*يحيى القيسي
هذا كتاب مخاتل في التجنيس الأدبي، ومدهش في صوره ولغته، أسمته كاتبته “إن غابت السدرة وإن ابتعد البحر” فإن قلنا إنه شعر يستند إلى حجارة السرد، أصبنا، وإن قلنا إنه قصص تحلق بأجنحة الشعر، كنا من الراشدين، اكتشفت الاحتفال بتوقيعه بالصدفة المحضة، والفضل يعود إلى “الفيس بوك” كما يبدو، وإلى معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورة العام الماضي، إذ كانت المصافحة الأولى لي مع نصوصه، وأعترف بأنه جذبني إلى شراك لغته الرائقة، وسرده السلس اللذيذ كماء رائق في صيف حارق .
أما صاحبته فهي إيمان محمد من الإمارات، تجمع بين الصحافة والأدب كما يبدو، تقول الكتابة التعريفية لها في مقدمة الكتاب الذي صدر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات “إنها عملت في مجلات كثيرة وأيضا وكالة الصحافة الفرنسية، وتتميز بتناولها العميق للقضايا الثقافية والظواهر الاجتماعية المتغيرة” .
لست في مقالة مبتسرة هنا براغب بالتورط النقدي للنصوص، ولست من أهل هذا التوجه أيضاً، يكفي التفاعل معها قليلاً بكثير من المحبة، وأترك للنقاد الغوص عميقاً فيما تبقى من التقنيات والموضوعات وطرق المعالجة وما إلى ذلك من التشريح الزائف الذي لا يقدم أو يؤخر شيئاً في النصوص المنجزة أساساً، فإن مرّ القارئ على العناوين سيجد أنها منتقاة بعناية فائقة، ليست تقليدية بل فيها رغم قلة كلماتها شعرية مخزونة، لاحظوا معي “قبلة على جبين المطر” أربع كلمات تحتشد فيها صور سريالية مشحونة بطاقة شعرية، “يجدل حبل الود”، نافذة الغيمة، طفلة الغمام، وغيرها، لكن المطر مفردة تكررت كثيراً في مواضع مختلفة عبر النصوص، ربما هي الرغبة بالمطر الذي يفيض بالأعماق أولاً، قبل أن تحتفي به الأمكنة ويغسلها من صيف طويل، أما الأمر الآخر فهو حضور “الأب” بكل الدفء، منذ الإهداء الأول إليه، مرورا بنصوص الكتاب، ربما لأنه مفرط بالمحبة .
ثمة بوح عن تبدلات الأمكنة، عن دفء العائلة، عن الماضي الذي ذهب بعيداً، عن التمر والبسر والنخيل ومفردات الوطن، عن “سرفانتس” المهزوم في معركة ليس فيها عدو غيره، ثمة استفادة واضحة وتوظيف موفق للنص القرآني، يدل على ثقافة مختزنة في أعماق الكاتبة لهذا النص الإلهي دائم الإدهاش في لغته ودلالاته .
ثمة حضور لدبي وأبوظبي وغزة أيضاً، وغياب لتعيين بقية الأمكنة، فهي نصوص إنسانية الطابع مفتوحة على ارتحالات أنثى تكتب ذاتها بين اللغة والمكان وتقلبات الزمان، وثمة خيال جامح، يستدعي الإنسان كي يسبح بالفضاء، مثلما تسبح السمكة في الماء، وحينها، لا بد أن يكون مثل جناح يمامة برية في سمائها:
أصير مثلها تماما
ولا أخشى السقوط
ولا التعثر
مثل قطرة ندى
تتكون خفية
بعيدا عن العالم
ومنفصلة عنه
تنقل إيمان محمد في بداية نصوصها مقولة للشاعر الصيني وو كياو “رسالة الكاتب مثل الأرز، عندما تكتب نثرا، فإنك تطبخ الأرز، وعندما تكتب الشعر، فإنك تحول الأرز إلى نبيذ” . . . . حسنا، هل قدمت لنا في كتابها هذا إذن الكثير من الرز المطبوخ جيداً بحيث غدا نبيذاً يقود القارئ بلا شك إلى شيء من التحليق في زمن الارتطام الموجع بالواقع الصلد؟
________
*الخليج الثقافي/ روائي أردني ورئيس تحرير ( ثقافات )