بعبارة أخرى: الحب الباقي والحب العابر


*د. حسن مدن


يقول شاعر أجنبي: «ما لم تستطع جميع النساء أن تعطيه لك، امرأة واحدة تستطيعه».
والى هذا البيت الشعري عاد الكاتب الانجليزي كولن ويلسون محاولا تحليل مضمونه. برأي ويلسون فإن الشاعر لم يكن يقدم في هذا البيت موعظة في الولاء والإخلاص، وإنما كان ينطلق من تجربة شخصية.
الشاعر واسمه لورانس ابن عامل في مناجم الفحم في نوتنجام، وأحد أفراد أسرة كبيرة. كان طفلاً مريضاً وحين أصبح مدرساً ساءت صحته أكثر، ثم قابل امرأة هي فريدا ويلكس ابنة بارون ألماني، شكلت نقطة حاسمة في حياته. يقال إن هذه المرأة كانت جميلة جداً وجذابة جداً، لكن لم يكن هذا السبب الوحيد الذي جعل هذه المرأة تغير مجرى حياة الرجل وتجعله أكثر بهجة، بل إن ثمة أسبابا أعمق وراء ذلك.
كان ويلسون معنيا بالمعنى الحقيقي وراء كلمات الشاعر: «ما لم تستطع إعطاءه كل النساء، فإن امرأة واحدة تستطيعه»، ملاحظا أن لورانس يعني أن مائة امرأة يمكنهن إعطاء الرجل شيئا ما، لكن ذلك الشيء الوحيد لا يغير الرجل، ولا يرفعه إلى مستوى جديد من الإيمان بنفسه، كما فعلت «فريدا ويلكس» معه، مما يجعله يدرك أن السبب الحقيقي لشعوره هذا ليس ناجما عن العلاقة الحميمة، وإنما ناجم عن أشياء أخرى كثيرة، يصعب أحيانا وصفها والإمساك بها، إنها تعاش فقط ولا توصف ولا تحدد. في شعر نزار قباني إلحاح على هذه الفكرة، فكرة المرأة الاستثنائية التي تفعل في الرجل ما لا تفعله الأخريات: «اشهد أن لا امرأة…..إلا أنت».
لعل المعنى الكامن في العبارة التي تتحدث عن قدرة امرأة بعينها على أن تغير الرجل، أو أن تغير فيه شيئا، وأن تحدث في شخصيته نقلة، فلا يعود هو نفسه الشخص الذي كان قبل أن يلتقيها، فتصبح نظرته للحياة أوسع وأكثر رحابة وتماسكا وحيوية، ربما لأن هذه المرأة تمسك في ذات هذا الرجل بالمناطق الحساسة، في روحه وفي عاطفته وميوله، وقد لا تكون هذه المرأة هي بالضرورة أحسن النساء ولكنها أنسبهن.
ولكي لا يسأل أحد: وماذا عن الرجل؟ ولماذا الحديث فقط عن المرأة التي تعطي الرجل ما لا تستطيع الأخريات أن يعطينه إياه، ولماذا لا نتحدث عن الرجل الذي يستطيع أن يمنح المرأة ما لا يستطيع جميع الرجال أن يفعلوه. نسارع إلى القول إن ما يقال عن المرأة ينطبق تماما على الرجل.
ثمة رجل بين الرجال الكثر هو الأكثر مقدرة على أن يعطي المرأة ما هي في حاجة إليه، أو بتعبير أدق هو القادر على إحداث تلك النقلة في حياة المرأة، بمعنى أن يجعل منها شخصا آخر: أكثر رهافة وحساسية تجاه الحياة وأكثر نضجا وثقة في النفس.
أسوأ ما في الحياة هو أن يعيشها الناس كاملة من دون أن يعثروا، رجالا كانوا أو نساء، على القرين الذي يحدث لهم هذه النقلة، الذي يغير حياتهم أو يغير فيها شيئا، القرين الذي يعطي ما يعجز الآخرون من الرجال عن إعطائه للمرأة، والكثيرات من النساء عن إعطائه للرجل، وأجمل ما في الحياة أن تقودنا الأقدار إلى هذا القرين.
لكن ماذا عن ذلك الحب الخاطف، الذي يصادفنا على أحد مفارق الحياة، يأتي سريعاً ويذهب سريعاً، قبل أن نفيق من المس الذي أصابنا منه.
قرأت مرة حكاية امرأة كانت في مكتبةٍ تشتري كتبا حين لمحها رجل كان هناك أو مرَّ من هناك. وعلى سبيل الملاطفة لا غير أهداها قرنفلة. كانت القرنفلة في يده على سبيل المصادفة، لم يكن قد تعمد أن يأخذها معه إلى المكتبة ليهديها المرأة، في الأصل هو لم يكن يعلم أنه سيقابل هناك امرأة. لعله قطف القرنفلة من حديقة منزله وهو يغادره، أو تكون القرنفلة قد أغرته وهو يمر بالحديقة العامة فقطفها، ولأنه رجل لطيف ومهذب وجميل الروح فإن قرر على سبيل الأدب أو التحية أو حسن التصرف أن يتحف بها المرأة التي لمحها في المكتبة. لقد قدر أنها ستكون ممتنةً له، ستكون سعيدة لتلك اللفتة اللطيفة.
الرجل من حيث لم يرد، على الأرجح، زرع القرنفلة في قلب المرأة، وعلى الرغم من أنها بعد أيام ذبلت في المزهرية التي حرصت هي على أن تضعها فيها، لكن ذلك لم يقتلع من روحها ذلك الشعور العذب الذي بات يعتريها كلما تذكرت ذلك الرجل صاحب القرنفلة الذي أهداها إياها، وقال بضع كلمات لطيفة واختفى.
ما حكاية أولئك الناس الذين يدهشوننا من حيث لا يريدون. تكفي إيماءة منهم أو نظرة، ولكنها تشغل أذهاننا بالأسئلة وتحرك في دواخلنا هواجس وأفكار وحتى مشاعر، تكفي طريقةً في القول أو طريقةً في التصرف، كتلك التي قام عبرها الرجل بإهداء المرأة القرنفلة، لأن يصيبونا بشيء من المس، ويفعلوا كل ذلك غير آبهين بنا، ولا بالأثر الذي سيتركه ما يفعلون في نفوسنا.
يذهب الواحد من هؤلاء لحال سبيله، وقد لا نلتقيه مرة أخرى، ولا نعرف عنه شيئاً، ولا ندري كيف أتى ولا إلى أين ذهب، لكننا ننشغل بأمره، ولا نعرف لذلك سبباً، كيف نتعلق بشخص مجهول أو شخص رأيناه مرةً، فأسرنا ثم غاب في الزحام، ما الذي نعرفه عنه، نحن الذين بالكاد لمحناه أو جالسناه لبرهة، ثم مضى كلانا لحال سبيله، هو إلى مألوف حياته ونحن إلى مألوف حياتنا.
هل انتابكم هذا الإحساس مرة أو مرات، فأجهدتم أنفسكم في التفكير العميق عن سر المس الذي يصيبنا به هؤلاء، ممن يقولون كلمتهم ويمشون، ثم ينامون ملء جفونهم وننشغل نحن بإطفاء ما أشعلوه في نفوسنا.. فلا نفعل سوى زيادته اشتعالاً، دون أن نمسك بتفسير لما جرى؟
تحكي رواية «أربع وعشرين ساعة من عمر امرأة» قصة حب تبدأ وتنتهي في أربع وعشرين ساعة فقط. حالة من الانخطاف الجنوني، العاصف من قبل امرأة بشاب، سرعان ما يتبدد تبدداً درامياً فيما توشك الساعات الأربع والعشرين على النهاية، لتكتشف أن من وما تعلقت به كان أقرب إلى الوهم.
الرواية من تأليف ستيفان زفايج الذي ولد في فيينا عام 1891، ومات منتحراً في البرازيل التي أبحر إليها بعد طول تنقل قبل شهور فقط من عام رحيله 1942، والترجمة إلى العربية وضعتها فاطمة نظامي، وصدرت عام 2002 في دمشق بسوريا، وتعالج الرواية حكاية أرملة كانت قد قررت أن تعيش بعد وفاة زوجها المبكرة في صمت وعزلة، خاصة وأن أبناءها كبروا ولم يعودوا في حاجة إليها. لكن الأقدار الغامضة أوقعتها في حالة انشداد طارئ مجنون بشاب شاهدته في أحد الكازينوهات، وأخذت به من أول نظرة من دون أن تستطيع فكاكاً من تعلقها المفاجئ به وسط دهشتها واستغرابها من نفسها، حين أدركت أنها فقد السيطرة تماماً على عقلها وروحها، وبتعبيرها، فإنها لم تعد تلاحظ شيئاً في القاعة. كل شيء يبدو لها كامداً، باهتاً، كل شيء كان يزهر بدا لها قاتماً بالمقارنة مع الاتقاد المنبثق من ذلك الوجه. «لو أن أحداً كان يراقبني في تلك اللحظة، تقول المرأة، لاضطر إلى أن يحسب تشبث نظرتي الفولاذية المحدقة على أنها تنويم مغناطيسي، لأن حالة خمول ذهني كان فعلاً بمثابة نوع من التنويم المغناطيسي. لم أكن أستطيع أن أكف عن مشاهدة تبدل الملامح ذك، وكل ما كان من اختلاط الأضواء والضحكات والكائنات الإنسانية والنظرات. لكم أكن أسمع شيئاً، لم أكن أحس بشيء. لم أكن أرى الناس المحيطين بي».
هذه الرواية القصيرة التي لا تقع في أكثر من مائة وبضع صفحات ولا تُلخص ولا توجز، لأن أحداثها على درجة عالية من التكثف والتركيز، بحيث إنها تحبس أنفاسنا ونحن نتابعها التي لا تبدو كثيرة ولكنها حاسمة، لنشهد ذلك الانقلاب الدرامي في الحدث من صعوده نحو جنون الحب، ثم ذلك السقوط المروع لقوة المثال الذي أسر المرأة.
من الصعب القول إنها رواية عن الحب، إنها بالأحرى رواية عن التركيب المعقد المزدوج للمشاعر الإنسانية التي هي عبارة عن قارة من المتناقضات. وعلى الرغم من كل شيء، فإن للزمن وللحياة قدرة كبيرة على إخماد المشاعر بطريقة عجيبة، حين يشعر الإنسان أن ظله يسقط محترقاً على الدروب، تبدو الأشياء أقل حيوية، إذ لا تعود تؤثر في قوى الكائن العميقة، وتفقده كثيراً من قدرتها الخطيرة.
أجمل تعريف سمعته للحب هو ذاك الوارد في فيلم «ماندولين الكابتن كارولي». يقول الطبيب الشيخ والد الفتاة لابنته العاشقة: «يبدأ الحب بعاصفة. لكن الحب الحقيقي هو ما يتبقى بعد انتهاء العاصفة».
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *