*يوسف ضمرة
هل ثمة فصل بين الكاتب أو الشاعر وحياته بتفاصيلها كلها؟ الثقافية والاجتماعية والسياسية؟
ربما كان رحيل الشاعر اللبناني سعيد عقل سبباً مباشراً لطرح السؤال. ولكن السؤال الذي قد يبدو غريباً هو: هل الكتابة أقوى من الحياة؟ أو بصورة أدق: هل هي حقيقية أكثر من الحياة؟
حين كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر» قامت قيامة الكيان الصهيوني، واعتبرها الإسرائيليون موقف درويش المبدئي، على الرغم من كونه رجل سلام، وافق على الحل السياسي للقضية الفلسطينية، مع ما ينطوي عليه ذلك من ملاحظات ومآخذ عند البعض!
يحيلنا هذا الكلام إلى بعض الخفّة التي نلحظها في كتابات كثيرين في العالم العربي؛ الخفة هنا تعني التسرع في النشر وطرح الكتابات عشوائياً وكيفما اتفق. وربما نلحظ هذا الأمر عند فئتين من الكتاب والشعراء والأدباء. الأولى: فئة الكتاب والشعراء الكبار حين يقطعون شوطاً طويلاً في الحياة، والثانية: فئة الكتاب والشعراء غير المكرسين وغير المنتشرين على مستوى يحلمون به.
الفئة الأولى عايشناها في تجارب شعراء عرب كبار، تركوا بصمات واضحة في الشعر العربي، ولكنهم في أواخر أيامهم أو سنواتهم، أخذوا يكتبون بشكل يومي، وكأن هنالك من يستحثهم. وفي الحقيقة ثمة من يستحثهم بالفعل؛ فإحساسهم بخريف العمر يشكل مدعاة للتفكير في ما لم نقله ولم نكتبه بعد. يفكر هؤلاء أن الزمن بات قصيراً، وأن لديهم أشياء كثيرة تستحق أن تقال. وهو ما يشكل ازدحاماً فكرياً وفنياً، فتخرج بعض الكتابات ركيكة لا تليق بما قدموه وبما وسموا الكتابة العربية به.
أما الفئة الثانية فهي فئة الشباب التي نعرفها جيداً، ونعرف كم يكون الكاتب مزدحماً بالأفكار وبالشخوص والصور التي يظن أنها ستشكل انقلاباً في الكتابة المستقبلية. هذه الفئة قد نستنبط لها العذر، فهي لا تمتلك حصيلة ثقافية وفكرية وفنية تجعلها قادرة على التمييز الأقرب للصواب. أما الفئة الأولى فربما يكون عذرها أكبر وأشد قوة وأثراً؛ فهي الفئة التي أقامت عقوداً في اللغة واستوطنتها، ولم يعد في استطاعة أحد أو شيء أن يهدد هؤلاء المقيمين في اللغة بطردهم منها. تصبح الكتابة هنا بيوتاً وأماكن أكثر حقيقية من البيوت والأماكن المجردة. يتحول المجاز إلى الحقيقي ليزيح الواقع عن الدرجة العليا للتراتبية الاجتماعية والثقافية.
لم يكن المتنبي رجلاً ذا تاريخ شخصي إيجابي في حياته. حتى إنه رسم نفسه في مواقف المتسول والمنافق والكاذب وما إلى ذلك. لكن هذا كله تنحى جانباً بعد رحيله، وأصبح المتنبي علامة الشعر العربي الفارقة، على الرغم من أن هنالك أسماء حفرت ذاتها في لوحة التاريخ.
هل بعد ذلك تظل الأعذار التي سقناها، والتي لم نسقها، قادرة على أن تشكل حاملاً لتلك الخفة في الكتابة؟ لقد قيل إن روايات نجيب محفوظ المتأخرة لم تشكل إضافة أو إثراء لمشروعه الروائي الطويل والريادي. وقيل إن ماركيز «نسخ» رواية «كاواباتا» في روايته الأخيرة «ذكريات غانياتي الحزينات»، وقيل إن مجموعات زكريا تامر القصصية الأخيرة لم تكن على الدرجة الفنية نفسها من أعماله السابقة.. هل يسأم القارئ كاتبه بعد حين؟ ربما، وربما لهذا دائماً نتوقف عند عمل مميز في مسيرة الكاتب.
______
*الإمارات اليوم