*جنى فواز الحسن
لاحظت مُؤخراً، وقد صدرت منذ وقتٍ قريبٍ روايتي «طابق 99»، أنّي لست على ما يُرام. لا أعاني من الفراغ، أيّ حياتي مزدحمة بما يكفي من الناحية المهنية، وأحياناً لا أجد الوقت الكافي لحياتي الاجتماعية- أغلب الأحيان صراحةً. خجلت من أن أقول إنّي لست بخير، وإنّي على الرغم من العمل والعائلة والأصدقاء، أشعر بأنّ شيئاً ما ينقصني. خجلت من نفسي أيضاً وأشفقت عليها.
ليسوا هنا، لا هُم ولا من سبقهم من أبطال روايتي، وأحياناً أشعر كالقارئ بأنّي أوّد أن أعرف ما حَلّ بهم بعدما هجرت حكاياهم وانتهت الروايات. لقد أصبحوا أحياء بشكل أو بآخر، وهم الآن كمن هاجر إلى بلاد بعيدة، ولم نعدْ نعرف عن أحواله شيئاً. قد يبدو ما أقول مبالغةً، لكن الرواية عندي ترتكز على أشخاص، تنمو بيني وبينهم أُلفة ونستأنس ببعضنا البعض. ومن دون رواية، أنا بلا أنيس.
لا أعرف كيف يمكن للخيال أن يصبح واقعاً، أو إن كان هذا العالم الذي يبنيه الروائي هو مجرد وهم. وتكاد لوهلة فكرة أن ما بين دفتيّ الكتاب أقلّ من حياة كاملة تثير في نفسي الخوف والأسى. كلّ هذا الصدق في أن تعرّي شخوص الحكايا وتعجنهم بماء التجربة وتجعلهم يقولون ما لن تجرؤ على قوله في حكايتك العادية. لا يمكن أن يكون هذا وهماً.
نفعل كل هذا ككتاب، ولماذا؟ لا أعرف إن كانت إجابة للاعتراض على الحياة تكفي، ولا أدري إن كانت هناك إجابة منطقية لسؤال الكتابة، كأن نرى مثلاً فيها تعويضاً عن آلامنا ومخاوفنا. هي تزيد هذا الإرباك فعلياً، وتتركنا مع المزيد من الحيرة.
لذا سأصفها كالتجربة، الغواية، الرحلة التي تأخذنا إلى أماكن لا نجرؤ أن نطأها، المرآة التي لا نقوى على النظر إليها. ربما لا تستطيع الكتابة، كما ظننت حين بدأت بها، أن تعيد إليّ ما سلبتني إياه الحياة، ولا هي تعويض فعلي عن الخسارات. ولكن يا إلهي كم أنّها نعمة.
إنّها تلك النقطة التي لا رجوع عنها. لا تستطيع الكتابة، ربما، فعل الكثير إزاء معضلة الوجود، ولا هي تدفع فواتيرنا آخر كل شهر أو تشفي مرضانا، أو تعيد إلينا الأحبة. لا قوة سحرية فيها مثلاً تمكننا من التخلّص من الأنطمة الاستبدادية، ولا هي خلاص البروليتاريا من عذاباتهم اليومية. إنّها فعلياً مثلنا عاجزة عن تغيير الحياة.
وعند النظر إلى كل تلك الكتب بما حفظت من تجارب إنسانية واجتماعية وسياسية، وعند قراءتها، لا يمكن إلا أن ينبهر المرء بقدرة اللغة الباذخة على التأثير، وبقدرة عبارة واحدة أحياناً أن تفتح آفاقنا إلى مجالات عدّة.
إنّها قوة «الأشياء العادية»، مكرها وسحرها، وبساطتها. ونعم أنا وحيدة حين لا أكتب. وحيدة ولا تعوضني كلمات الحب أو عطف الأصدقاء ولا المشاكل اليومية ولا حتّى صوت ابنتي أو هاتف من أخي من البلد الذي هو فيه. أنا وحيدة هذه الوحدة التي تتركني مُجوّفة، بحاجة أن أجدهم لأستأنس بهم. أنا أتوه من دون خطوط الحكاية وهمومها وانشغالاتها وتساؤلاتها، وأجدني خائفة من ألا أجد ما أكتبه، مسكونة بهاجس الشوق إلى الفكرة الجديدة.
ليست مسألة توقيت، كأن نقول إن هناك استراحة تمتد على فترة معينة بين رواية وأخرى، بل هي أشبه بيوم تستيقظ فيه صباحاً، كما تستيقظ الصغيرة وتنظر إلى المرآة وتقول لقد كبرت. هكذا حين ستأتي الفكرة، سأكون جاهزة لها بشكل طبيعي.
وحتى ذلك الحين، أستمر في القلق الذي تفرضه عليك الكتابة، ككل الأمور التي لها قيمة في الحياة. وأسكت في هذه الفترة وأنا أنفصل عن شخوصي السابقين، أعود لأسأل نفسي هل أخبرت الحكاية بما يليق بهم أم أنه كان هناك ما يمكن قوله بعد. أحاول أن أخرج منهم وأن أخرجهم مني.
وبينما أنا أتخبط بين كل هذا، أمسك كتاباً ما وأقرأه. أعرف عندها أن الكتابة ليست مضيعة للوقت. حين أرى بين أسطر الآخرين كل ما يستحق أن نحترمه، أي عندما أقرأ رواية جديدة، أعرف أن شعوري بالوحدة مشروع ومُباح. هي ليست إكسسواراً أو تسريحة شعر، هي فروة الرأس، وليست أيضاً فستاناً نلبسه، هي الجسد.
أكتب لكي أشعر أني لست وحيدة، وكل ما يحدث أن وحدتي تزداد، وكذلك عطشي. إنها البئر التي لا تجف. تعرف أن فيها لحظات فرح ولكن عناءها يفوق ذلك، وتبقى في النهاية، الفتنة. هل يجب فعلاً أن نفسر الفتنة، أم نتركها كما هي لتزداد فتنةً؟
______
*روائية لبنانية/مجلة الدوحة