روجر ولز يحول “النبي” لجبران إلى فيلم عالمي


*عاصم الشيدي


«لا تدع أمواج البحر تفرق بيننا الآن، ولا تجعل السنين التي قضيتها بين ظهرانينا تؤول إلى ذكرى، فقد طفت بنا روحا، وكان ظلك لنا نورا يشع في وجوهنا».
جبران خليل جبران
النبي
لم أكن أتوقع يوما وأنا أقرأ كتاب «النبي» لجبران خليل جبران أن يتحول إلى فيلم سينمائي عالمي، أو أن يستطيع مخرج تحويله إلى ذلك. فـ«النبي» ليس رواية يمكن أن يصنع منها أي مخرج فيلما مهما كان مستواه، ولكن «النبي» أقرب أن يكون إلى ديوان شعر، بل هو ديوان شعر تأملي في تفاصيل الحياة بكل تجلياتها المتماسة مع الإنسان وحياته اليومية. على أن الكثيرين يصنفون «النبي» باعتباره رواية من كلاسيكيات السرد العالمي. وهذا ليس مجال نقاش الآن.
أقول لم أكن أتوقع ذلك قبل أن أحضر الأسبوع الماضي أول عرض لفيلم «النبي» في الشرق الأوسط، حيث عرض الفيلم ضمن أفلام مهرجان أجيال السينمائي في قطر. حينها استطعت القول إن المخرج المعروف روجر آلز «مخرج فيلم الأسد الملك لوالت ديزني» ساحر كبير، نجح في التحدي الذي وضعته أمامه الفنانة العربية الأصل سلمى الحايك. كان الفيلم مبهرا بحق واستطاع المحافظة على روح الشعر، فكنا أمام ثنائية حادة ليس من السهل الفصل بينهما، هل نسمع قصيدة شعرية أم أننا نشاهد فيلما سينمائيا.
وكتاب «النبي» معروف عالميا بعد أن ترجم إلى 40 لغة وما زال يعد بين أكثر الكتب مبيعا في العالم. بث فيه جبران تأملاته في الحياة، واستلهم فيه كما يرى الكثير من النقاد مبدأ وحدة الوجود وتأثره بالفلسفات والديانات الهندية وتأثره بالصوفية في التراث الإسلامي كابن الفارض وتائيته المعروفة وابن عربي والغزالي والحلاج، فضلا عن تربيته الدينية الأولى وتأثيرات الكتاب المقدس.
واختارت سلمى الحايك والمخرج روجر آلز بعض المقاطع من الكتاب الذي تحدث عن تأملات في الحب والعطاء والعمل والفرح والحزن والحرية. وخلال تلك المقاطع بدا أن تراث جبران التصويري، لا سيما تلك الأجساد اللينة ذات المسحة النورانية التي لا تكاد تميز جنسها التي عرف جبران برسمها، شكل خير معين لفناني الرسوم المتحركة لتجسيد لوحاته الرمزية الكتابية وعوالمه الغنية في الفيلم. ومن المنتظر حسب سلمى حايك أن تعرض تلك اللوحات التشكيلية في معرض قريب يجوب الشرق والغرب.
بنى المخرج حكايته الإطارية للفيلم على العلاقة بين طفلة تدعى ألميترا (وهو اسم شخصية العرافة التي تتعاطف مع المصطفى في كتاب جبران «النبي» ويحكي لها عظاته وقصائده) تتسلل إلى غرفة شاعر منعزل ومنفي يدعى مصطفى. ويتضح من اختيار الطفلة هدف الفيلم في مخاطبة الأطفال وتقريب كتاب جبران إليهم عبر الرسوم المتحركة.
تدور أحداث الفيلم حول مصطفى السجين السياسي الذي يحصل على حريته بعد 12 سنة من السجن في مدينة أورفاليس، وفي ذلك اليوم يقابل الفتاة الصغيرة «ألميترا» التي تقرر أن تتبعه أثناء خروجه من المدينة للصعود إلى السفينة التي ستوصله إلى وطنه. وفي هذه الأثناء يبدأ سكان المدينة في طرح عدة أسئلة حياتية على مصطفى، ويقدم لنا الفيلم مقاطع رسوم متحركة مبهرة تترجم حكمة مصطفى على الشاشة. لكنّ السجّان عندما يشاهد التمام الناس حول مصطفى يقرر أن ينهي وجوده ظنا منه أنه سينتهي بمجرد قتله، يحاول السجان أن يقنع مصطفى بالتوقيع على وثيقة تؤكد أنه متراجع عن كل الأفكار والطروحات التي كان قد قالها للناس طوال سنواته الماضية. لكنه يرفض ويقرر أن روحه ستحلق عاليا مع الفكر الذي بثه وعشقه الناس. «ألميترا» الطفلة الخرساء تحاول أن تنقذه ولكنها لا تستطيع، وعندما تلتقي معه وجها لوجه وترى فكره يشع على المدينة يعود لها النطق الذي كانت قد فقدته يوم وفاة والدها. ويعلمها مصطفى أنه سيواجه مصيره، وأن عليها هي أن تواصل ما بدأه، ويطلب منها أن تعود إلى المنزل الذي كان محتجزا فيه تحت الإقامة الجبرية لتأخذ ما كتبه.
لكن الفيلم رغم اتكائه على النصوص الشعرية التأملية الواردة في ديوان «النبي» والتي قدمت رؤية حول الحب، وحول العمل، وحول المأكل والمشرب، والفرح والحزن إلا أنه لم يقع في فخ المواعظ، وتجاوزها إلى الرؤية البصرية التي تلتحم فيها نظرة الحكيم برؤية الشاعر وصياغته. وفي الحقيقة فإن هذا «الفضل» يعود إلى جبران خليل جبران نفسه الذي لم يقع كتابه في هذه المواعظ النصحية.
يطرح الفيلم فكرة أن الشاعر يمكن أن يتحول إلى نبي له أتباعه عندما تكون أفكاره متماشية مع احتياجات المجتمع الذي يعيش فيه، وعندما يقترب الشاعر من البشر المحيطين به. لكنه في الوقت نفسه يقرر أن سجن المفكر أو الشاعر أمر عبثي فلا يمكن سجن الأفكار لأن باستطاعتها أن تحلق عاليا، وكلما أمعنت السلطة في سجنها كلما وجدت لنفسها منافذ أكبر للعبور. ومن هذا المنطلق ربما وصف كتاب «النبي» بأنه إنجيلا جديدا لأنه وجد له الكثير من الأتباع.
ورغم أن «ألميترا» في الكتاب كانت عرافة، إلا أنها في الفيلم ظهرت بأنها طفلة صغيرة خرساء لكن كلام «النبي» أنطقها.. وربما نجح المخرج في تحويل العرافة إلى طفلة في الكتاب حتى يدلل على أن دور الشاعر/النبي يمكن أن تتبناه الأطفال. على أن حتى الكبار كانوا مسحورين بكلام مصطفى بطل الفيلم.. فنسمع أحدهم يقول في الفيلم مخاطبا الشرطي الذي كان يصطحب مصطفى «كلامه أهم من زيتون أورفليس» رغم أن رزق من قال هذه العبارة كان قائما على بيع الزيتون.
وثمة ما يمكن أن يقال حول شخصية «ألميترا» في كتاب جبران «النبي» واستطاع المخرج أن يوظفها بشكل جميل وعجيب. فالكثير من النقاد قالوا سابقا إن شخصية العرافة «ألميترا» في كتاب النبي هي استلهام من حبيبة جبران وزوجته السابقة «ماري»، حيث إنها ألهمته الشخصية.. لكن المخرج وظف في الفيلم نهاية جميلة لم ترد في الكتاب حين بدا أن «ألميترا» هي امتداد لشخصية مصطفى/ النبي في الفيلم. وهو يمتد من معرفته أن هذه الشخصية مستلهمة من «ماري».. فبعد أن تطلقت «ماري» من جبران لم تره إلا وهو مسجى في تابوته، وعرفت حينها أنه وهب لها كل لوحاته وكل كتبه. وهو ما حصل في الفيلم حينما وهب مصطفى الطفلة «ألميترا» كل ما كتبه وما رسمه طوال فترة بقائه في سجنه.
وعود إلى ما كان عليه أهالي المدينة من اتباع لمصطفى في كل ما يقول، نسمع أحدهم يخاطب مصطفى «لقد سطعت في غسق حياتنا كالشمس في رابعة النهار، وأمدنا شبابك بأحلام نحلمها.. لست بيننا ضيفا ولا غريبا، بل أنت ولدنا الحبيب، عشقته أرواحنا، فلا تترك أبصارنا منذ الآن عطشى إلى ملامح وجهك».
ومن المقاطع التأملية المؤثرة التي وردت في الفيلم يقول مصطفى عندما سئل عن الحب «إن أومأ الحب إليكم فاتبعوه، وإنْ كان وعر المسالك، زلق المنحدر، وإذا بسط عليكم جناحيه فأسلموا له القياد وإنْ جرحكم سيفه المستور بين قوادمه».
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *