مجهولات ‘موديانو’ والبحث عن الملجأ المفقود


*ممدوح فرَّاج النابي

في رواية «عشب الليالي» لباتريك موديانو المولود في 1945 والحاصل على جائزة نوبل في الآداب مؤخّرًا، بتساءل بطل الرواية عبر منولوج داخلي سعيًا للوصول إلى إدراك كنهة ما يعتريه «تُرى ما مصدر الشعور بالامتعاض الذي كان ينتابني في الماضي»، ثمّ يعدّد أسباب هذا الشعور والتي يُرجعها إلى الشوارع القليلة التي تستظل بمحطة القطارات والمقبرة.. وغيرها، ثمّ يتشكّك في أحد الأسباب التي ذكرها هكذا: «هل ممكن حقًا أن الآخر الذي تركته هناك كان يعيد حركاتي القديمة، حركة حركة، وأن يواصل السير في طرقاتي القديمة إلى الأبد؟ كلا لم يتبقّ أي شيء منا هنا. لقد طوى الزمن كل شيء».

رغم الاعتراف بأن الزمن قد طوى كل شيء، إلا أنه لا يمنع من أن تكون واحدة من أحابيل الكتابة ومراوغاتها التي يريد أن يوقع بها المؤلف القارئ في فخ المباشرة والبساطة. في عبارة سابقة لموديانو يُلخِّص فيها جوهر روايته يقول «بأن الحياة عبارة عن باقة من الصور القديمة في صندوق الذاكرة» وهو الأمر الذي يتمثّله جيدًا في كتاباته الروائية فالذاكرة هي المحور الذي تدور حوله رواياته، وهو ما أهَّله لأن يكون واحدًا مِمَّن أعادوا بالكتابة لفن الذَّاكِرة بريقه، حيث يستعيد باريس الماضي بشوارعها وأحداثها وحدائقها، كما يفتّش عبر شخصيات رواياته عن الهويات المفقودة عبر الزمن أو على حدِّ وصف بيتر إنغلند السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية مسوغا حصوله على الجائزة فكما يقول لأن عالم باتريك موديانو «حقًا رائع وكتبه تتحاور بعضًا مع بعض، حيث تتكرّر فيها مواضيع الهوية وفقدان الأمل. أما نزعته الروائيّة فهي تميل إلى الشّك أصلاً في هوية الكائن والأفراد والسعي إلى البحث عن الهوية المفقودة والمنسية».
ثلاث حكايات
في رواية «مجهولات» القصيرة التي ترجمتها «رنا حايك» وأعادت طباعتها دار ميريت المصرية بعد فوزه بنوبل؛ يقدِّم لنا الكاتب عبر الراوي الأنا ثلاث حكايات لفتيات متفرقات يجمعهن السرد. لكلِّ واحدةٍ منهن ماضيها المُخْتَلف وكذلك أحلامها المتباينة عن الأخرى، إلا أن جميعهن يشتركن في رغبة الانعتاق من الماضي، إما بالهروب من المكان نفسه (مدن النشأة) للبحث عن عمل، كما في حالة الفتاة الأولى، أو بالبحث عن الحب الكبير مثل الفتاة الثانية، أو باستعادة الذّات كما في حالة الفتاة الثالثة القادمة من لندن.
حكايات الشخصيات الثلاث التي يقدمها موديانو بسيطة، كما أنها لا تعتمد التشويق أو حتى الاعتماد على آليات كتابية وأسلوبية مميّزة تُعطي لها بعضًا من الأهميّة والتمايز، بل اعتمد الكاتب على بنية شكلية كلاسيكية؛ حيث السَّرد بالضمير الأنا مستفيدا من التداعيات الحرة والمونولوجات، كما يبدأ السرد من نقطة ثابتة تنتمي إلى زمن حاضر الفتاة (قبل رحلة الانتقال إلى باريس) ثمّ تحدث التقاطعات عبر فعل التذكُّر. الماضي الذي يستعيد أجزاء منه بالاسترجاعات، لا يأتي كنوع من الشعور بافتقاده أو الحنين إليه، بقدر ما يأتي كنوع من الحسرة والتألم من سيرته، وما هو كان ويكون دافعًا لهنّ للهروب منه إلى آخر/باريس.
الهروب من الماضي هو الثيمة التي شكّلت العُنصر الرئيسي لهذه الرواية، فالفتيات الثلاث مجهولات الاسم، جميعهن يهربن من ماضٍ ليس فيه ذكرى واحدة سعيدة، بل هو حافل بالمآسي والذكريات المُشَوَّشَة فكما تقول الفتاة الثانية «ذكريات طفولتي ليست جيدة ولا سيئة»، ومع أن الكاتب يتنقل بالفتيات من مكان النشأة (ليون/أنيسي/لندن) إلى باريس إلا أنه يتخذ من هذه التنقلات حيلته لاستعادّة مكان طفولته الخاص/باريس عبر تجوّلات هؤلاء الفتيات في أزقتها وشوارعها وغاباتها وكذلك ملاجئها، في مسعى جادّ عبر هذه الأنماط الثلاثة حيث تعدُّ كلّ واحدةٍ منهنّ نمطًا دالاً على إفرازات وأمراض العصر (القرن العشرين)؛ لاستعادة هويته القديمة التي لا تختلفُ عن هويات الفتيات الثلاث المُمزّقة، بل تكاد تكون الشخصيات الثلاث بمثابة تنويعات مختلِفة لشخصية المُؤلف ذاته. فالكاتب كما تقول المترجمة عنه في تقديمها للرواية إنه مثلهم «قضى حياته مسكونًا بهاجس الفقدان؛ يحاول لمّ أشلاء ماضيه وانتمائه من خلال كتابة مشاهد من حياته الخاصة وأسماء شوارع مرّ بها، وملاجئ سكن فيها وشخصيات سكنته حدّ الألم».
يدخل بنا الكاتب عبر ثلاث شخصيات متقاربات في العمر تتراوح أعمارها بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، وثلاث حكايات مُنفصلة لا يجمعُ بينها سوى الفقر والغربة والاغتراب ومدينة باريس والوحدة، وغياب الاسم، والمصير المجهول الذي ينتظر الفتيات الثلاث، إلى عالم روائي يشيده وفق أطروحات فلسفية تتعلق بأزمات وجودية كالبحث عن الهوية، واستعادة الذات، والقلق من المصير الإنساني، واكتشاف معنى الحياة، أو حتى تكرار مأساة الأب كما حدث للفتاة الثانية التي أعادت سيرة الأب الذي لم تلتقه عبر تواصل الجينات “الرأس المحروقة” كناية عن التهوّر في القتل الذي أقدمت عليه في جنيف.
مصير الفتيات الثلاث مُتعلق بتحقيق حلم الهروب، والتخلُّص من رواسب الماضي. فالفتاة الأولى راحتْ تبحث عن وظيفة وتركتْ مدينة ليون المظلمة إلى باريس، في الأصل كان لديها أسرة لكنها لا تنتمي إليها لقد فارقتها منذ زمن ولم يشغلها أو يشغل أفرادها تَتَبُّع أخبار بعضهم البعض. حتى عندما فاجأها صديقها الذي تعرفت عليه في باريس كنوع من التواصل مع الآخر، المفقود دومًا (صورة الحبيب/الجسد/الأهل)، رغم أنه أنكر اسمه الحقيقي عليها وما إن سألها عن رأيهم (عائلتها) باستقرارها في باريس قالت: «أربكني السؤال، لم أفكِّر بأهلي للحظة واحدة وأنا أغادر ليون»، في باريس تسكن مع إحدى النساء اللاتي تعرفت من خلالهن على صديقتها في ليون.
حياة منغلقة
الفتاة الثانية هي أكثر الفتيات تشرُّدًا وضياعًا ولدت في أنيسي توفي والدها لكن علاقتها بأمها علاقة متوتِّرة منذ فارقتها وذهبتْ لتعيش في الحي عند لحّام غريب الأطوار أسبغ على أمها من صفاته الغريبة، ثمّ انتقلت لتعيش مع خالتها التي تعمل كخادمة فترة من الوقت في بيوت الأثرياء، تفتقد لحس الحياة العائلية. في مرحلة الدراسة في المدرسة الداخلية (مدرسة سانت آن) عاشت حياة منغلقة على ذاتها، وأيضًا على الجسد الذي لم يكن يُسمح له بالتعري وفق تقاليد الكنيسة، وكانت علاقتها بالعالم الخارجي منحصرة في جهاز راديو استعارته من خالتها تستمع إليه في أوقات محدّدة كما أنها كانت حريصة على إخفائه، عاشت عمرها بحثًا عن الحب الكبير دون أن تحظى «بمن يتمكّن مِن جعل قلبها يدق».
في باريس تنقلت بين أعمال مختلفة من عاملة في مقهى إلى جليسة لامرأة كبيرة تنزّه كلبها، كانت لديها رغبة عارمة في أن ترحل «أبعد إلى مكان لا يتكلمون فيه الفرنسية لأقطع الجسور نهائيًا».
أما الفتاة الثالثة فهي قادمة من لندن، غادرتها بعد صرفها من الخدمة في محل باركرز، عملت في مشغل حتى تلتقي مصادفة في المقهى بأستاذ الفلسفة الذي يكون هاديًا لها للخروج من شرنقة الوحدة التي عاشتها بعد قدومها إلى فرنسا، ومع الأسف لم يقضِ عليها تسكعها في حدائق بولونيا أو الذهاب إلى السينما.
أزمة هوية
المُثير في حكايات موديانو أنه بعد أن طَافَ بنا في عالم الضياع مع الفتيات الثلاث وسلّط الضوء على سبب هذه الأزمة التي لا تخرج جميعها عن أزمات هوية في المقام الأول بعد غياب الأسرة كما في نموذج الفتاة الأولى وغياب الأب وتأثرات الأم بالزوج غريب الأطوار والتربية الصارمة سواء مع الخالة أو في المدرسة الداخلية مع نموذج الفتاة الثانية، إلا أنه استطاع أن يقدم لنا الحل الأمثل عبر نموذج الفتاة الثالثة، الأكثر ضياعًا بعدم معرفتها للعائلة أساسًا عبر النموذج المعرفي الذي بدّل حياتها بعد معرفتها بأستاذ الفلسفة.
عبر صور وحكايات الشخصيات الفتيات الثلاث كان موديانو معنيًا بالبحث عن هويته هو وأماكنه هو في صورة الفتيات الثلاث، فافتقاد الأب ومطاردة الماضي والتشرد والانزواء والوحدة كلها عاني منها موديانو في حياته ومن ثمّ أراد أن يختبر شخصياته في ظل ظروفه التي عاش فيها، العجيب أنه اكتشف أن مصير الضياع هو الذي انتظر الفتيات، مع فارق بسيط في حالة الفتاة الثالثة التي تحوَّلت إلى قاتلة، أما عندما عثرت على النور في المعرفة كانت النجاة، وهو الدرس الذي يمرِّره بين ثنايا حكايته البسيطة.
________
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *