فصول من السيرة الذاتيّة لـ”كولن ويلسون”6


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

القسم السادس

الفصل الثاني
في عام 1946 و عندما كنتُ في الخامسة عشرة أدرْتُ مفتاح المذياع إحدى الّليالي على القناة الثّالثة المستحدثة في هيئة الإذاعة البريطانيّة BBC ووجدْتُني أستمع إلى المشهد الثالث من عمل برنارد شو Shaw الأشهر المسمّى ( الإنسان و الإنسان الخارق Man and Superman ) و كنتُ في السنة السابقة تمتّعتُ بمشاهدة فلم ( قيصر و كليوباترا ) الّذي رأيتُ فيه ملحمة تأريخيّة مثيرة و لكنّه مع هذا لم يدفعْني إلى متابعة أعمال شو الأخرى على عكس المشهد الثالث من “الإنسان و الإنسان الخارق ” الّذي كان بعنوان ( دون جوان في الجحيم Don Juan in Hell ) : فقد هزّني بقوّة و اقتنعْتُ منذ ذلك الحين أنّ برناردشو كان الكاتب المسرحيّ الأعظم بين كلّ الكُتّاب منذ شكسبير .
كان المشهد الثالث من مسرحيّة شو يحكي عن مناقشة بين دون جوان و ابنة أحد القادة العسكريين المسمّاة (دونا آنا) إلى جانب أبيها مع الشيطان حيث بعد أن توفّيتْ دونا آنا حديثاً ووجدت نفسها ساخطة وسط الجحيم ، و راحت تتساءَلُ بحرقةٍ : ” ألم أكن طيلة حياتي تلك البنت الوفيّة دوماً للكنيسة ؟ !! فلِمَ أنا هنا إذنْ ؟ ” ، و هنا راح دون جوان – بحسب المشهد المسرحيّ – يوضُّح لها أنّ الجحيم ليس مكاناً للعذاب المُقيم بل هو متعةٌ لانهائيّة رغم أنّنا قد نجد فيه مكاناً باعثاً على الضجر ،،، و فجأةً ينضمُّ والد الفتاة إلى الحلقة النقاشيّة ليقول أنّ السماء هي المكان المضجر الأكثر جمالاً في الكون و انّ خيرة الناس يفضّلون الجحيم على السماء بمن فيهم آباء الكنيسة ذاتها !! و هنا يتدخّل الشيطان الّذي يقول أنّه يقف إلى جانب الحبّ ، و الجمال و دفء القلب ، و انّه انتقى هؤلاء ليكونوا عيّنة لما يبتغي في مسعاه ، و في هذه الّلحظة يعلّقُ دون جوان : ” إنّ الغاية من كلّ عمليّة التطوّر هي خلق الإنسان الخارق ” .
ما أدهشني أكثر من سواهُ لدى سماعي مسرحيّة برنارد شو هو سؤالهُ الأساسيّ : ما الهدف المرتجى من الحياة ؟ و كانت تلك هي المرّة الأولى الّتي أستمع فيها إلى منْ كان يسألُ ذات السؤال الّذي وقعتُ في حبائله منذ أن كنتُ في الثالثة عشرة . كتب ( إج. جي. ويلز ) كتاباً صغيراً بعنوان ( ما الّذي ينبغي لنا أن نفعله بحيواتنا ؟What Are We to Do with Our Lives ? ) و لكنّه كان يعالِجُ موضوع الهدف من الحياة من زاويتيْ النظر السياسيّة و المجتمعيّة بينما فهم شو المشكلة الأساسيّة الكامنة وراء هذا السؤال : الّلاجدوى و غيابُ المعنى . كان جواب شو عن السؤال وراء الغاية المتصوّرة من الحياة هو فهمُ الحياة ذاتها و لكنّه جاء مخيّباً لي و لمْ يُشْفِ جموحي المتسائل دوماً ، و عندما بلغْتُ السادسة عشرة وتوجّب عليّ ترك المدرسة ، كان لديّ إحساسٌ متعاظمٌ بانعدام المعنى في الحياة ، وما فاقم وضعي أكثر هو تلك الإشكاليّة المزمنة الّتي يعانيها المراهقون : الإحساس بالضجر و العبثيّة ، و أمضيْتُ الكثير من أوقاتي في تلك المرحلة و أنا أعاني انعداماً كاملاً لأيّ محفّز لي في الحياة وعندما انطلقْتُ ظهيرة أحد أيّام السبت القائظة لقضاء جولةٍ في أحد المتنزّهات القريبة من منزلنا شعرتُ كما لو كنتُ كائناً مرّيخيّاً غريباً على الأرض و لم أرَ أيّ معنىً لوجودي في هذه الحياة. 
حصل في أحد أيّام تمّوز، وبعد أن قرأتُ تحت الشمس الحارة لساعاتٍ طوال كتاباً ممتازاً عن الأدب الروسيّ ، أن ذهبتُ إلى المطبخ لتشغيل الفرن الكهربائيّ و إعداد شيء من الطعام لي ، وسرعان ما اسودّت معالم المطبخ أمامي فاتّكأتُ على الفرن الكهربائي و أنا أشعرُ أنّ هويّتي الذاتيّة وعقلي غادرا بعيداً عن جسدي ، و بعد برهةٍ عاد إليّ نظري ووجدْتُني أعاني رعباً هائلاً ، و بالرغم من كلّ الكراهيّة و عدم الثقة الّلتيْن كنتُ أكنّهما للعالم حولي لكنّني كنتُ واثقاً من شيء وحيد : وجودي الشخصيّ ، و ما شعرتُهُ خلال تلك التجربة المخيفة في المطبخ أنّني أيقنْتُ أنّ وجودي الّذي لطالما وثقْتُ فيه صارعرضةً للتشكيك والفقدان كما يفقد طفلٌ صغير قطعة الحلوى الّتي يمسكها بين يديْه بكلّ ما أوتي من قوّة !! و عندها بدأتُ أتساءلُ بذهول : من أنا ؟ وهل يمكنُني الاستمرار في الوجود عندما تنتزعُ هويّتي منّي ؟ ثمّ قفزت أمامي فجأة عبارة إليوت الّتي حكى فيها عن ” عقلنا الأثيريّ الواعي الّذي ليس بمقدوره سوى أن يعي العدم ” : الشيء الوحيد الّذي أذكره عن تلك التجربة المخيفة هو نوعٌ من سريان التيّار الكهربائيّ في قلب العدم و الّلامعنى و لا شيء سوى هذا !! و كتبتُ لاحقاً في يوميّاتي ” إنّ الحياة ليست ارتقاءً باتّجاه شيء ما ، بل هي هروبٌ من شيء ما ،،، هُروبٌ من الألم الأقصى الكامن في قلب وجودنا الإنسانيّ ” ، ولأيّامٍ خلتْ بعد تلك التجربة الغريبة و المخيفة معاً لم يكن العالم ليعني لي شيئاً أكثر من سخافة سمجة و رأيتُ وجودي فيه مضجراً و غير قابلٍ لأيّ فهم كما هي الحالة بالضبط مع من يضطرّ لسماع لغة اجنبيّة لا يفقه منها حرفاً !! و كان من المؤكّد أنّ تلك التجربة ساهمت في تأكيد شعوري بخلوّ حياتي من أيّة قيمة إنسانيّة إيجابيّة و شعرْتُ كما لو أنّ وجودي كان محض حدث طارئ وهذا هو السبب الّذي دفعني إلى الانغماس الدائم في القراءة : فقد كنتُ أعلم و لحسن حظّي أنّ الكتاب هو وحده الخليقُ بإدهاشي و منحي إحساساً بأنّني ما زلتُ حيّاً ، فمضيْتُ ألتهم الأدب الروسيّ التهاماً كما قرأتُ يوليسيس Ulysses للمرّة الخامسة و لا زلتُ بعد سنواتٍ أذكرُ أنّني عندما قابلتُ ناشر كتابي الاوّل ( فيكتور غولانز ) بادرني بالسؤال الأوّل و قبل كلّ شيء ” قل لي يارجل كيف يمكن لإنسانٍ على الأرض ان يقرأ كلّ تلك الكتب ؟ ” فأجبته باقتضاب ” هو الضجر يا صديقي !! ” .
لمحتُ ذات يومٍ حلّاً لما بدا معضلتي الوجوديّة المزمنة في المقدّمة الّتي كتبتها ( كونستانس غارنيت ) لكلّ ترجماتها لأعمال دوستويفسكي و أعني على وجه التحديد وصفه الدقيق في رسالته إلى أخيه ميخائيل كيف اقتيد هو و رفاقه الثوريّون لكي ينفّذ فيهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص في ساحة سيميونوفسكي في سانت بطرسبورغ : ” سمعنا أوامر الإعدام تتلى فوق رؤوسنا و أمَرَنا السجّانون بارتداء تلك الثياب البيض الّتي إعتاد المحكومون بالإعدام ارتداءها . كنتُ في الطابور الثالث للإعدام و أدركْتُ أنْ لم تبْقَ لي سوى دقائق قليلة في هذه الحياة ،،، كنتُ أفكّر فيكم أعزّائي ، و استدرْتُ لأقبّل بليسشيف ودوروف الّلذيْن كانا ينتظران الإعدام بعدي ورغبت في وداعهما الوداع الأخير ،،،،، و فجأة صاح الجنود ووجدنا أنفسنا محلولي الوثاق و أخبِرْنا أنّ جلالة القيصر قرّر الإبقاء على حيواتنا ،،،،،،،،،، ” ، و حصل انّ أحد رفاق دوستويفسكي من المحكومين بالإعدام معه و تمّ الإبقاء على حياتهم فقد عقله لهول صدمته من هذا الموقف الغريب ، و لطالما تساءلْتُ كلّ مرّة و أنا أقرأ هذا النص المحفوف بالرعب ” لو أنّ القيصر اشترط على دوستويفسكي أن يبقي له حياته و يطلق سراحه في مقابل وعدٍ منه بأن لا يضجر طيلة حياته فإنّه كان سيفعلُ بكلّ تأكيد و هو في غاية الجذل و الابتهاج و لبدا في كامل الثقة بقدرته على الإيفاء بهذا الوعد !! ” . عاينْتُ جواباً لمعضلة الضجر الوجوديّة أيضاً في كتاب بوزويل Bosewell عن حياة جونسون و الّذي كنتُ ابتعْتُهُ بقصد قراءته في عطلة أعياد الميلاد القادمة ، و يسجّلُ الدكتور جونسون في الكتاب الملاحظة المهمّة التالية “عندما يعلمُ شخصٌ بأنّه سيموتُ شنقاً الليلة فإنّ هذا كفيلٌ بتركيز قدرته الذهنيّة بطريقة عجيبة ” ، إذنْ هذا هو بالضبط مكمنُ الخطل في ذهني : فقدان الإحساس بوجود أمرٍ يدعو إلى الاهتمام على نحوٍ طارئ ولحظيّ ، و لكن كيف يمكنُ لامرئٍ ما خلقُ هذا الإحساس بوجود أمرٍ كهذا في حياته وهو قد أمضى جلّ حياته مفتقداً للإحساس بوجهةٍ ما في تلك الحياة ؟ 
كنت مسكونا على الدوام بفكرة أن أكون كاتباً حسب و لا شيء سواه ، و عندما كنتُ أعمل مساعداً للمختبر في مدرستي الثانويّة كتبْتُ عملاً حسبْتهُ مكمًلاً لعمل برناردشو ( الإنسان و الإنسان الخارق ) أسميْتُهُ ( أبٌ و ابنٌ Father and Son ) و جعلْتُ فيه بطل شو المسمّى ( تانر Tanner ) يجدُ نفسه أباً لابنٍ لا يشاطره أيّاً من معتقداته في الاشتراكيّة المجتمعيّة و يشعر كذلك أنّ النزعة التطوّريّة في ( الإنسان و الإنسان الخارق ) تفشلُ في تقديم إجابةٍ مقنعة للتساؤل الممضّ حول كون الحياة لا تعدو أن تكون دعابة سخيفة ، و كنتُ قبل هذا بوقت قصير اكتشفْتُ ما وضع حدّاً للعدميّة و الشكّ والنظر إلى الحياة بكونها محض دعابة خبيثة : فقد وجدْتُ بمحض صدفة جميلة أثناء بحثي في كتاب ( مقالاتٌ مختارة لِ تي. إس. إليوت ) إشارةً إلى العمل الكلاسيكيّ الهندوسيّ المسمّى (باغافاد غيتا Bhagavad Gita ) ، ولأنّني اعتبرْتُ إليوت على الدوام بمثابة موجّهي الأدبيّ الأعظم فقد مضيْتُ في قراءة كلّ الكتب الّتي أشار إليها في كتابِ مقالاته المختارة و سرعان ما اقتنيْتُ نسخة من كتاب باغافاد غيتا المترجم ترجمة جديدة من متجر الكتب المحليّ في بلدتنا ، و وجدْتُ النصّ اجتزاءً صغيراً من الملحمة الهندوسيّة المعروفة عالميّاً باسم ( مهابهاراتا Mahabharata ) ، و فيها يؤمَرُ البطل أرجونا Arjuna أن يقاتل جيشاً يضمّ بعضاً من أقاربه فيرتعب الرجل من فكرة أنّه قد يقتل بعضاً من أفراد عائلته ، فيخبره معلّمه كريشنا Krishna الّذي يجسّدُ روح الإله الأعظم أنّ مأساته غير ضروريّة على الإطلاق ثمّ مضى كريشنا في تعليم أرجونا أساسيّات الحياة الدينيّة الّتي تقوم على فكرة أنّنا و على الرغم من كوننا مضْطرّين للعيش في هذه الحياة فإنّ المهمّ للغاية أن نرفض بقوّة كوننا عبيداً لرغباتنا و ينبغي أن نتعلّم تمرين ذواتنا على عدم الالتصاق بهذا العالم لأنّ الكائنات البشريّة تقضي حياتها و هي مقيّدةٌ إلى شبكةٍ من الأوهام و هذا هو السبب الرئيسيّ وراء شقائها ، و ينبغي أن لا نقبل لهذه الأوهام أن تكون لها اليد العليا علينا أبداً .
_________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *