أوبرا وينفري



*بسمة النسور
لعل الأمر، كما نأمل بإخلاص، ليس أكثر من شائعة صادمة مثل التي تبثها وسائل إعلام مضللة بين حين وآخر، تستهدف النجوم، وتبحث عن إثارة وتهويل. ولكن، إذا صحّت الأخبار الحزينة المؤسفة عن تردّي صحة السيدة أوبرا وينفري، أو (الليدي كما يحلو لعشاقها مناداتها) وإصابتها بمرضٍ خطير لن يمهلها طويلاً، فإن هذا الكوكب، الحزين الغارق بالألم والظلم والقتل والغدر والعنف والخذلان والسواد والذبح المجاني والجوع والحرمان، على وشك تكبّد خسارة استثنائية كبرى لنموذج إنساني لا يحدث كثيراً، ذلك أنه خارق الجمال، بالغ الندرة، عز نظيره في الحياة، وكذلك بين المشتغلين في القطاع الإعلامي. امرأة مدهشة بأكثر من معيار، مجنونة قليلاً، بحيث تجر خلفها، مرة، على المسرح كيساً من الشحم، يمثل ما فقدته من وزن، لتعود وتعترف، بعد سنوات، أن ذلك كان عملاً طائشاً مبالغاً به. تميّزت، على الدوام، إعلامية موضوعية وشجاعة، بحيث تعترف بأخطائها، وتقدم اعتذارها، أولاً بأول، لمن شعر بالإساءة. حنون عصبية طيبة عفوية وذكية، على نحوٍ يمكن إدراكه من تتبع سيرتها الحافلة بالنجاحات المتتابعة والإنجازات الكبيرة.
والمثير أن كل ذلك النجاح والإقرار الكوني الذي حازته أوبرا لم يغيّر في شخصيتها شيئاً، ظلت امرأةً من حنان خالص، لا يشوبه غرور أو استعلاء. هكذا، يمكن تلخيص شخصيتها الثرية المتنوعة السخية الرحيمة، بحيث لا تملك إخفاء دموعها التي انهمرت مراراً، فأفسدت مكياجها، على الهواء مباشرة، إزاء عذابات البشر الكثيرة. وبغضّ النظر عن تهمٍ وجهت لها بالمبالغة في تصوير شقاءٍ اكتنف طفولتها، فإن هذه السيدة، التي تعد من أقوى نساء العالم، عانت من الشقاء والظلم والتمييز العرقي بما يكفي، مما دفعها إلى الإصرار والعناد على تغيير شروط حياتها. وشكّلت، فيما بعد، علامة فارقة في تاريخ الإعلام، وتمكّنت من تأسيس مذهب خاص، وصار لها أتباع في مهارات الحوار التلفزيوني في تقديم برنامجٍ حواري، يحمل اسمها، هو الأشهر والأكثر إشكالية في العالم، لما تتميز به كمحاورة واسعة الاطلاع والمعرفة، فائقة الذكاء، مفرطة الحساسية، من قدرةٍ عجيبة على التواصل مع الضيوف، وتجريدهم من كل وسائل الدفاع التقليدية التي يختبئون خلفها، بالعادة، ليعترفوا لها، مختارين بأدق أسرارهم وأكثرها حميمية، لتشاركهم، بكل رأفة وأناقة، لحظتهم الدامعة التي ستصبح، في اليوم التالي، أخباراً كبرى، تتداولها وسائل الإعلام في أرجاء الكرة الأرضية، ومن فرط حساسيتها الفنية، وذكائها المهني، أخذت قراراً شجاعاً بإنهاء البرنامج الشهير، بعد مرور 20 عاماً على ظهوره، وهو في عز الألق والشعبية. فعلت ذلك والبرنامج محافظ على صعوده، محققاً أعلى نسب مشاهدة، حرصاً منها على عدم التكرار، وسعياً منها إلى اجتراح ما هو جديد.
ولعل أكثر ما يثير الإعجاب في شخصية أوبرا القوية المؤثرة في الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في بلدها أميركا، تصالحها مع نقاط ضعفها، والإعلان عنها بلا حرج، والبوح، بكل شفافية، عن أكثر أفكارها تطرفاً، مثل معتقدها الديني، وعلاقتها بالرجل، وموقفها الرافض، من حيث المبدأ، فكرة الزواج. وكذلك التعبير عن مأزقها الأزلي في الصراع مع وزنها، واعترافها، أخيراً، بالفشل في تحقيق هدفها في الوصول إلى مقاييس جسد مختلفة. وقد أنفقت من جيبها الخاص، بكل سخاء، أموالاً طائلة لإقامة مشاريع خيرية وإنسانية، من شأنها انتشال ملايين البؤساء من واقع إنساني مجحف، فنجحت منفردةً فيما عجزت عنه دول وأنظمة ومؤسسات، وتمكنت من تغيير مصائر وحيوات أشخاص، سيظلون مدينين لرأفة قلبها وحسّها العالي المرهف بالعدالة. من هنا، ليس لدينا، في هذه اللحظة، سوى التعبير عن الامتنان لكل ما قدمت يداها، والدعاء والأمل بأن يطيل الله عمرها، ويخفّف أوجاعها، السيدة الجليلة، الأيقونة السوداء التي تبث البياض، حيثما حلت.
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *