأقلّ لو أنك سألت عن ذلك في المكسيك فسيقولون لك إنه ليس كذلك، لأنه صورة عن مكسيك مبتدع تماماً. أما ما يتعلَّق ببيسوا فلا يبدو لي واضحاً. لقد انبثق هذا الكتاب بعد أن حكى لي خوسيه أغستين غويتيسولو في الإسكوريال – بشكل مكثَّف، وفي فضاء زمني موجز من ثلاث دقائق، ودون أن أطلب منه ذلك- حكاية الإخوة غويتيسولو الثلاث. فعل ذلك بشكل غير متوقَّع، ودون أن تكون لديَّ معرفة مسبقة به على الإطلاق، وقد ذكّرتني حكايته -كثيراً- بحكاية الإخوة بانيرو، فأنا كنت صديقاً حميماً لميشي الأخ الأصغر، وكان دوماً يحكي لي المأساة العائلية. فكرة الكتاب وُلِدت هناك، مما كان يحكيه خوسيه أغسطين غويتيسولو، وكما ربطته بحكاية آل بانيرو، والصوت السارد هو بديل من ميشي نفسه، الذي كان يرفض أن يكون كاتباً في أسرة، كل رجالها (الأب والعم والأخ الأكبر والأخ الأوسط) يكتبون. كان ميشي يقول لي إن ما يرغب فيه هو أن ينسى الشعر، وأن يتزوَّج من مليونيرة. ومع ذلك، فقد لاحقته لعنة الأدب لأنه كان يكتب بشكل جيّد جدّاً.
أما بخصوص كوهن فأنتم تتركونني مندهشاً. في البناء، من المؤكَّد أنه ليس هنالك أيّ تأثير، ولكي أقول الحقيقية، فكوهن لا يعني لي شيئاً، لم أهتمّ به قَطّ، فرواية «جميلة الإله» أهديتها لشحّاذ في فُورْنِيلْس بمينورقة، وكان هذا خلال ذلك الصيف الذي كان فيه كل العالم يقرأ كوهن، وكنت أنا أتساءل إذا ما كان من الأفضل أن ينشغلوا بقراءة آدا نابوكوف مثلاً.
§ احكِ لنا قليلاً عن تلك العلاقة مع بيتول.
– النصّ الذي سيكتبه بيتول، حين كنت قد حصلت على جائزة رومولو غاييغوس، يوجد في كتاب «بيلا- ماتاس المحمول»، وأنا أعترف أنه نصّ يحرِّك مشاعري، وهو الذي يعجبني أكثر في كل ما كُتِبَ عني. إنه يفسِّر ما تتضمّنه أعمالي: سفر بلا عودة ممكنة، سواء أكان حقيقة أم لم يكن، ويبدو لي أن ذلك لا يمكن أن يكون سوى حقيقة، وإن كان ليس ثمة أمر مؤكّد، ولا عودة ممكنة إلى تأويلات أخرى، وبالتحديد، ما يقوله هناك سيرخيو عني هو التالي: «منذ بدايات أعماله وضع لنفسه -بشكل متكرِّر- مشهد نزول، سقوطاً، سَفَر المرء إلى أعماق ذاته، رحلة قصيرة نحو نهاية الليل، الرفض المطلق للعودة إلى إيتاكا، وباختصار شديد: الرغبة في السفر دونما عودة».
§ عند كتابتك لـ«انتحارات مثالية (1991)، أكّدت أن صياغة الكتاب قد أنقذتك من الانتحار بالرهان هكذا على قدرة الأدب المُخَلِّصَة. وفي كتاب «السفر العمودي» (2000) يبدو أن هذا الرهان قد تَمَّ إلغاؤه. ماذا كانت غايتك في هذا الصدد؟
– لقد كان لديّ دوماً إحساس بأن هذا البلد بلد جدّ بعيد عن الثقافة، مثلما نفتقد إلى تقاليد ديموقراطية متينة. إن إحساسي مرتاح جداً لو كنت، من مكان آخر أكثر ثقافة. الفرنكوية قضت على الثقافة. «السفر العمودي» يعكس ذلك في هذه الصورة التي تمتلك شيئاً يماثل صورة أبي نفسه الذي -وإن كان رجلاً ذكياً جداً- إلا أنه لم يجد منفذاً لولوج الثقافة بسبب الحرب، وهذا سَحَبَه خلفه كعبء خلال زمن طويل. 
§ كنا قد تحدَّثنا من قبل عن الميتا أدبية، وهي لصيقة لا تعجبك. هل هي حاضرة في«القاتلة المتنوِّرة»إلا أنها تتّخذ دور البطولة كاملاً في «التاريخ الموجز للأدب المحمول» 1985؟ كيف ترى رهان هذا الكتاب اليوم بعد التغييرات الحالية التي خضعت لها أعمالك؟ وما هو -حسب اعتقادك- التجديد الذي حَوَلّه إلى مَعْلَمة، إلى عمل كلاسيكي حديث؟
– لم يكن كذلك في البداية، فقد نُشِر الكتاب سنة 1985 وبيعت منه ألف نسخة، وعدّه نقّاد تلك المرحلة عملاً عابثاً، وسمّوه عملاً خفيفاً. بعد انصرام عشر سنوات أو خمس عشرة سنة يتحوّل الكتاب إلى ما تقوله. نعود إلى ما قلناه بصدد أن إسبانيا رهيبة قليلاً، لأن الكتاب كان متقدِّماً على المرحلة التي صدر فيها. لقد تحوَّل إلى عمل كلاسيكي بفضل القرّاء الشباب، وعلى الخصوص بفضل شيء يتحدّث عنه بيتول في النص الذي كنت قد علَّقت عليه سابقاً: « يجعل الكاتب الشاب ينظر إلى إمكانيات الحرّية المطلقة التي يمتلكها الأدب، ويحرِّض على الكتابة. أظن أنه كتاب فتح طرقاً أمام الأجيال اللاحقة. أنا لم أمارس، قَطّ، ما يمكن أن نسمّيه الخيال الجذري مثلما في هذا الكتاب، وبشكل جدّ مكثَّف». أجل، هكذا وجّه إليه التحية خوان بيورو من المكسيك.
§ بالفعل، يمكن فهم كتاب «التاريخ الموجز للأدب المحمول» بوصفه بناءً خاصاً لك كآخِر طليعي حَيّ، في كوكبة من الطليعيين الذين ماتوا، وخصوصاً الفرنسيين، لكن -أيضاً- من أميركا اللاتينية، يمكن القول إن وضعيتك ستكون ما بعد جيلية بين الموتى، ما رأيك في هذا التأويل؟
– بالطبع إذا كان المرء يتحرَّك في «مكان معزول» يمكن أن يحدث كل شيء، بما في ذلك أن يتحرَّك مثل «آلة متوحِّدة» منعزلة عن الأحياء كما عن الأموات. لكن، ما كان يجتذبني، في تاريخي الموجز، هو- بالدرجة الأولى- إمكانية اشتغالي -بعمق- على سرد مؤامرة. كانت تستهويني الدسائس، وفي درجة ثانية فكرة ما عن قطيعة طليعية مع المشهد الرصاصي و«الصلب» للسرد الإسباني لتلك المرحلة، (هنالك -بالفعل- كان العديد من الموتى، حتى ولو كانوا أحياء) وفي العمق القناعة بأنه خلف كل مؤامرة توجد فكرة ثورية. 
§ في «بارتليبي وشركاؤه» (2001) نجد أن مورد المرجعية لم يعد يشتغل كأداة تكميلية، بل كمادة خام جديدة ينبثق عنها المحكي.أتعتقد أنه سيكون من الأفضل الحديث، فقط، عن الحكي والإلغاء الكلّي لِلَصيقة الميتا أدبية؟
– «بارتليبي» ليس ميتا أدب، بل هو محكيُّ صنفٍ بائس من الشخصية التي لا ترتبط بعلاقات مع أحد، والتي تجمع -فقط- بارتليبيين. يمكن أن تقرأ مثل رواية من روايات بيكيت حيث يوجد رجل يكاد لا يخرج من البيت. فيها القليل جداً من الميتا أدبيّ، إن هذا نوع من القالب الجاهز الإعلامي الذي كان يتعقَّبني ومازال، والمشكل ليس في أن يكون ميتا أدب أم لا، ولكن هذا المفهوم يستعمل ضدّي هنا بدلالة احتقارية. وبالتحديد في بلد الكيخوتي، (حيث وُلد التفكير في العلاقة بين الحياة والأدب)، بالإضافة إلى ذلك لا يتحدَّث -فحسب- عن كُتّاب توقّفوا عن الكتابة، بل- وكما لاحظ ذلك بولانيو بذكاء- يتحدّث عن أناس يحيون، ثم توقّفوا عن الوجود.

§ في «بيت إلى الأبد» (1988) تفكِّر أيضاً في الأدب موظِّفاً مورد الحديث الباطني للإحالة على الكاتب، الذي تؤكِّد أنه لا ينبغي أن يكون له صوت واحد يمكن التعرَّف إليه، بل يجب أن يمضي مغيِّراً له باستمرار. هل تظن أنك طبَّقت هذا المبدأ في إنتاجاتك؟
– لقد طبَّقته فعلاً، يكفي ملاحظة الخيط الذي يقطعه بارتليبي، ومونتانو، وباسابينتو. لقد كان الدكتور باسابينتو -في الواقع- نهاية مسار لثلاث محطّات (بارتليبي، مونتانو، وباسابينتو) الذي يلخِّص التطوُّر التاريخي لأدب الأنا، والذي يمكن أن يعلن عن نفسه كالتالي: ليس بعد مونتيني بكثير بدأنا نبحث عن ذواتنا»، بدأ يتنامى انعدام ثقة بطيء لكنه متزايد في إمكانيات اللغة «بارتليبي وشركاؤه» والخوف من أن ذلك سيجرّنا إلى مناطق ذات ارتباك عميق. 
في بدايات القرن الماضي كان هوفمانشتال قد أعلن التخلّي عن الكتابة في رسالة متخيّلة باسم اللورد شاندوس، ستسبق الكتابة دون كوابح (أذى مونتانو)، لكن -أيضاً- ستسبق حالات جلاء وتبصُّر كبرى مثل حالة فيرناندو بيسوا الذي أدرك، مبكراً، أن المادة الكلامية لا يمكن لها أن تكون مادة شفّافة بالكامل، ووعيه بهذا جعله يتجزّأ هو ذاته إلى سلسلة من الشخصيات الأنداد (الدكتور باسابينتو): إنها استراتيجية كاملة للتمكُّن من التوافق مع استحالة إثبات نفسه كذات متوحِّدة، ومندمجة ومكتملة، لها صوتها الخاص، باسابينتو -كما تعلمون- يتحلَّل إلى أصوات عديدة. أحدها ذلك الذي جمعنا في المجموعة القصصية المعنونة بـ«مستكشفو الهوّة» والصوت الآخر ذلك الذي يكتب كتابي الجديد.
§ مهمّة هي الفكرة التي تقدّمها عن رواية «بيت إلى الأبد»، والتي تقرّ بأنك لا تتطلَّع إلى الادّعاء الكلّي والجامع للقرن التاسع عشر، والقاضي باحتواء حياة بكاملها، بل بالتجزيء، متجاوزاً الأنموذج المختصّ بالقرن التاسع عشر. ما هي في اعتقادك إمكانات الرواية؟ وما الطرق التي تهمّك؟
– لقد انتهيت من الكتابة عن ستّ مقترحات ترجع إلى قراءتي لرواية «بحر سرت» لجولين غراك، إنها شكل من المقترحات (على طريقة إيتالو كالفينو) لأجل الألفية القادمة، وإن كان ذلك دون البحث -من جانبي- عن أي دوغمائية. إن كنت أذكر جيداً فالمقترحات هي: التناصّ، اللقاء بالشعر الراقي والمتسامي، الكتابة مثل ساعة تُسابِق الزمن، انتصار الأسلوب على الحبكة، الوعي بالمشهد الأخلاقي المتداعي والتجريبية. أقول هذا كما لو كنت أعرف كيف ستكون رواية المستقبل، والحقيقة أني لو كنت أعرف كيف ستكون لحاولت أن أكتبها أنا طبعاً.
_______
*مجلة الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *