أدب الجهل بـ “الأدب”


*محمد إسماعيل زاهر


هل قرأت لنجيب محفوظ؟ سؤال مستفز إذا طرحه أحدهم على أي قارىء أو مثقف، ولكنه السؤال نفسه الذي طرحته الناقدة الدكتورة شيرين أبو النجا على ثمانية وعشرين طالباً في امتحان شفوي مخصص للمتقدمين للحصول على درجة الماجستير في الآداب من إحدى الكليات المصرية، ولم تحصل إلا على رد واحد بالإيجاب، تعلق برواية واحدة أيضاً “أولاد حارتنا”، واختزن الإيجاب السلب هنا حيث رفض الطالب الرواية لأمور ترتبط بفتاوى كفرت الرواية وصاحبها، أما ماذا يقرأ طلاب ماجستير الأدب من “الأدب”؟، فروايات أحمد مراد صاحب “الفيل الأزرق” و”فيرتيغو” .
المسألة تثير العديد من الاستفهامات والأسئلة، وربما الاستغراب، فبعيداً عن مراحل التعليم ما قبل الجامعي التي يبدو أنها لا تحتفي برموز الأدب العربي المعاصر، هل يعقل ألا يُدرس محفوظ في كلية مخصصة للأدب؟ وهل يعقل ألا يتجه دارس الأدب إلى قراءة محفوظ حتى ولو لم يكن مقرراً في المناهج التعليمية المقررة؟ وماذا عن طالب معد لدراسة الأدب لم يقرأ محفوظ؟ وهو بالتبعية لم يقرأ غيره، وماذا عن طالب دراسات عليا لم يقرأ عيون الأدب المعاصر؟ وهذا الأكاديمي أو الناقد المستقبلي الذي لم يدخل في تكوينه أدبنا المعاصر كيف سيتعاطى مع الأدب العربي القديم؟ وهل يمكنه قراءة التوحيدي أو الجاحظ أو ابن خلدون . .إلخ، فضلاً عن التراث الشعري والصوفي والفلسفي؟ وهل سيأتي اليوم الذي تتطلب فيه المعلقات الشعرية إلى ترجمة من أناس يجلسون في مكان ما منعزلين على العالم تشبه هيئتهم أبطال أفلام الخيال العلمي يعرفون مفاتيح لغة هذه المعلقات؟ وماذا يعرف هذا الطالب عن آداب العالم؟ وهل يقرأ بلغات أخرى؟ ولأن إجابات هذه الأسئلة حتماً ستأتي سلبية، فلابد أن تعقبها أسئلة أخرى: كيف سيدرس هذا الطالب الأدب فيما بعد؟ وكيف سيقرأ أو ينقد عملاً ما؟ ماهي خلفيته الثقافية؟ وعلى أي شيء تأسست ذائقته الجمالية؟ وماذا عن أي قراءات أخرى مساندة ومعضدة للمشتغل على الأدب مثل الفلسفة والفنون وعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد؟ ثم سؤال يتخطى كل ذلك ويرتبط بمنظومة تعليمية ومجتمعية وبيئية: ما الذي دفعه أصلاً، إلى دراسة الأدب؟
كانت السائلة تدرك ما للرواية من هيمنة على السوق الأدبية وعلى إقبال من يمارس فعل القراءة، ولكننا ونحن معها لم نكن نتصور أن دارس الأدب، المتخصص/الأكاديمي، سيأتي عليه اليوم الذي تدفعه قوائم “البست سيلرز” لكي يقرأ رواية ما، أما الطالب الوحيد الذي قرأ لمحفوظ فقد استجاب لخلفية إيديولوجية متشددة تسللت إلى الدراسات العليا في الأدب، فلو تصورنا أن اثنين من هؤلاء المتقدمين للامتحان أصبحا في يوم من الأيام من النقاد المعروفين، ومع حالة الانهيار الثقافي الذي نعيشه، فسنجد ولابد أحدهما لا يستمتع إلا بأدب يشبه الأفلام الهوليودية، والآخر يقرأ بعقلية منغلقة، وهي صورة تتوافر الكثير من دلائل ثبوتها على أرض الواقع بالفعل . 
لقد كنا نشاهد برامج الفضائيات الترفيهية التي تختزن جهلاً معرفياً لم يستوقف أحد إلا من قبيل الابتسام أو السخرية، فعندما تنزل الكاميرا إلى الشارع وتسأل أحد البسطاء عن أحمد شوقي فيجيب إنه أحد مطربي الراب، لم نكن نملك ساعتها إلا الضحك أو الرثاء، ولكن المسألة تصل الآن إلى الجامعة وإلى دارسي الأدب . 
ولا يتبقى في المسألة إلا “أدب” هؤلاء التلاميذ الذين ربما يتمتعون بعفوية الرد أو براءة الشباب أو يخافون من سؤال آخر تكشف من خلاله الأستاذة ما طالعوه من أدب، وهو”أدب” ربما لا تجده في الكثير ممن تشعر خلال كتاباتهم أنهم لم يتركوا أديباً واحداً إلا ودرسوا أعماله، وهي دراسة قائمة على القراءة ثم البحث والتمحيص، فهناك في عرف هؤلاء قوائم بالمئات لابد من الاطلاع عليها، أو هكذا ينبغي، وبالطبع لأن العمر وحاجات العمل والمعيشة وطبيعة العصر وغياب نمط المثقف “القارىء” . .إلخ، كلها عوامل موضوعية تنعكس بالسلب على الوقت المخصص للقراءة، فيكفي قراءة مقالة هنا ودراسة هناك أو تمرير العين على هذا الموضوع أو الإنصات إلى ذلك المتحدث، حتى تتكون الثقافة السمعية السائدة، ولن تعثر سواء في مقال أو حوار أو ندوة أو أمسية على أحدهم يخبرك: لم أقرأ لهذا، أو أتمنى أن أقرأ لذاك، مما أفرز العديد من الظواهر لعل رواج الرواية القائمة على الحكي “الاستماع”، الثقافة السمعية، والبصر، ثقافة العصر، يأتي في مقدمتها، فلا طاقة لذلك المكون الثقافي على النقد أو البحث الجاد الطويل والمجهد في الأدب أو غيره من مفردات تستدعي إعمال العقل . وهنا يبدو أن “أدب” هؤلاء التلاميذ أكثر نبلاً وصدقاً مع النفس من إدعاء البعض المعرفة بالأدب .
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *