توفيق صايغ يدرس الخطيئة في حياة نازك الملائكة



*إيمان علي

مخطوطة مجهولة للشاعر توفيق صايغ عن ديوان «شظايا ورماد» للشاعرة نازك الملائكة (1923 – 2007) وفيها يتناول حالة «الفصام» في مشروعها الشعري والتناقض في التجديد الذي تبنّته في القصيدة العربية الحديثة مع نزوعها إلى الماضي وازدواجيتها بين معانٍ متناقضة.

كتاب «نازك الملائكة… طريدة المتاهة والصوت المزدوج» (منشورات الجمل) هو في الأصل واحدة من مسودات عدة تركها الشاعر توفيق صايغ (1923 – 1971) في شقَّته ومكتبه في بيركلي (كاليفورنيا – الولايات المتحدة الأميركية). ووصل إلى الشاعر والناشر خالد المعالي هذا «الدفتر» وهو دراسة في ديوان نازك الملائكة الأشهر «شظايا ورماد» بالاعتماد على مصادر أجنبية، وعهد به إلى الشاعر والناقد العراقي محمد مظلوم فحقّقه ووضع له هذا العنوان «طريدة المتاهة والصوت المزدوج».
تأتي أهمية مادة هذا الكتاب من ناحيتين: الأولى الظروف التي أحاطت بصايغ نفسه، وجعلت اسمه يقترب من نعت «الشاعر القلق». من هذه الظروف «قلق الهوية الوطنية» الذي ظل يعانيه طوال حياته: سوري الوالد، فلسطيني الأم والولادة، لبناني الهوية. ويقول مظلــوم إن توفيق صايغ ترعرع فلسطينياً، وتجسَّد عطاؤه الأدبي لبنانياً، ومن ثم وضعته هذه الجغرافيا المتشعبة في إطار تنميطي، فضلاً عن الأيديولوجيا التي انسحبت عليه نتيجة الانتماء العائلي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأخيراً تكتمل مشكلات الرجل بعد مأزق مجلة «حوار» التي رأس تحريرها لفترة قصيرة، ثم أعلن توقفها نهائياً عقب نكسة 1967، على أثر السجالات التي أثارتها قضية تمويل المجلة من المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وهي منظمة اتضح في ما بعد أنها مرتبطة بالإدارة المركزية الأميركية، وهذا ما كان يجــهله صايغ، لا سيما أنه كان شــاعراً مثالياً ومترفعاً عن الدنيويات والمادة
وقد منعت المجلة في العراق ومصر، وكان أمراً طبيعياً في سياق ظروف الحرب الباردة والنفوذ السوفياتي في مصر عبدالناصر وعراق عبدالكريم قاسم. ثم جاءت النكسة، لتقضي على ما تبقّى من أحلام توفيق صايغ، فانزوى عن مشهد الثقافة العربية، قبل أن يختفي عن مشهد العالم برحيله وهو في الثامنة والأربعين.
أمّا الأهمية الثانية لهذه الدراسة فتعود إلى تحرّي توفيق صايغ مناهج التحليل النفسي والاستناد إلى ثقافته الثنائية في دراسة قصائد الديوان. ومن النوادر أن تجد دراسة باللغة العربية تقرأ الشعر العربي الحديث وفق مصادر أجنبية (إنكليزية). مسوّدة صايغ التي يعتبرها مظلوم «وثيقة مجهولة من وثائق هذا الزمان»، تدرس قصائد «شظايا ورماد» الصادر في طبعته الأولى عام 1949، لكن الإشارات المتفرِّقة في المخطوطة تؤكد أن صايغ اشتغل على الطبعة الثانية من الديوان التي صدرت في بيروت عام 1960، ويرجح مظلوم أن الدراسة كانت أفكاراً أوَّلية أُعدّت لتُلقى شفاهياً في محاضرة عن الشعر العربي الحديث، مع العلم أن صايغ كان يعمل أستاذاً للدراسات الشرقية في جامعة كمبردج ومحاضراً في الأدب العربي في جامعة لندن بين عامي 1959 و1962 قبل أن يعود إلى بيروت لإصدار مجلة «حوار».
حيرة وتناقض
يربط صايغ بين عــنوان الديــوان وبـــين قراءته لتجربة نازك الملائكة، ويبيّن – وفق منهج أقرب إلى التحليل النفسي – كيف أنها لم تتحرّر في القصيدة من إرث الماضي، يقرأ «حيرة» و«تيهاً» و «تناقضاً» بين الماضي والمستقبل، وارتباط ذلك كله بموقف الملائكة الثقافي إزاء التجديد نفسه. فمن المعروف أن الشاعرة العراقية التي استقرت في مصر ومــاتت على أرضها، ومزجت بين التـــجديد والمحـــافظة، هاجمت بشدة موقف مجلة «شعر» واعتبرتها أوّل من نشر النثر في كتاب وأطلقت عليه شعراً، بل إنها هاجمت صايغ نفسه في مقـــالة لها عن «قصـــيدة النـــثر» نـــشرتها في مـــجلة الآداب عام 1962، وقالت عنه: «لم يكتب في حـــياته بيت شعر واحداً في ما أعلم»، وهـــو ما يذكره هـــذا الكتاب، ويرجّح مظلوم أن عبارة نازك تلك جاءت لتقطع الطريق على نـشر توفيق صايغ هذه الدراسة وتنقيحِها في حياته.
يُحقق محمد مظلوم – في انحياز تام لتجربة توفيق صايغ الشعرية – تأويلات الجانب النفسي في أشعار الملائكة ويقول إنها تكشف عن اعتماد توفيق صايغ إسقاط عذاباته ومحنته مع فكرة الخطيئة، الخطيئة الأولى، والذكرى الملحّة للماضي، وهي من البنى المهيمنة في عموم تجربته الشعرية، ربما في محاولة للتخفُّف من وطأة «ذكراه» الشخصية! يدرس موقفها من الخطيئة الأولى التي على رغم أنها ارتكبت من قبل سواها، فهي في قصائد الديوان تصوّر أن عليها المعاناة من أجل ذلك، تكون في حالة هروب دائم، وكأنه هروب من أجل البحث عن خطيئة أخرى، بلا جدوى.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *