الرواية توجع الرأس


*محمد إسماعيل زاهر

من المقولات الثقافية التي ربما تسمعها وتتوقف أمامها ربما متأملاً أو مستفزاً، أو حتى غاضباً، تلك التي تؤكد أن الرواية علاج للأمراض الجسدية، أصبح بإمكانها أن تجعلنا نستغني عن الأدوية، وبعد أن تنتابك هذه المشاعر مجتمعة، سيصيبك حس السخرية والفكاهة، وتسأل نفسك هل تستطيع الرواية أن تشفي مريض السكري على سبيل المثال؟ وهنا السكري مرض نموذجي لاختبار هذا الطرح، فالمرض منتشر بين كل الفئات المجتمعية ويرجع المتخصصون ذلك إلى غياب الرياضة عن حياتنا وإلى نمط سلوكي معين ربما لا نمارس معه حتى عادة المشي، ويأتي التلفزيون والتكنولوجيا الحديثة على رأس الأنشطة التي تجعلنا نجلس لأوقات ممتدة، وبالنسبة للمثقفين تقع القراءة في مقدمة هذه الأنشطة، أما الأجيال الشابة من القراء فالرواية تمتلك القدرة على الإمساك بالعينين، وهي تختلف عن العمل الفكري والذي كان يدفعنا إلى إغلاق الكتاب والوقوف أو السير قليلا متأملين فيما يطرحه المؤلف من مسائل وقضايا .

إن الرواية تختلف حتى في نمط قراءتها، فسهولة السرد ومتعة الحكي المعتمد على تقنيات سينمائية وبعض الغموض وهو ما يسود الرواية المنتجة الآن تدفع المتلقي إلى البقاء أسيراً للكتاب ولاهثاً وراء الأحداث، هو يجلس بالقوة، ولم تعد روايات هذه الأيام تحتوي على تلك الجمل الأدبية الرفيعة التي كنا ندونها جانباً أو المشاهد المؤثرة أو الطروحات التي تعُمل العقل أو حتى تتميز بالحجم الكبير، وكلها أمور كانت تجعل القراء في الماضي يأخذون بعض الراحة، ولو دقائق، من الكتاب ومن المطالعة المتواصلة وبالطبع من الجلوس الدائم، ونحن هنا نتحدث عن أجيال ظللنا ندفعهم إلى القراءة، وأسهمت عوامل مختلفة بخلاف دعواتنا في إقبال نسبي ملحوظ على القراءة ولكن المنتج المقدم لهم وعلى رأسه الرواية يحتاج إلى الكثير من المراجعة .
وربما يكون العكس هو الصحيح، فإذا كنت من جيل تكونت ثقافته من الكتاب الورقي، وتابعت الروايات الأساسية فستصاب بالتأكيد بارتفاع في ضغط الدم عندما تقرأ رواية وزعت بمئات الآلاف وكُتب على غلافها الأمامي الطبعة 33 ولا يوجد بها ما يستحق التوقف سواء على مستوى اللغة أو البناء أو الأحداث أو الشخصيات . . الخ، والنماذج عديدة، ويتصاعد الضغط إذا حصلت هذه الرواية على جائزة أو ترجمت للغات أخرى أو قرأت لأحد المكرسين على غلافها الخلفي تقريظاً للرواية ولصاحبها، لتتذكر مثلا أن دار مكتبة مصر لعبد الحميد جودة السحار وبعد فوز نجيب محفوظ بنوبل لم تكتب على أي إصدار جديد من رواياته رقماً يتجاوز الطبعة السادسة عشرة .
يتحول الضغط إلى تسارع في نبضات القلب، عندما تطالع لغة إذا كتبها صاحبها في موضوع للإنشاء في المرحلة الابتدائية فإنه سيتعرض للتأنيب من المدرس أو يحصل على أدنى العلامات، لغة نابتة من جيل تربى على قصص المغامرات وعندما كبر قليلاً وجد “الفيس بوك” و”التويتر” وكل هذه المواقع التي تتيح التعليق والحكي والفضفضة، معتقدا أن الرواية ما هي إلا فضفضة موسعة مضافا إليها بعض “البهارات” .
يتصاعد الضغط إلى الرأس، محل التفكير، عندما تسأل ألم نعد نكتب إلا الروايات؟ وأين هي إسهامات العلوم الإنسانية الأخرى؟ وما آخر فكرة طرحها أحدهم واستدعت الجدل والنقاش؟ بل أين هو التفكير فيما يتعلق بظاهرة الرواية؟ ولماذا كان انتشارها في بدايات القرن الماضي دلالة على التقدم؟ وهل رواجها الحالي علامة على نهضة تلوح في الأفق؟ .
لقد قرأنا وسمعنا كثيرا فيما مضى عن دور الأدب في الارتقاء بالذوق، وحكايات لبعض الكتاب عن انغماسهم في القراءة لتجاوز أزمة نفسية أو وجدانية ما، ونعرف في الوقت نفسه حالات الانتحار التي أقدم عليها بعض الشباب بعد تأثرهم برواية “آلام فيرتر” لغوته، أي أن الجانب النفسي في المسألة يخضع للفروق الفردية أو للظروف المجتمعية التي تؤدي إلى ازدهار النزعة الرومانسية أو الواقعية . . إلخ، ويلعب الأدب بأجناسه كافة دوراً مؤثراً في توجه جيل معين نحو هذه النزعة أو تلك، أما أن نقول “الرواية، تحديدا، تشفي من الأمراض الجسدية”، فهي مقولة لا يمكن إلا تأملها في إطار الإفلاس الفكري وعدم التعليق عليها هو ما يرفع الضغط ومعدلات السكري وتسارع نبضات القلب، وكلها مؤشرات تستدعي الرد والتعليق حتى لا يصل الوجع إلى “الرأس” . 
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *